دكتور الوليد آدم مادبو
«المثقف الحقيقي لا يختار الصمت، لأنه يعرف أن الكلمة آخر معاقل الحرية.»
— إدوارد سعيد
حين تعلن “تأسيس” مقاطعة «الجزيرة مباشر» تنسى أمراً بسيطاً ومرعباً: العجز في الأساس ليس في القناة؛ العجز فينا، في منظومتنا الإعلامية، في الكادر الذي نضعه أمام الجمهور، وفي الأدوار المؤسسية غير المصوّبة. الحلّ، كما يعلم كل من أُشرب شيئًا من الإدراك والحكمة، ليس في الهروب من الشاشة بل في امتلاك خطابٍ يوازيها. ليست “الجزيرة” عدوًا بالمعنى الميتافيزيقي، بل مؤسسة لها أجندتها، مثل غيرها، تبحث عن سرديتها الخاصة ومصالح مموليها.
لقد ظنّ القوم أن المقاطعة ستعيد الهيبة، فإذا بها تفضح العجز. فالجزيرة لن تخسر سوى كادرٍ محليٍّ يستبدل بآخر من المتماهين والمتسلقين، أما نحن فسنخسر نافذةً نطلّ منها على ملايين السودانيين والعرب، وسنترك لخصومنا الميدان خاليًا، ليعيدوا تشكيل الرواية على هواهم وهم في قمة الاستخفاف بذكاء المتلقي وقدرته على التميز بين الإعلامي الثعلبي، والكادر الداعشي، والمفكر الوطني.
ثمّ ما جدوى أن نقاطع قناةً بينما لا نملك بعدُ بديلاً يُمثلنا؟ كيف نحارب الكلمة بالكتمان، ونواجه التأثير بالصمت؟ أليس الأجدر أن نُشيّد استراتيجية إعلامية تُحدّد لكل صوتٍ موقعه، ولكل مسؤولٍ حدود لغته، فتنبثق من ذلك رؤيةٍ كبرى للدولة تشمل سياساتها الداخلية والخارجية، لا من نزواتٍ إعلامية تُدار بالهتاف والغيرة؟
الكادر الإعلامي لدينا مرآةً للفوضى التي نعيشها: غير مؤهل، ليس لديه موجهات واضحة، ولا يمتلك حجة بيّنة. أما الخطاب السياسي الرسمي فغائبٌ غيابَ من لا يدرك خطورة الصمت في زمنٍ تتكلم فيه الصور أكثر من الشعارات. فأين هو وزير خارجية “تأسيس”؟ أين هي المفردة المتزنة التي تبني الثقة وتشرح للعالم مأساة السودان دون أن تتوسل العاطفة أو تبتذل الوجع؟
ثم إننا ننسى، في غمرة انفعالنا، أن كل قناةٍ في هذا العالم تعمل داخل إطار الدولة المضيفة ومزاج مموليها. من السذاجة أن نتوقع من “الجزيرة” أن تصبح منبرًا ثوريًا بلا مقابل. لكنها، رغم كل شيء، تظلّ ساحة يمكن أن يُدافَع فيها عن الحقيقة إن وُجد من يمتلك أدوات الفكر لا حيل الحذلقة. إنّ الانتصار في الإعلام لا يكون بالانسحاب، بل بالتمكّن من السرد، بالقدرة على تحويل المنبر ذاته إلى ميدانٍ للتفكيك، لا إلى مصيدةٍ للارتجال.
لقد واجهتُ في هذا المنبر فلول الإسلاميين، غلاة الجذريين، وجماعة “قحت” الآفلين، ولم تكن معاركي سهلة، لكنني علمت أن المعركة الفكرية لا تُخاض من الرصيف. فأحيانًا، يجب أن تقف في قلب الضجيج وترغم الصدى أن يمتثل للمنطق. ومع ذلك، فإنّ من المؤلم أن يجد المرء نفسه وحيدًا في جبهةٍ مزدوجة: يواجه خصوم الفكرة من جهة، ويُحاصر بخفة رفاقه من جهةٍ أخرى، أولئك الذين يظنون أن الثورة تُدار من “الهيئة القيادية” لا من “الوحدة الإستراتيجية” وأن الفكر يُختزل في شعارٍ أو في تحيةٍ مسائية.
نحن لا نفتقر إلى شجاعة القول، بل إلى هندسة القول. نكرر شعاراتنا عن المدنية والديمقراطية والفدرالية، ونحن ما زلنا أسرى المركزية والعصبية. نتحدث عن “التحول المدني” فيما نُعلي من شأن الزعامة العسكرية. نحلم بالعلمانية ونحن نرتجف أمام أول خطابٍ دينيٍّ يلوّح بالجنة والنار، وهنا تكمن معضلة “الوعي الأسطوري” الذي يفسر حالة الفصام الذي نعيشه. هذه التناقضات لا تحلها المقاطعات، بل يُعالجها وعيٌ مهنيٌّ مؤسسي، واستراتيجية تُعيد ترتيب علاقتنا بالمعنى، قبل علاقتنا بالميكروفون.
أما “الجزيرة”، فهي تفعل ما تجيده: تُعيد تدوير الإسلاميين، وتبحث عن “دكاترة السوق العربي” لتملأ بهم فراغ الشاشة. لكنها – وهذه المفارقة – تظلّ تبحث عن الأصوات الصلبة، تلك التي لا تخشى المواجهة ولا تُؤخذ بالتهريج. ولأن بلادنا لم تضع بعد سياسة واضحة للتعامل مع الإعلام العربي، فقد تركت لآخرين مهمة تمثيلها وتشويهها معًا. لو عرف صانع القرار أن في قطر من الوطنيين والمستقلين ما يكفي لبناء جسرٍ صادق بين الشعبين، لما ترك الساحة “لجماعة بنكك”!
إنّنا في حاجة إلى رؤية تتجاوز منطق الغضب. رؤية تدرك أن الحرب الإعلامية ليست ميداناً للثأر بل ساحةً للعقلنة. فلنُغلق جرح الاستعلاء وما يقابله من إحساس بالدونية، أدمن أصحابه خطاب “المظلومية”، ولننتقل بمنهجية علمية من الخانة التعبوية إلى المنصة التنموية. نحتاج حينها إلى هيئةٍ إعلامية قومية تمتلك صلاحيات واضحة وتتصرف بضمير الدولة لا بنزق الولاءات. نحتاج إلى تدريبٍ حقيقي، لا إلى وجوهٍ تحفظ الشعارات وتُهين الفكر. نحتاج إلى إعلامٍ يرفع مستوى الإنسان السوداني، لا أن يسايره في انفعالاته أو أن يعوّل على بؤس تصوراته.
وحتى يحدث ذلك، علينا أن نتواضع أمام فكرة بسيطة: أن الحقيقة لا تُطفأ بإغلاق شاشة، ولا تُصان بالخصام، بل تُبنى بالكلمة الحرة الموصولة بالعقل، وبالإستراتيجية التي تضع الإعلام في خدمة المستقبل لا في رهن الماضي.
October 21, 2025
auwaab@gmail.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم