التعليم (1)
د. أبوبكر الصديق على أحمد مهدي
يهتم فلاسفة التعليم بتحليل وتوضيح المفاهيم والأسئلة المحورية في التعليم. وقبل ظهور فلاسفة التعليم المحترفين والمتخصصين بوقت ليس بالقصير، ناقش الفلاسفة وأيضاً المربون أسئلة معروفة ومألوفة لدى فلاسفة التعليم المعاصرين وهي.. ما هي أهداف أو ما هي أغراض التعليم؟ ومن ينبغي تعليمه؟ وهل يتباين التعليم بتباين الاهتمامات وباختلاف القدرات الطبيعية؟ وما الدور الذي يجب أن تلعبه الدولة في التعليم وفي العملية التعليمية؟
كل هذه الأسئلة لا تزال تُطرح حتى اليوم وباستمرار متواصل. وكونها لا تزال رائجة فهي بذلك تعمل على تثبيط همة وهمم الكثير من طلاب التعليم. اذن، لماذا ندرس أسئلةً لا تغادر مكانها، وهي دائماً محلك سر؟ إذا لم نستطع الإجابة عن أسئلة معينة ومحددة، أذن، لماذا نطرحها ولماذا نتناولها؟
أحد الإجابات عن هذه الاعتراضات، وهي اعتراضات منطقية، هو أن على كل مجتمع، أي نعم كل مجتمع، عليه أن يُجيب عنها بنفسه، فهي مسئوليته المباشرة، ليس مرةً واحدةً وإلى الأبد، ولكن بأفضل ما يمكن وبضميرٍ حيّ مستيقظ، لما فيه مصلحة شعبه ولما فيه مستقبل الأرض، في كل عصر وفي كل عهد.
وقد أثارت هذه الأسئلة استجاباتٍ جيدة ومُثلى وأخرى سيئة وأسوأ من سيئة، ويواصل المفكرون ويستمرون في دراسة الاستجابات القديمة، في سبيل استنباط استجاباتٍ جديدةٍ تُحفزها الظروف المتغيرة، والتفكير في الاستجابات الحالية سعياً إلى جعل التعليم أحسن وجعله أفضل ما يمكن أن يكون.
الأسئلة في فلسفة التعليم هي في المقام الأول أسئلة حول التعليم. ويعمل ويسأل معظم فلاسفة التعليم في المدارس وفي أقسام التعليم المتعددة والمختلفة، وتتسم طبيعة أسئلتهم بأنها فلسفية لأنها تتطلب مناهج فلسفية في بحثها وفي دراستها.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، لا يمكننا تحديد أهداف التعليم بشكل كامل بالطرق التجريبية (مناهج التجربة والملاحظة). بل علينا أن نناقش وعلينا أن نجادل انطلاقاً من مقدمات رئيسية أو أساسية معينة ومحددة أو بافتراض آثار محتملة لخياراتنا واختياراتنا.
إذا اخترنا النهج الأخير، فيمكننا اللجوء إلى مناهج تجريبية لإثبات أن خياراتنا تؤدي بالفعل إلى النتائج المتوقعة، لكننا لا نزال بحاجة إلى نقاش فلسفي لإقناع الآخرين بأهمية النتائج التي نسعى إليها.
ومن الأسئلة الدائمة في فلسفة التعليم هي مسألة، من ينبغي أو من يجب أن يتم تعليمه وكيف يتم تعليمه؟ وكما سنرى، لقد أثار هذا السؤال اهتمام أفلاطون (Plato) بشدة وبعمق عميق. وقد بدأ نقاشه في هذه المسألة من خلال تحليل احتياجات المجتمع وتنوع المواهب البشرية الموجودة فيه. ومن مجموعة مُحكمة من المقدمات حول طبيعة المجتمعات الواقعية وتلك الطوباوية وأيضاً طبيعة البشر، استطاع هو أن يستنبط توصياته للتعليم. وفي المقابل، قدّم لنا جون ديوي (John Dewey) توصياته بالتساؤل عن العواقب المحتملة وتلك المتوقعة لاختياراتنا.
يُجيب مجتمعنا الحالي عن سؤال له أهميته، وهو يتعلق بمن يستحق التعليم والتعلم؟ بإجماع شبه كامل. ويدور جدلنا الكبير حول كيفية تعليم كل طفل، والجدل اليوم محتدم غاية الاحتدام وساخن جداً وفي أعلي درجات السخونة. حيث يُصرّ ويلح الكثير من المُعلّمين على ضرورة وعلى أهمية حصول جميع الأطفال وكلهم على نفس التعليم الي ان يبلغوا الصف الثاني عشر على الأقل وعلى أقل تقدير. بينما يُجادل آخرون، وكثير منهم من أتباع مدرسة جون ديوي، بضرورة أن يتم تصميم التعليم بما يُناسب اهتمامات واحتياجات كل طفل قدر الإمكان وقدر المستطاع.
أحياناً، تُطرح أسئلة ذات أهمية فلسفية في الزمن المعاصر. ورغم أن هذه الأسئلة ليست، بطبيعتها، أسئلةً دائمة، إلا أنها عادةً ما تتجذر في قضايا تتجاوز العهد المعاصر، ويمكن للتحليل الفلسفي الدقيق أن يُسهم في النقاش وفي الحوار السياسي الدائر.
لنأخذ، مثالاً على ذلك، مسألة اختيار المدرسة الشائعة حالياً.. هل ينبغي على الجمهور التصويت على نظام اختيار أو على قسائم تعليمية وتطبيقها؟ هل ينبغي منح الآباء قسائم بقيمة محددة، لنقل 5000 دولار، من أجل استخدامها في دفع رسوم تعليم أطفالهم في المدرسة التي يختارونها؟ لا شك أن هذا السؤال ينبع من الأسئلة الدائمة حول ما إذا كان ينبغي لجميع الأطفال تلقي التعليم نفسه وبدون اختلاف ولا اختلافات، وما إذا كان ينبغي للآباء أن يكون لهم بعض التحكم في تعليم أطفالهم (بأي قدر؟)، وما إذا كان ينبغي أن يقتصر حق التحكم في التعليم على من يستطيعون تحمل تكاليف التعليم الذي يرغبون فيه.
يمكننا أن نرى كيف يمكن للتحليل الفلسفي أن يكون مفيداً في تحديد القضايا الأساسية وفي توضيحها. قد نتمكن من خلال الاختبار التجريبي من تحديد ما إذا كان الآباء الذين يستفيدون من هكذا فرص أكثر رضاً مما كانوا عليه من دون قسائم تعليمية. بل قد نتمكن من الحكم على ما إذا كانت المدارس التي تضم عدداً كبيراً من طلاب القسائم التعليمية الراضين، تُحقق أداءً أفضل في معايير محددة مقارنةً، بما كانت عليه قبل اعتمادها.
ولكن كيف يُمكننا تحديد ما إذا كانت النتائج الأفضل المحتملة لطلاب القسائم التعليمية تُعوّض الحرمان المُحتمل للطلاب الذين يبقون في مدارس هجرها أقرانهم من عائلات أكثر منهم وعياً وثراءً؟ إذا أدت القسائم التعليمية إلى شكل من أشكال البلقنة الثقافية -حيث تسود كل طائفة وكل ثقافة فرعية في مجتمعها المدرسي- فهل هذه النتيجة مرغوبة أم غير مرغوبة؟ لاحظ أن طريقة صياغتي لأسئلتي تُشير بقوة إلى أنني لا أُؤيد نظام القسائم التعليمية.
وإحدى مهام فلسفة التعليم هي تحليل اللغة المُستخدمة أو المستعملة في الحجج وفي تقديم لغة بديلة تُلفت الانتباه والأنظار إلى وجهات نظر والي إمكانيات أخرى. إذا كنت تؤيد نظام القسائم، اذن، يمكنك محاولة صياغة أسئلة تكشف عن الجانب الأحادي لأسئلتي.
هذه هي أشكال وهذه هي أنواع الأسئلة التي تثير اهتمام فلاسفة التعليم. بعضها، أي بعض هذه الأسئلة، موجود منذ زمان الفيلسوف سقراط (Socrates)، والبعض الآخر كان عبارة عن نتاج عصرنا وثقافتنا. ومع ذلك، تتطلب جميعها تفكيراً عميقاً وتفكيراً دقيقاً، وخيالاً مبدعاً، وتفكّراً موضوعياً، وقدرة كبيرة على الصبر وعلى المثابرة في طرح الأسئلة وفي ايجاد الإجابات بطرق متنوعة غايتها تسليط الضوء والأضواء على مشكلة بالغة الأهمية. وبينما نحن نستكشف بعض الأمثلة التاريخية، علينا أن نسأل أنفسنا، كيف تتغير الأسئلة الدائمة بتغير الإطار أو السياق الذي تُطرح فيه، وكيف تتلاشى الأسئلة القديمة تاركةً أسئلةً مماثلةً كإرث لها، وكيف تتولد أسئلة جديدة من إجابات الأسئلة القديمة.
سقراط وأفلاطون (Socrates and Plato)
ما نعرفه عن سقراط -Socrates- (469-399 ق.م) عبارة عما نستخلصه ونستمده بالكامل من كتابات تلاميذه، وعلى رأسهم تلميذه الفيلسوف أفلاطون (Plato).
كان سقراط نفسه يُعلّم أو يقوم بالعملية التعليمية من خلال الحوار والحوار فقط، وليس من خلال الكتابة، ويربط معظم طلاب التعليم اسمه فوراً “بالمنهج السقراطي” أي المنهج الحواري.
يبدأ هذا المنهج في التدريس، الشائع، لا سيما في كليات الحقوق، بطرح المعلم سؤالاً بسيطاً وخادعاً، مثل: ما هي الحقيقة؟ أو ما معنى العدل؟ عندما يُجيب الطالب، يُجيب المعلم بسؤال آخر يدفعه ويحثه على التفكير بعمق أكبر وبتقديم إجابة جديدة أعمق. وتستمر هذه العملية – التي تُسمى أيضاً الاستجواب المُدمر (إلينخوس) – الي أن يشعر المعلم أو الطالب أو كليهما، بأن التحليل قد وصل إلى أقصى حدٍّ يُمكنهما الوصول إليه في تلك الساعة أو في تلك اللحظة.
وفي هذا الحوار، وهو المأخوذ من كتاب الجمهورية، الكتاب الأول، ينجح سقراط في اقناع بوليمارخوس (Polemarchus) بأن موقفه السابق بشأن العدالة -وهو أنه يجب علينا أن نُحسن إلى العادلين وأن نُسيء إلى الظالمين- خاطئ. ولذلك يبدأ سقراط في طرح حججه قائلاً…
وبدلاً من أن نقول ببساطة، كما فعلنا في البداية، إنه من العدل أن نُحسن إلى أصدقائنا وأن نُسيء إلى أعدائنا، علينا أن نقول أيضاً…
هل من العدل أن نُحسن إلى أصدقائنا إذا كانوا خيرين، وأن نُسيء إلى أعدائنا إذا كانوا أشراراً؟
أجل، يبدو لي هذا صحيحاً.
ولكن هل يجب على العادل أن يُؤذي أحداً على الإطلاق؟
بلا شك، يجب عليه أن يُؤذي الأشرار وأعدائه على حد سواء.
عندما تُصاب الخيول، هل تُحسن أم تُسيء؟
الأخير.
هل تدهورت، أي، في صفات الخيول، لا في صفات الكلاب؟
نعم، في صفات الخيول.
وهل تدهورت الكلاب في صفات الكلاب، لا في صفات الخيول؟
بالتأكيد.
ألا يتدهور الرجال، الذين أصيبوا بأذى، فيما هو فضيلة الإنسان؟
بالتأكيد.
وأن الفضيلة الإنسانية هي العدل؟
بالتأكيد.
إذن، هل يُجبر المتضررون، بالضرورة، على الظلم؟
هذه هي النتيجة.
ولكن هل يستطيع الموسيقي بفنه أن يجعل الناس غير موسيقيين؟
بالتأكيد لا.
أم أن الفارس بفنه يجعلهم فرساناً سيئين؟
مستحيل.
وهل يستطيع العادل بالعدل أن يجعل الناس ظالمين، أو، بشكل عام، هل يستطيع الخير بالفضيلة أن يجعلهم أشراراً؟
بالتأكيد لا.
وهل تستطيع الحرارة الشديدة أن تُنتج البرد؟
لا تستطيع.
أو الجفاف أن يُنتج الرطوبة؟
بالتأكيد لا.
ولا يستطيع الخير أن يُؤذي أحداً؟
مستحيل.
والعادل هو خير؟
بالتأكيد.
إذن، إيذاء صديق أو أي شخص آخر ليس من تصرفات العادل، بل على العكس، فمن هو الظالم؟
أعتقد أن ما تقوله صحيح تماماً يا سقراط.
هذا الحوار القصير يُميّز سقراط وبه تفرد سقراط ايما تفرد. فهو يُسيطر على الحوار ويقود المستمع الي حيث يريد والي أين يرغب. وأحياناً، كما في جزء لاحق من حواره مع ثراسيماخوس (Thrasymachus)، يسمح لشريكه بتقديم وبطرح حجته، ونادراً جداً جداً (كما في حواره مع ثراسيماخوس أيضاً) أن يفشل في إقناع شريكه أو محاوره تماماً. وفي أغلب الحوارات، يكون سقراط مُعلّماً بارعاً – يُوجّه، وهو يُسائل، ويُقدّم المعلومات (غالباً في شكل سؤال)، ويفرض على أو يُجبر مستمعيه، بلطفٍ أو بحذر ناعم، على إدراك أخطاء تفكيرهم.
لا شك أن الكثير منكم على علم وعلى دراية بمسلسل تلفزيوني عتيق (وفيلم سابق) بعنوان “مطاردة الورق”. في هذا المسلسل، أرعب البروفيسور كينغسفيلد (Kingsfield) اللامع، والمتميز بأنه سريع الغضب، طلابه في القانون باستعماله الماهر للمنهج السقراطي (الحواري).
لقد كانا، كينغسفيلد وسقراط، يشتركان في الكثير من الخصال وفي العديد من الصفات.. ذكاء فائق، وذكاء ثاقب، واستعداد لاستخدام السخرية بين الحين وبين الحين الآخر، ومهارة لا تلين ولا تنكسر في اختيار وفي تتبع الأسئلة ذات الأهمية وتلك الضرورية جداً.
لكن كان هناك فرق بين الاثنين وهو أن كينغسفيلد كان يتمتع بسلطة رسمية على طلابه. وكانت إجاباتهم تُقيّم، وكان عدم الاستعداد لأسئلة أستاذهم قد يؤدي بهم إلى الرسوب والي عدم النجاح في كلية الحقوق والحاجة إلى التفكير في مهنة أخرى بعيداً عن هذا الحقل.
على النقيض من ذلك، كان سقراط يقابل ويلتقي طلابه بصورة غير رسمية، حيث لا رسميات، حيث لا برتوكولات، ويلتقيهم في أماكن عامة ويجتمع معهم في منازل خاصة مختلفة ومتعددة. وكان المشاركين يمتلكون امكانية الحضور ولهم حق المغادرة كما يحلو لهم ومتما أرادوا وكانت لهم الرغبة في ذلك، ولهم الإجابة ان أرادوا أو عدم الإجابة عن أسئلة سقراط الاستقصائية، فهم أحراراً جداً. في الواقع، أصرّ سقراط دائماً على أنه لا يُعلّم أحداً أي شيء، وبالتأكيد لم يكن مُعلّماً محترفاً، لأنه لم يُطالب “طلابه” بأي شيء.
وبصفتكم معلمين محترفين -أو بصفتكم طلاباً على وشك أن تصبحوا معلمين محترفين- عليكم أن تسألوا أنفسكم عما إذا كان من الممكن استخدام المنهج السقراطي في الفصول الدراسية الحديثة كما استخدمه سقراط بالضبط. بل لعلكم ترغبون ولكم الرغبة في التفكير فيما إذا كان سقراط نفسه قد استخدمه أو قد استعمله دائماً بالطرق التي ترونها مناسبة وملائمة.
هل أبدى هو احتراماً حقيقياً لكرامة طلابه ولكينوناتهم؟ هل كان يفرض آراءه عليهم أحياناً (أو يبدو أنه يفعل ذلك)؟ هل من الصواب (بأي معنى من معاني “الصواب”؟) استجواب الطالب بلا رفق وبلا هوادة أمام رفقائه وفي حضور زملائه؟ هل يمكنكم وعندكم استطاعة التفكير في طرق لتكييف المنهج بحيث يتوافق مع معاييركم الأخلاقية؟ وأخيراً، إذا كنتم تطمحون لأن تصبحوا معلمين سقراطيين، فماذا يجب عليكم فعله لإعداد أنفسكم؟
نحن، مثل سقراط ذات نفسه، قد ننظر إلى منهجه، أي منهج سقراط (المنهج السقراطي)، كمنهج للتعلم أو الاستقصاء أكثر منه للتدريس. لقد كان سقراط مفكراً بارعاً لا شك في ذلك، هل لديكم في ذلك أي شك؟ ولم يكن من غير المألوف أن يبدأ سقراط بحثه بسؤال، ثم ينتقل بعد بحث وجيز ودراسة إلى سؤال آخر، إما لأنه تأكد من أهمية الإجابة عن السؤال الثاني من أجل تحليل السؤال الأول، أو لأن السؤال الأول لم يكن مُصاغاً بشكل مثالي أو بصورة جيدة للبحث الذي كان يأمل في إكماله.
لم يُطبّق سقراط منهجه على مسائل تافهة وقضايا غير ضرورية، بل اهتمّ بأسئلة الحياة الكبرى، كالأسئلة التالية.. كيف نجد الحقيقة؟ ما معنى معرفة شيء ما؟ كيف ينبغي للبشر أن يعيشوا حياتهم؟ ما هو الشر؟ ما الذي ندين به للدولة، وما الذي تدين به لنا؟ ما معنى أن نكون عادلين؟ هنا، يجدر بنا العودة، للحظة أو لقطعة من لحظة، إلى مضمون والي محتوي حوار سقراط مع بوليمارخوس (Polemarchus).
لاحظ أن سقراط يُجادل بأن الانسان العادل لا يمكنه ولا يستطيع، من خلال تصرفه العادل، أن يُظلم الآخرين. وأنه إذا جادلنا بأن الأذى أو الإصابة ينحازان أو يميلان إلى “تدهور الإنسان” بحيث يصبح ظالماً غير عادل، فيجب على الفرد العادل ألا يُلحق الأذى حتى بالناس الأشرار.
يثير هذا الحوار مجموعة كبيرة من الأسئلة التي نُوقشت وتم الجدال حولها لقرون ولقرون وقرون.. هل يمكن الدفاع عن العدالة الجزائية؟ كيف يُعرّف الأذى أو تُعرف الإصابة؟ (هل يُلحق العقاب الأذى بالطفل المذنب؟) هل كان سقراط مُحقاً وعلى حق عندما ادّعى أنه لا يمكن جعل الناس ظالمين بالأفعال العادلة؟
بينما كان سقراط يستكشف ويعرف هذه الأسئلة التي أثارت اهتمامه ولفتت نظره وانتباهه، نجده قد اندفع إلى انتقاد، من في الحياة العامة والخاصة كذلك، ممن يكشف تفكيرهم وسلوكهم عن جهل أو عن نوايا شريرة ظاهرية. وكانت رسالته للطلاب وللسياسيين غالباً على النحو التالي.. يُظهر تحليلنا أن هذا هو ما تفعلونه حقاً أو ما تسعون إليه. تأملوا جيداً! فإذا اتبعتم التحليل وفهمتموه وهضمتموه، ستغيرون سلوككم لا محالة. من يعرف الصواب، سيفعل الصواب.
لم يقتصر اهتمام سقراط على المشكلات الاجتماعية/السياسية واكتفي بذلك، ولكنه اهتم أيضاً بالقضايا التي تطلب وتتطلب معرفة الذات، معرفة النفس. ولا تزال مقولته الشهيرة ساطعة بشدة في الآفاق “اعرف نفسك”، وهي محلّ إعجاب معظم المعلمين وغالبية المثقفين.
وكما سنرى في نقاشنا اللاحق وليس السابق حول التفكير النقدي، فإن تسليط ضوء التحليل النقدي على أنفسنا وذواتنا وأساليب حياتنا أصعب بكثير من تسليطه على الناس الآخرين. يرفض البعض من بني البشر في حاضرنا هذا التأمل السقراطي في المدارس باعتباره “علاجاً”، لكن سقراط أصرّ وسقراط ألح (وكان محقاً في رأيي) على أن معرفة الذات، معرفة نفسك، هي أساس كل معرفة. فهي تُرافق وتُثري دراستنا النقدية للمجتمع ككل.
سُمح لسقراط بالانخراط في نقد الدولة وفي نقد مواطنيها البارزين لفترة ليست بالقصيرة، ولكن في نهاية المطاف، وفي فترة اضطراب سياسي كبير، اتُهم بعدم الإيمان بآلهة الدولة وبإفساد شباب أثينا العظيمة. وكما تعلمون جميعاً، ورغم دفاعه الأنيق (والمغرور بعض الشيء في بعض الأحيان)، أُدين سقراط الفيلسوف وحُكم عليه بالإعدام، وتم اعدامه، يا للخسارة!
في فلسفة التعليم، نستطيع، إن جاز التعبير، أن نقضي أسابيع، وممكن أكثر، في دراسة حالة سقراط، وما تُشير إليه من آثار على التعليم المعاصر. ولو كنتَ ستتبع سقراط، لَتَعَيَّن عليكَ بالتأكيد مناقشة مسائل حساسة للغاية مع طلابك. هل سيُسمح لكَ بذلك؟ هل يحق للمنطقة التعليمية أو للولاية أن تمنعك من مناقشة مواضيع وقضايا مُعينة؟ أو حاول أن تفكِّر في التهمة التي وجهت لسقراط، بأنه لم يُؤمن بآلهة الدولة الاغريقية.
هل سنسمع اليوم اتهامات مُماثلة ومشابه تُوجَّه إلى شخصيات عامة مُختلفة؟ لحسن الحظ، بأن في الولايات المتحدة، لا يتم ادانة المُرشَّحين السياسيين أو تلك الشخصيات العامة الأخرى بالإعدام لمعتقداتهم الدينية الضالة، ولا يتجرأ أحد بإعدام المُعلِّمين والمدرسين لمناقشتهم قضايا مثل الخلق أو التطور أو الجنس أو الشيوعية. لكن لا يزال الناس يفقدون مناصبهم ويفقدون وظائفهم، وأحياناً حتى سمعتهم الطيبة يفقدونها، في معركة خاضها سقراط منذ زمان بعيد سحيق -في قضية مات من أجلها وأعُدم بسببها.
…….. نواصل
bakoor501@yahoo.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم