عبد القادر محمد أحمد / المحامي
خطةُ الرباعية تراهن على الحوار الوطني، مما يجعل الاعتراف المتبادل بالأخطاء أساسًا للدخول فيه. خلافًا لما كان سائدًا من تجنّب الحديث عن أخطاء (ق. ح. ت) بحجة أن المعركة مع الإسلاميين حول الشمولية والديمقراطية، وأن الإقرار بالأخطاء يُضعف موقفنا في مواجهتهم. وفي المقابل نجد أيضًا أن عدم الإقرار بالأخطاء عقيدةٌ راسخةٌ عند الإسلاميين.
لقد أصبح النقدُ الذاتي جزءًا من معركة الدفاع عن الديمقراطية، فالمسألة ليست في الشعارات، بل في امتلاك الشجاعة لجلد الذات ليتسق السلوك مع الشعار. لذلك علينا الإقرارُ بحقيقةِ التناقض بين الممارسةِ والشعاراتِ وجذورها التاريخية. لقد نشأت بعضُ أحزابنا في بيئة الولاء للطائفية والقبيلة، وتمحورت عبرها حول قضية الوحدة مع مصر، دون أن تمتلك أيَّ برامج سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.
لقد نتج عن ذلك ازدواجيةٌ لدى النخبة، فنجدها تُناصر الحرية والديمقراطية، لكنها تتعايش مع الشمولية؛ فالمحجوبُ انخرط في حزبٍ طائفي، ومنصور خالد عمل مع نظام شمولي، والصادق المهدي ورث قيادةَ حزب طائفي.
فإذا قلنا إن حرصَ هذه النخب على الإسهام العام جعلها أسيرةَ التعامل مع واقعٍ لا تستطيع تغييره، فما بالُنا اليومَ والظروفُ مغايرة؟ فبفضل التعليم والتجارب وتوفّر وسائل المعرفة، ازداد وعيُ الناس، وأصبحوا أكثرَ استعدادًا لتجاوز الإرث الطائفي والشمولية. لذلك فلا عذرَ للتقاعس عن التغيير.
إن التهرّب من مواجهة الأخطاء سيُكرِّر فشلَ التجارب الديمقراطية، بما يجعل الناس يتهيّأون لقبول الانقلابات العسكرية، ثم يحتاجون لسنوات ليدركوا أهمية الديمقراطية، فيرجعوا ويثوروا ضد الشمولية من جديد، فنظل في دائرةٍ مفرغة.
علينا مواجهةُ حقيقة أن الديمقراطية لن تُصحّح نفسها بنفسها، ما دامت أحزابُنا بعضُها طائفيٌّ قائمٌ على الولاءات التقليدية والقبلية، وبعضُها أيديولوجيٌّ شموليٌّ يعتمد على فكرة الحزب الطليعي الواحد، والزعيم الكاريزمي الذي يظل مقدَّسًا حتى بعد مماته. وبعضُها تدّعي الديمقراطية في خطابها، لكن بنيتها الداخلية سلطوية ومركزية تمنع تداول السلطة الحقيقي وتكرّس الاستبداد داخلها.
علينا الإقرار بأن تجربتَنا الديمقراطية لن تتعافى وتترسخ ما لم تقم أحزابُنا بمراجعة شاملة، تتخلى فيها عن الزعامة الدينية أو الفردية أو الوراثية، وتتَبَنَّى دستورًا ديمقراطيًا داخلها، وتترك الشعارات غيرَ المواكِبة لصالح برامج وطنية واقعية، وتسمح باختلاف الرأي داخلها، وتتحلّى بمرونة فكرية، وتهتمَّ بالشباب والنساء، وتفسحَ المجال للقيادات الجديدة.
لكن السؤال: هل رؤساءُ وزعماءُ أحزابِنا راغبون في التطوير والتغيير، أم أنهم حريصون على تغبيش وعيِ حتى من يبحثون عن الوعي، لكي يظلّوا هم في مواقع الرئاسة والزعامة طلبًا للوجاهة الاجتماعية والمصالح الدنيوية؟
أقول ذلك، لأن جميعَ أحزاب قوى الحرية والتغيير مارست الإقصاء تجاه العديد من قوى الثورة، بما فيهم لجان المقاومة، وحاصصت المواقع فيما بينها، وساهم ذلك في تأجيج الخلافات داخل القوى المدنية، مما هيّأ المناخ للمتربصين لقطع مسار الثورة!
أقول ذلك، والعالمُ يشاهد أحد قادة أحزاب الحرية والتغيير يقف في منصة رسمية بصفته نائب رئيس لجنة التفكيك، ويصيح وسط هتافات وتصفيق زملائه، متوعّدًا بأن منصّتَه ستكون “مركز عمليات التجهيز والمواجهة إذا أرادوها”! ثم يأتي عمل لجنة التفكيك مخالفًا للشرعية الإجرائية اللازمة لضبط عملها، فتجد نفسها أسيرةَ نفيِ اتهامات تطال الشفافية! – نفصّل لاحقًا –
أقول ذلك، ووزارةُ مالية الديمقراطية تمنح شركة تحوم الشبهاتُ حول ملاكها امتياز تصدير الذهب، وتورد الصحفُ أن العقدَ تم توقيعه خارج الوزارة، في دارِ حزبٍ ذي مصلحة، ويمرّ ذلك دون نفيٍ يوضح للناس الحقيقةَ الكاملة! وهي تُهمةٌ تشكّل خطورةً بالغةً على جدّية المرحلة.
هذه الممارساتُ فيها الإقصاءُ العلني، وفيها استغلال منصة “رسمية” بواسطة جهةٍ “حزبية” لإطلاق التهديدات وزيادة حالة الاحتقان، وفيها عدمُ العدالة، وفيها الفسادُ الإداري والمالي. وكلُّها تُصيب الديمقراطية والمرحلة الانتقالية في مقتل!!
صحيح، كان هناك تربصٌ وتحرّش، لكن هل يعني ذلك أن نجاريَ تحدي القوة؟ وما هي أدواتُ التحدي في مواجهة نظامٍ ظل يسيطر على مؤسسات الدولة، بما فيها الجيش والأجهزة الأمنية الرسمية وغيرُ الرسمية؟ وإذا كان التحدي سيظل محورُه صراعَ السلطة والمصالح الخاصة، فلماذا قامت الثورة؟ ولماذا أُزهقت الأرواح؟
إن التحدي ليس في مجرد رفعِ شعارات الثورة في الديمقراطية والحرية والعدالة والشفافية، بل في التطبيق العملي الذي يؤكد المصداقية، ويوجّه رسالةً قويةً للفكر الاستبدادي، توضّح الفرقَ بين الدولة الديمقراطية والدولة الشمولية، وكان هذا هو محور مهمة الفترة الانتقالية.
إنّ الحديثَ عن أخطاءِ الفترة الانتقالية لا يعني أنها مبررٌ لانقلاب مبيّت النية، ولا يعني أنها كانت بلا إنجازات. فقد شهدت تلك الفترة انتهاءَ عزلة السودان برفعه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، واستعادة علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية، وفتح باب إعفاء الديون والمساعدات الاقتصادية.
لقد وجدت لجنةُ استرداد الأموال المنهوبة من الخارج استجابةً دولية، حيث تمّ حصر تلك الأموال في بنوك داخل أكثر من مائة دولة، وأبدت شركة “إيرباص” استعدادَها لتزويد الخطوط الجوية السودانية بأسطول من الطائرات. لقد كان الانقلابُ سببًا في قطع العديد من الإنجازات المنتظرة، وأدّى إلى نشوب الحرب والدمار.
أخيرًا، لا بدّ لجميع الأطراف من ممارسة النقد الذاتي الصادق، والاعتراف بالأخطاء، والاعتذار للشعب، وإجراء مراجعةٍ تفتح الطريق أمام حوارٍ وطني شاملٍ ومصالحةٍ حقيقية، تُرسّخ أسسَ التعافي والاستقرار والسلام المستدام.
aabdoaadvo2019@gmail.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم