قراءة في علاقة جنوب السودان بالمؤسسات المالية الدولية

بين الدعم والتبعية: قراءة في علاقة جنوب السودان بالمؤسسات المالية الدولية

بقلم: إدوارد كورنيليو

في لحظة تبدو فيها التنمية شعارًا عالميًا، وتُقدَّم فيها الاجتماعات الدولية على أنها فرص للنهوض الاقتصادي، يصل وفد جنوب السودان إلى واشنطن للمشاركة في اللقاء السنوي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. لكن خلف الصور الرسمية والبيانات المعلّبة، تتكشّف علاقة أكثر تعقيدًا، علاقة لا تُبنى على التكافؤ، بل على تفاوت بنيوي يعيد إنتاج التبعية، ويضع السياسات الوطنية في خدمة مصالح خارجية.

هذا المقال لا يسعى إلى سرد الحدث، بل إلى تفكيك بنيته. إنه محاولة لقراءة ما لا يُقال: كيف تُدار التنمية حين تكون مشروطة؟ من يملك القرار حين تُصاغ السياسات في غرف مغلقة؟ وما الذي يعنيه أن تكون دولة ناشئة، خارجة من حرب، في مواجهة مؤسسات مالية عالمية لا تعبّر إلا عن منطق السوق؟ في هذه القراءة، لا نبحث عن إجابات جاهزة، بل نفتح المجال أمام مساءلة جذرية للعلاقة بين جنوب السودان وهذه المؤسسات، بكل ما تحمله من وعود، وقيود، وتناقضات.

في أكتوبر من هذا العام، توجه وفد حكومي رفيع من جنوب السودان إلى العاصمة الأميركية واشنطن للمشاركة في الاجتماعات السنوية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ضم الوفد وزير المالية والتخطيط أطيان دييق أطيان، ومحافظ البنك المركزي أديس أبابا أوطو، والمفوض العام لهيئة الإيرادات الوطنية سايمون أكوي، إلى جانب عدد من كبار المسؤولين. وقد استهل الوفد لقاءاته باجتماع مع نائب رئيس البنك الدولي لمنطقة شرق وجنوب إفريقيا، نديامي ديوب، لمناقشة المشاريع التنموية التي يدعمها البنك الدولي في البلاد، إضافة إلى سلسلة من اللقاءات الجانبية تهدف إلى “حشد الدعم المالي وتعزيز التعاون التنموي”.

لكن خلف هذه اللغة الدبلوماسية المألوفة، تكمن بنية اقتصادية وسياسية أكثر تعقيدًا، تتطلب تفكيكًا عميقًا لفهم طبيعة العلاقة بين جنوب السودان وهذه المؤسسات المالية الدولية. فهل نحن أمام شراكة تنموية حقيقية؟ أم أن الأمر يتعلق بإعادة إنتاج نمط من التبعية البنيوية لرأس المال العالمي؟ هذه العلاقة لا تُبنى على التكافؤ، بل على تفاوت بنيوي يجعل الدولة الطرفية في موقع هش، خاضع لإملاءات الخارج.

منذ استقلال جنوب السودان عام 2011، بدأت الدولة في بناء علاقاتها مع المؤسسات المالية الدولية، مدفوعة بالحاجة إلى تمويل البنية التحتية، دعم الميزانية، وتثبيت العملة. لكن هذه العلاقة لم تكن يومًا متكافئة. فالدولة الناشئة، الخارجة من حرب طويلة، وجدت نفسها في موقع تفاوضي ضعيف، ما جعلها تقبل بشروط قاسية مقابل الحصول على الدعم. في عام 2020، وقّعت الحكومة اتفاقًا مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض طارئ بقيمة 52 مليون دولار، ضمن برنامج “التمويل السريع”، لمواجهة تداعيات جائحة كورونا. لكن هذا القرض جاء مشروطًا بإصلاحات اقتصادية تشمل تقليص الإنفاق العام، وتحرير سعر الصرف، وإعادة هيكلة القطاع العام.

تُمنح الدول الطرفية قروضًا مقابل تنفيذ “إصلاحات هيكلية”، غالبًا ما تشمل تقليص الإنفاق العام، خصخصة الخدمات، تحرير السوق، وتخفيض الدعم الاجتماعي. تؤدي هذه السياسات إلى تهميش القطاعات الإنتاجية المحلية، وتحويل الاقتصاد من إنتاج موجه نحو الداخل إلى اقتصاد موجه نحو التصدير، ما يزيد من الاعتماد على الخارج. كما تُعزز من دور الطبقة الحاكمة المحلية التي تعمل كوسيط بين رأس المال العالمي والشعوب، وتستفيد من الامتيازات دون أن تمثل مصالح الأغلبية.

جنوب السودان، كدولة حديثة الاستقلال، يعاني من هشاشة مؤسساتية واقتصادية، ومن إرث طويل من الحرب والصراع. هذه الهشاشة تجعل الدولة هدفًا مثاليًا لسياسات صندوق النقد والبنك الدولي، حيث يُنظر إليها كـ”سوق ناشئ” قابل للتشكيل وفق مصالح المستثمرين. الاقتصاد يعتمد بشكل شبه كامل على النفط، مع غياب شبه تام للقطاعات الزراعية والصناعية القادرة على خلق اكتفاء ذاتي. والمشاريع التنموية التي يُروج لها غالبًا ما تُنفذ عبر شركات أجنبية، وتُوجه لخدمة مصالح المستثمرين لا المواطنين.

من الأمثلة البارزة على هذه المشاريع، برنامج “التحول الزراعي” الذي أطلقه البنك الدولي عام 2018، والذي يهدف إلى دعم المزارعين المحليين عبر توفير التمويل والتدريب. لكن التنفيذ تم عبر شركات دولية، وتركز على إنتاج محاصيل للتصدير بدلًا من دعم الأمن الغذائي المحلي. كذلك، مشروع “تحسين الخدمات الصحية” الذي موّله البنك الدولي عام 2021، ركّز على بناء مراكز صحية جديدة، لكنه لم يعالج أزمة نقص الكوادر الطبية، ولا ضعف الرواتب، ما جعل هذه المراكز شبه فارغة. هذه المشاريع، رغم شعاراتها التنموية، تُعيد إنتاج نمط من الاعتماد على الخارج، وتُهمش المبادرات المحلية.

مشاركة الوفد الحكومي في اجتماعات واشنطن لا تعني بالضرورة تمثيل مصالح الشعب، بل قد تعكس تمثيلًا لمصالح رأس المال العالمي والنخب المحلية المرتبطة به. فالمفاوضات التي تُجرى في هذه الاجتماعات لا تُبنى على رؤية وطنية مستقلة، بل على محاولة التكيف مع شروط المؤسسات الدولية. اللقاءات مع “أصحاب القرار الاقتصادي” تهدف إلى جذب الاستثمارات، لكنها غالبًا ما تؤدي إلى فتح السوق المحلي أمام الشركات متعددة الجنسيات، وفرض قوانين استثمارية تُسهل تحويل الأرباح إلى الخارج، وتهميش العمالة المحلية لصالح الخبرات الأجنبية.

النخب المحلية تلعب دورًا مركزيًا في هذه الديناميكيات. فهي تُقدم نفسها كممثل شرعي للدولة، لكنها في الواقع تُعيد إنتاج السياسات التي تخدم مصالحها الخاصة. هذه النخب، التي تستفيد من الامتيازات، والعقود، والعلاقات الدولية، تُمارس دور الوسيط بين المؤسسات المالية والشعب، دون مساءلة حقيقية. في كثير من الأحيان، تُستخدم لغة “الإصلاح” و”الشفافية” لتبرير سياسات تؤدي إلى تهميش الفقراء، ورفع الأسعار، وتقليص الدعم. ولا توجد آليات فعالة لمحاسبة هذه النخب، أو لقياس أثر السياسات على الفئات المهمشة.

لا يقتصر هذا النمط على جنوب السودان وحده، بل يتكرر في دول أفريقية أخرى مثل زامبيا، موزمبيق، وكينيا. في زامبيا، أدى برنامج صندوق النقد إلى خصخصة قطاع الكهرباء، ما رفع الأسعار وأدى إلى احتجاجات شعبية. في موزمبيق، تسببت القروض السرية التي حصلت عليها الحكومة في أزمة ديون خانقة، وانهيار الثقة في المؤسسات. وفي كينيا، أدت سياسات التقشف إلى تقليص ميزانية التعليم والصحة، ما أثر بشكل مباشر على الطبقات الفقيرة. هذه التجارب تُظهر أن العلاقة مع المؤسسات المالية الدولية ليست مجرد مسألة تقنية، بل قضية سياسية واجتماعية تمس حياة الناس اليومية.

المشاريع التي “يمولها ويدعمها البنك الدولي” في جنوب السودان تُقدم غالبًا كإنجازات تنموية، لكنها في الواقع تُعيد إنتاج نمط من التبعية البنيوية. تُحوّل الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة إلى سلع تُباع وتشترى، ما يُقصي الفقراء من الحصول عليها. يؤدي تحرير السوق إلى ارتفاع الأسعار، وتآكل القدرة الشرائية للطبقات الكادحة. ويُضعف تقليص الإنفاق العام دور الدولة في حماية المواطنين، ويُحولها إلى وسيط إداري يخدم رأس المال.

يمكن تلخيص النتائج المحتملة لهذه العلاقة في زيادة الديون، خصخصة الخدمات، تقوية النخب، تهميش الفقراء، وفقدان السيادة الاقتصادية. هذه النتائج لا تُعد مجرد آثار جانبية، بل هي جزء من بنية العلاقة ذاتها، حيث تُعاد صياغة السياسات الوطنية وفق مصالح الخارج، وتُهمش الإرادة الشعبية.

لا يمكن فصل هذه الديناميكيات عن السياق الإقليمي. الحرب في السودان المجاور تُضعف الاقتصاد وتزيد من الاعتماد على الخارج. التوترات الداخلية تُستخدم كمبرر لتأجيل الإصلاحات الحقيقية. والتنافس الدولي على الموارد يجعل جنوب السودان ساحة لتدخلات متعددة.

من أجل تجاوز هذا النمط من التبعية، لا بد من بناء بديل اقتصادي قائم على السيادة الوطنية، والعدالة الاجتماعية، ودعم الاقتصاد المحلي، وتعزيز الشفافية والمساءلة. المطلوب ليس فقط نقد السياسات، بل بناء حركة شعبية قادرة على طرح بدائل، ومساءلة السياسات، واستعادة السيادة الاقتصادية. فالتنمية الحقيقية لا تأتي من الخارج، بل من الداخل، من إرادة شعبية واعية، ومن اقتصاد يخدم الإنسان لا رأس المال.

إن اللحظة الراهنة، بكل ما تحمله من تحديات، تفتح المجال أمام إعادة التفكير في النموذج الاقتصادي السائد. لا بد من فتح حوار شعبي واسع حول أولويات التنمية، ودور الدولة، وموقع المواطن في السياسات الاقتصادية. هذا الحوار يجب أن يشمل النقابات، والمزارعين، والنساء، والشباب، وكل من تضرر من السياسات المفروضة. فالتغيير لا يأتي من الاجتماعات المغلقة، بل من الشارع، من الأصوات التي تطالب بالعدالة، وتُعيد تعريف معنى التنمية.

إن إعادة التفكير في العلاقة مع المؤسسات المالية الدولية ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة سياسية واجتماعية. فجنوب السودان، في لحظته التاريخية الراهنة، لا يحتاج إلى المزيد من القروض المشروطة، بل إلى رؤية وطنية مستقلة، تُعيد الاعتبار للإنسان، وتُعيد صياغة الاقتصاد ليكون أداة للكرامة لا وسيلة للهيمنة.

وفي هذا السياق، يصبح النقد فعلًا مقاومًا، والمساءلة جزءًا من بناء السيادة، والحوار الشعبي شرطًا لأي تحول حقيقي. فالتنمية، حين تُفرض من الخارج، تفقد معناها. أما حين تُصاغ من الداخل، من وجع الناس وأحلامهم، فإنها تتحول إلى فعل تحرري، وإلى وعد لا يُقاس بالأرقام، بل بالعدالة والكرامة والقدرة على الحلم.

tongunedward@gmail.com

عن ادوارد كورنيليو

ادوارد كورنيليو

شاهد أيضاً

صوت من العرش: تولي آبوضوك بوج الحكم في مملكة الشلك

بقلم: إدوارد كورنيليو في فلب التاريخ الجنوب الجنوب السوداني، قبل أن يُرسم السودان على خرائط …