طاهر عمر
taheromer86@yahoo.com
من السهولة ملاحظة تطور الفكر الأوروبي بشكل واضح خلال الخمسة قرون الأخيرة منذ ظهور الإصلاح الديني الى أن تجلت فكرة النزعة الإنسانية. مارتن لوثر في الإصلاح الديني تتجلى لحظة تحطيمه للعقل الجمعي الكاسد و بوعيه قد أدرك بأن لحظة تجاوز أفكار العالم القديم قد حانت. ما قدمه مارتن لوثر جعله أن يكون شخصية تاريخية تخطت العقل الجمعي الكاسد و هو طامح لعالم جديد و هذا هو دور الشخصية التاريخية التي تتجاوز الايمان التقليدي و تتخطى التبجيل و التقديس الذي يرزح تحت نيره أتباع الايمان التقليدي.
جاءت مدرسة الحوليات الفرنسية و قدمت أفكارها فيما يتعلق بتاريخ الذهنيات و رأت في فكر مارتن لوثر قمة دالة أفكار الشخصيات التاريخية حيث تخطى حاجز العقل الجمعي الكاسد و تخطى تخطيطات و نماذج العالم القديم و قدم تخطيطات و نماذج لعالم جديد و لحسن حظ مارتن لوثر تصادفت حقبته و أفكاره بأن هناك طبقة من المثقفين و كأنهم كانوا في إنتظار أفكاره على أحر من الجمر و ساروا بها و قد أصبح الدهر منشدا.
المضحك المبكي في العالم العربي الإسلامي التقليدي هناك كثر من المفكريين قدموا أفكارهم و مشاريعهم النقدية التي قد حاولت تجاوز كساد العقل الجمعي العربي التقليدي مثلما فعلها مارتن لوثر إلا أنها في العالم العربي لم تصادف طبقة صاعدة تريد تجاوز كساد العقل الجمعي كما تصادفت مع مارتن لوثر و قد تخطت تاريخ الخوف و عقل القرون الوسطى الذي لا يشغل ضمير الإنسان فيه غير فكرة الخلاص الأخروي.
بالمناسبة غياب أفكار ترسخ لشرح أفكار تاريخ الذهنيات و كيف تصل المجتمعات الى لحظات إنقلاب زمان عندما يصبح العقل الجمعي كاسد و معطوب و لا يمكن أن يجر العالم القديم و بالتالي تحتاج المجتمعات لشخصية تاريخية تجيد تفعيل مفهوم القطيعة مع العالم القديم و تراثه و تفارق مكامن التقديس و التبجيل فيه و تفارق الايمان التقليدي و تنتصر للحياة و للإنسان.
غياب مثل هذه الأفكار تجعل مجتمعنا السوداني الراهن يسلك سلوك مجتمعات القرون الوسطى التي لا تعترف بفكرة المساواة و إذا أردت أن تتأكد من ذلك فانظر لتاريخ الحركة الإسلامية السودانية و ممارستها لشهوة السلطة و سطوة الإستبداد فمن خلف ممارسة الكيزان للإستبداد يتجلى لك كساد العقل الجمعي السوداني الذي يحتاج لقطيعة مع التراث الديني التقليدي و ليس لمصالحة مع الحداثة و الأصالة كما يتوهم كثر من النخب السودانية.
غياب الشخصية التاريخية تجعل المجتمع أسير تفاعل عقله الجمعي الكاسد و هذا العقل الجمعي الكاسد لكي يأبّد فكره بدلا من أن ينتج شخصية تاريخة تكسر الحلقات الشريرة و تشب عن طوقها يدفع لنا بأنصاف المثقفين و لا يتحرجون من طرح فكرهم الترقيعي في توفيقه الكاذب و يروجون لفكرة المصالحة بين الحداثة و الأصالة كأنصاف حلول و ما أكثرهم في ساحتنا السودانية.
و للتوضيح مدرسة الحوليات في دراستها لتاريخ الذهنيات و دراستها لتاريخ الخوف تقدم فكر إنعتاقي و ليس فكر يدعو للمصالحة بين الحداثة و الأصالة و بالمناسبة ساحتنا السودانية تفتقر لفكر إنعتاقي يدعو للإنعتاق من عوالم العالم القديم و يدخل الى رحاب العالم الجديد.
الفكر الإنعتاقي الذي قدمته مدرسة الحوليات الفرنسية يفارق فكر المنهجية التاريخية التي يرتكز عليها المؤرخ التقليدي السوداني لذلك لا يتحرّج أغلب المؤرخيين التقليديين السودانيين في تقديم أطروحات عن صحيح الدين و عن الطرق الصوفية في السودان و لهذا السبب تجد أغلب النخب السودانية تتحدث عن المصالحة بين الحداثة و الأصالة و الصوفية و السبحة و أوهام ناتجة من الخوف المرضي و فكرة الخلاص الأخروي.
لذلك يمكننا القول أن مدرسة الحوليات في تقديمها لتاريخ الذهنيات و تاريخ الخوف تقدم مفهوم الدولة الحديثة التي تجاوزت كل أشكال نظم العالم القديم من شخصيات كاريزمية و نظم شمولية كالشيوعية و نظم عسكرية و الملكيات التقليدية و الدولة الدينية و بالتالي يفتح لنا تاريخ الذهنيات الذي قدمته مدرسة الحوليات فرصة تجاوز أوهام أفكار من يدعو للمصالحة بين الحداثة و الأصالة و الصوفية و السبحة و غيرها من أفكار تاريخ الخوف المرضي.
و بالمناسبة من قبل عقد من الزمن تحدثت عن مدرسة الحوليات الفرنسية و من من المفكريين العرب قد تأثر بها؟ و ذكرت بأن أكثر من تأثر بها و ظهرت في أفكاره هما كل من محمد أركون و عالم الإجتماع الفلسطيني هشام شرابي ففي فكر هشام شرابي تظهر أفكار مدرسة الحوليات في أنه قد جاء بماركس في الأغلال و ليس ماركس طليقا كما نجده عند الشيوعيين السودانيين.
أما محمد أركون فقد إستفاد من أفكار مدرسة الحوليات في تقديمها لتاريخ الذهنيات و تاريخ الخوف و دراستها لظاهرة المجتمع البشري و ما ترتب عنها من نزعة إنسانية نتاج دراستهم للتاريخ الإجتماعي و التاريخ الإقتصادي على المدى الطويل و المدى المتوسط و المدى القصير و في مدرسة الحوليات تصير دراسة التاريخ على المدى الطويل علم إجتماع و هذا هو البعد الذي لم ينتبه له المؤرخ التقليدي السوداني.
مدرسة الحوليات في دراستها للتاريخ الإقتصادي و أدب النظريات الإقتصادية تنطلق و تشترك مع أفكار ماكس فيبر السابق على قيام مدرسة الحوليات في أن العقلانية هي من نتاج أدب النظريات الإقتصادية و تاريخ الفكر الإقتصادي و أن نمط الإنتاج الرأسمالي هو من يحقق معادلة الحرية و العدالة و يدلنا على عقلانية الرأسمالية و هذا هو البعد الذي لا يمكنك أن تصادفه في كتابات المؤرخيين السودانيين التقليديين في حديثهم عن الطرق الصوفية و حديثهم عن صحيح الدين و قد مهدوا الطريق لبقية النخب السودانية بأن تتحدث بلا حرج عن المصالحة بين الحداثة و الأصالة و الصوفية و السبحة و الحداثة هيهات.
أما محمد أركون فقد تحدث عن الإسلاميات التطبيقية بدلا عن الإسلاميات الكلاسيكية و في الإسلاميات التطبيقية لمحمد أركون لاتجد أثر للمصالحة بين الحداثة و الأصالة و لا صوفية و سبحة مع الحداثة بل يدعو لنزعة إنسانية تفارق الايمان التقليدي و تفارق التقديس و التبجيل الذي يجعل النخب السودانية تحاول أن تعيشه في المصالحة بين الحداثة و الأصالة و السبحة و الصوفية و الحداثة بعقل الحيرة و الإستحالة و الخوف المرضي.
أما بالنسبة لهشام شرابي فأنه في حديثه عن الأبوية المستحدثة و أثرها في عقل النخب التقليدية التي تدعو للمصالحة بين الحداثة و الأصالة نجد هشام شرابي يقول أن الفكر الديني التقليدي أكبر حاضنة لإنتاج عقل الطاعة و الذاكرة المحروسة بالوصاية و ممنوعة من التفكير لذلك تجدهم أي أبناء عقل نسق الطاعة لا يستطيعون مواجهة أي تحدي و التغلب عليه و هذا ما يجعل النخب السودانية تنادي بالمصالحة بين الحداثة و الأصالة بدلا من التغلب على تحدي الفكر الديني و الخروج من وحله و كذلك الخروج من نسق الطاعة.
و هنا نسأل القارئ هل لاحظت الفرق بين فكر كل من محمد أركون و هشام شرابي المتأثرين بفكر مدرسة الحوليات و فكر النخب السودانية فكر نسق الطاعة فكر أبناء الذكرة المحروسة بالوصاية و ممنوعة من التفكير؟ هشام شرابي و محمد أركون فكرهما فكر إنعتاقي فكر نزعة إنسانية بعيدة عن المصالحة بين الحداثة و الأصالة كما يدعي أبناء نسق الطاعة في ساحتنا السودانية المحروسة بالوصاية و ممنوعة من التفكير كما يقول الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني.
أبعدت مدرسة الحوليات الوثيقة المقدسة التي كان يمجدها المؤرخ التقليدي و العسكر و الدبلوماسيين و أدخلت دراسة التاريخ الإجتماعي و التاريخ الإقتصادي و بالتالي تعتبر جهود محمد ابراهيم أبو سليم جهود مؤرخ تقليدي في تحقيقه للوثائق المقدسة التي تركها المهدي و ما تكريمه من قبل حزب الأمة إلا لأنه كان ذو فكر محابي لوحل الفكر الديني.
و نفس الشئ ينطبق على دراسة عبد الله علي ابراهيم كمؤرخ تقليدي في الصراع بين المهدي و العلماء و تختلف عن جهود هشام شرابي عندما وصف جبن و عدم شجاعة أتباع اليسار و إنكسارهم أمام طرح الخطاب الديني و محاباتهم له و كل ذلك توج بجهود محمد ابراهيم نقد و علمانيته المحابية للأديان. هشام شرابي في تقيمه للمهدية في السودان و الوهابية في السعودية و السنوسية في ليبيا يرى فيهن قطع لطريق الفكر العقلاني و تطوره لا غير.
و يمكنك أن تضيف جلوس المؤرخ التقليدي يوسف فضل عندما كان جزء من حوار الوثبة الذي نظمه الكيزان فلو كان يوسف فضل ذو دراية بما قدمته مدرسة الحوليات الفرنسية لما كان جزء من حوار الوثبة الكيزاني.
الفرق بين جهود محمد أركون و المؤرخيين التقليديين السودانيين هو أن كل من محمد أركون و هشام شرابي يرتكزان على منهج واسع إتخذ من الفلسفة و علم الإجتماع و السياسة ميدانه في وقت إرتكز المؤرخيين التقلديين السودانيين على الوثيقة المقدسة التي أبعدتها مدرسة الحوليات. لذلك جاء وصف محمد أركون لجهود الترابي الفكرية بأنها أفكار تقليدية و أن كتب الترابي كتب تقليدية و لم تكن على موعد مع الحضارات و لا موعد مع التاريخ.
و من هنا نوجه قولنا لمن ينادون الآن بمحاولة المصالحة بين الأصالة و الحداثة و المصالحة بين الصوفية و السبحة و الحداثة في السودان أن محاولاتهم ما هي إلا جبن و إنكسار كما وصف هشام شرابي جهود المحابين لوحل الفكر الديني من أتباع اليسار الرث في زمن وضحت فيه ورطة الفكر الأصولي و إستحالة التأصيل كما يقول محمد أركون في جهوده الفكرية.
و لا يفوتنا هنا أن نجدد قولنا بأن الدكتور عبد الله النعيم في مناداته بالعلمانية و الديمقراطية الليبرالية و فصل الدين عن الدولة قد حجز مقعده بين من ستكون أفكارهم ذات موعد مع التاريخ و موعد مع الحضارات. و حينها سيدرك كثر بأن عبد الله النعيم أن فتوحاته الفكرية و فيوض جهوده التنويرية قد نبعتا من جهده الذي تقدم فيه عالم الإجتماع على القانوني التقليدي.
نرجع الى عنوان المقال و نواح المثقف الملحمي و هنا نذكر داريوش شايغان في حديثه عن صدمة مثقف الحضارات التقليدية الناتجة من صدمة الحداثة و طبعا الحضارة الإسلامية التقليدية من ضمنها. لذلك تجد عند المثقف السوداني التقليدي عقل الحيرة الذي يطرح طرح المثقف الملحمي الذي يصفه الطاهر لبيب عالم الإجتماع التونسي بأنه يطرح فكر هو ذات نفسه يعرف أنه لا يمكن إنزاله على أرض الواقع و هذا ينطبق على على المثقف السوداني الذي يحاول المصالحة بين الأصالة و الحداثة بلا طائل.
و حتى تتضح الصورة للقارئ المحترم نذكر أن في أوروبا رغم إمكانية ملاحظة تطور الفكر الأوروبي بشكل واضح خلاف لما عندنا كما ذكرنا في مقدمة المقال إلا أن هناك لحظات إنتكاسات فكرية. مثلا بعد ظهور الثورة الصناعية و كذلك بعد حدوث الثورة الفرنسية و قد حطّمت أثوار العالم القديم و قد ترائ لها معالم عالم جديد بعدها ظهرت محاولات الرومانسيين في نواحهم على أطلال العالم القديم عام 1798 و كانت محاولة يائسة من الرومانسيين لإيقاف مجد العقلانية و إبداع العقل البشري و لا تشبهها إلا محاولة المثقف التقليدي السوداني في محاولته اليائسة في المصالحة بين الحداثة و الأصالة في زمن أصبح فيه مفهوم الدين أفقي و ليس عمودي و قد أصبح المجتمع يسير على توازن فعله الإنساني و لا يحتاج لشرائع و أديان تعطي المجتمع أوامر من خارجه.
و كذلك من المفارقات العجيبة في أوروبا بعد ما يزيد على مرور قرن من محاولات الرومانسيين اليائسة في وقوفهم و نواحهم على أطلال العالم القديم قد ظهر فلاسفة ما بعد الحداثة في هجومهم غير المبرر على عقل الأنوار و محاولاتهم اليائسة لتحطيمه و تحجيمه و لكن قد تصدى لهم فلاسفة جدد في فرنسا و أجبروهم على التراجع عن أفكارهم التي تهاجم عقل الأنوار و ذكروا أي الفلاسفة الجدد بأن فلاسفة ما بعد الحداثة ما هم إلا تكرار لظاهرة الرومانسيين في نواحهم على أطلال العالم القديم.
و لهذا السبب ذكرنا في عنوان المقال أن نواح فلول الكيزان و نواح المثقف الملحمي ما هو إلا تكرار لنواح الرومانسيين و نواح فلاسفة ما بعد الحداثة على أطلال العالم القديم و لهذا من الأجدى أن يكف المثقف الملحمي في السودان عن محاولة المصالحة بين الحداثة و الأصالة و الصوفية و السبحة و الحداثة لأن مثل هذه الدعوات مثيرة للضحك على من طال نواحهم على أطلال العالم القديم.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم