كيف غيرت الحرب نمط وهوية المجتمع السوداني؟ جيل كامل عرضة لفقدان التعليم والإصابة باضطرابات نفسية تهدد بمحو مستقبله

حولت هذه الحرب العادات والتقاليد إلى ذكريات بعيدة، إذ تتوارى الأعراس التقليدية التي كانت تمتد أياماً تحت ظلالالخوف من الهجمات، وتظهر أنماط جديدة من الزواج أطلق عليه “الزواج الاضطراري”.

إسماعيل محمد علي صحافي سوداني
اندبندنت عربية

ملخص

حولت هذه الحرب العادات والتقاليد إلى ذكريات بعيدة، إذ تتوارى الأعراس التقليدية التي كانت تمتد أياماً تحت ظلال الخوف من الهجمات، وتظهر أنماط جديدة من الزواج أطلق عليه “الزواج الاضطراري”.

وضعت الحرب المندلعة بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023 السودانيين أمام معاناة لم يحتملها كثر منهم، بخاصة من ناحية النزوح الذي يعد الأعلى عالمياً في تاريخ الحروب، سواء داخل البلاد وخارجها، فغالبيتهم فر من مناطق القتال الملتهبة (الخرطوم والجزيرة ودارفور وسنار وكردفان والنيل الأبيض) قاصداً المجهول عبر رحلة تحفها الأخطار من كل النواحي.

فإلى أي مدى غيرت الحرب ملامح ونمط حياة المجتمع السوداني، فضلاً عما أحدثته من تغييرات في العادات والتقاليد والآثار النفسية بسبب النزوح والأوضاع الاقتصادية المتردية؟

امتداد الصدمة

يقول المختص النفسي عمرو إبراهيم مصطفى “لا شك أن الحرب التي اندلعت في السودان قد أحدثت تحولات كبيرة في بنية المجتمع، متسببة في تغييرات حادة في العادات والتقاليد الاجتماعية، وشكلت موجة نزوح وهجرة داخلية ضخمة، مما أدى إلى مشكلات اقتصادية واجتماعية ونفسية عميقة. هذه التغيرات لم تقتصر فقط على الجوانب المادية، بل امتدت لتشكل هوية السودانيين وعلاقة بعضهم ببعض، وتركت آثاراً نفسية قد تستمر أجيالاً، وهذا ما يعرف بامتداد أثر الصدمة عبر الأجيال القادمة”.

وتابع “في ما يخص تغير العادات والتقاليد الاجتماعية نجد أن المجتمع السوداني كان يقوم قبل الحرب على قيم التضامن والتكاتف الاجتماعي، إذ شكلت المجتمعات المحلية شبكات دعم قوية من خلال الروابط القبلية والأسرية، ومع الحرب بدأت هذه القيم تتغير، إذ برزت تحولات اجتماعية عدة، منها تراجع قيم الضيافة والتكافل الاجتماعي. ففي ظل تفاقم الأوضاع الاقتصادية وزيادة عدد النازحين، أصبحت الأسر غير قادرة على تقديم الدعم كما في السابق، مما أدى إلى فتور العلاقات الاجتماعية وزيادة المشاحنات والخلافات والاتهامات، وظهر ذلك بصورة واضحة في استغلال النزوح ورفع قيمة الإيجارات بطريقة استغلالية”.

واستطرد مصطفى “كذلك يلحظ تأثير تفكك الأسر وازدياد حالات الطلاق والنزوح القسري وفقدان المعيل وانعدام الأمان على استقرار الأسر، إذ اضطرت بعض النساء إلى تحمل مسؤولية الأسرة بمفردهن، مما زاد من الضغوط النفسية والاجتماعية وتأثر بذلك الأطفال بصورة كبيرة، كذلك أدت الأزمة الاقتصادية إلى تأجيل أو تغيير شروط وأنماط الزواج، فمثلاً أصبح من الصعب إقامة حفلات الزفاف التقليدية التي كانت تتسم بالبذخ، ولجأ البعض إلى الزواج البسيط من دون احتفالات مع وجود بعض الحالات المختلفة خارج السودان، التي لاقت كثيراً من الانتقادات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كذلك تسببت الحرب في ضعف ممارسة بعض العادات التقليدية مثل التجمعات الاجتماعية في المناسبات، فضلاً عن تأثر المناسبات الدينية التي كانت تجمع الأهالي مثل الأعياد والاحتفالات”.

وزاد “معلوم أن الحرب تسببت في نزوح ملايين السودانيين من مناطقهم الأصلية إلى مدن أخرى أو إلى دول مجاورة، وهو ما أدى إلى تغييرات جوهرية في التوزيع السكاني والعلاقات المجتمعية، ونجد من تحديات النزوح الاكتظاظ السكاني في المدن المستقبلة للنازحين، الأمر الذي خلق أزمة سكنية وزيادة في الإيجارات، مما جعل كثيراً من الأسر تعيش في ظروف غير إنسانية مثل الإقامة في المدارس أو المساجد أو حتى في العراء”.

وواصل “ومن تحديات النزوح كذلك انتشار الفقر والجوع، فبسبب فقدان مصادر الدخل، أصبح النازحون يعتمدون على المساعدات الإنسانية التي لا تغطي جميع الاحتياجات، مما أدى إلى سوء تغذية وارتفاع معدلات الفقر، فضلاً عن ارتفاع نسبة البطالة، إذ أثر النزوح في القوى العاملة ففقد كثر وظائفهم، واضطر بعضهم إلى العمل في مهن متدنية الأجر أو غير مستقرة، إضافة إلى تفشي الجرائم والأخطار الأمنية فقد أدى ازدياد عدد النازحين من دون توفر بنى تحتية كافية إلى تفشي الجرائم مثل السرقة والاعتداءات، وزادت النزاعات بين المجتمعات المستضيفة والنازحين بسبب شح الموارد”.

وبين أن “الحرب لم تغير فقط الأنماط الاجتماعية والاقتصادية، بل تركت آثاراً نفسية عميقة لدى الأفراد، وبخاصة الأطفال والنساء والمراهقون، ومن أبرز هذه التأثيرات اضطراب ما بعد الصدمة بسبب مشاهدة العنف والقتل وفقدان الأحبة، إذ يعاني كثر كوابيس مزعجة وأفكاراً مرعبة وقلقاً دائماً، لكن تأثر الأطفال كان واضحاً بشكل كبير من خلال حجم الاستشارات التي يستقبلها الأطباء”.

ولفت مصطفى إلى أن عدم الاستقرار وفقدان الأمان أديا إلى مشاعر الإحباط واليأس لدى كثير من السودانيين، فضلاً عن اضطراب سوء التكيف مع البيئة الجديدة، ويلحظ على بعض النازحين وبخاصة الأطفال والمراهقون، أنهم أصبحوا أكثر عنفاً بسبب الضغط النفسي والبيئة غير المستقرة، كذلك تسبب فقدان الأمان في العزلة وعدم الاختلاط وتجنب اللقاءات الاجتماعية، مما زاد من مشاعر الوحدة والاغتراب.

وللحد من تأثير الحرب في المجتمع السوداني يرى أنه لا بد من توفير دعم نفسي للنازحين من خلال إنشاء برامج علاج نفسي ودعم اجتماعي لتعزيز التكيف مع الأوضاع الجديدة، والعمل على إعادة بناء الشبكات الاجتماعية عبر تعزيز التفاعل المجتمعي والبرامج التي تساعد على إعادة التماسك الاجتماعي، إضافة إلى تقديم فرص اقتصادية جديدة تتمثل في دعم المشاريع الصغيرة وبرامج التدريب المهني للنازحين لتمكينهم من إعالة أنفسهم، بجانب تعزيز الأمن والاستقرار من خلال التعاون بين المجتمعات المستضيفة والنازحين لضمان بيئة آمنة للجميع.

وختم المختص النفسي بالقول “لقد غيرت الحرب المجتمع السوداني بصورة لافتة، مما أدى إلى تفكك في البنية الاجتماعية وصعوبات اقتصادية وتأثيرات نفسية عميقة، وعلى رغم قسوة الظروف، فإن التكاتف الاجتماعي والتدخلات النفسية والاجتماعية والدعم الاقتصادي يمكن أن تساعد في التخفيف من هذه الأضرار، وتمكين السودانيين من استعادة حياتهم الطبيعية مع الوقت، وهذا ما يحدث مع من هم داخل السودان، أما الذين فروا إلى بلدان مجاورة فتلك حكاية أخرى”.

هزة عنيفة

في السياق، أوضحت المتخصصة في مجال الإعلام إسراء النقراشي قائلة “بالتأكيد أن الحرب غيرت حياة السودانيين بالداخل والخارج إلى الأبد، نحن نعيش ويلات النزوح والافتقار إلى أبسط مقومات الحياة، فالأزمات المتزايدة في كل لحظة حولت أوضاع السودانيين إلى جحيم، لكن تتفاوت هذه المعاناة في شدتها من منطقة إلى أخرى داخل البلاد بحسب القرب والبعد من مناطق الاشتباك، لذلك، لا يمكن الحديث عن تأثيرات الحرب الاجتماعية والاقتصادية وكثير من أزمات النزوح وكأنها موحدة، فهناك مجتمعات سودانية كبيرة لا تمثل لها هذه الحرب حدثاً جديداً، لكن زادت معاناتهم وتوسعت بسبب اشتعالها في مركز الدولة الذي كان يمثل لهم في الحروب السابقة ملاذاً آمناً”، وأضافت “نجد أن المجتمع السوداني في بداية الحرب تفاجأ بقدرة بعضهم على استغلال هذا الظرف لتحقيق مكاسب شخصية على سبيل المثال، ثم مع استمرار الحرب وتوسع رقعتها أصبح الاستغلال سمة في علاقات السودانيين بعضهم ببعض وفي علاقتهم بالدولة نفسها. فالتعاون مع ‘الدعم السريع‘ وتزويدهم بالمعلومات والوشاية بالجيران ممن لهم علاقة بالقوات النظامية وغيرها من السلوكيات، لم يعد تصرفاً فردياً وإنما أصبح سلوكاً مجتمعياً، وفي بعض الحالات لم يكن خياراً، لذلك من المبكر إخضاع السلوك الذي فرضته الحرب للتقييم وفقاً لأي ميزان، فالمجتمعات السودانية تعرضت لهزة عنيفة وستستمر ارتداداتها فترة من الزمان حتى يمتص المجتمع والدولة صدمة الحرب ومن ثم يمكن تقييم ما حدث ومحاولة قراءة ذلك”.

وأردفت النقراشي “دفع إجرام عصابات ‘الدعم السريع‘ وانتهاكاتها حياة السودانيين إلى جانب احتلالهم المستشفيات والأعيان المدنية وتدمير محطات المياه والكهرباء وسرقة الصيدليات، المجتمعات السودانية إلى ابتكار بعض الحلول للمشكلات اليومية في ظل غياب الدولة، وذلك بتوفير التكايا ودعم المستشفيات ونفير الأدوية وغيرها من أنماط التعاون في الخرطوم والجزيرة وسنجة والأبيض والفاشر وبقية المدن التي سيطرت عليها قوات ‘الدعم السريع‘، مما خفف كثيراً من معاناة المواطنين بعد اختفاء الدولة خلال أشهر الحرب الأولى، وهي مبادرات الشباب السوداني نفسها التي نشطت في المجتمع في أعوام تدهور الدولة منذ 2013”.

وأكدت أن “استمرار الحرب أو توقفها هو استمرار فقدان الثقة في مؤسسات الدولة، وسيقابله نهوض التعاونيات وتعزيز الأجسام المجتمعية من التكايا ومراكز الإيواء وغيرها من أشكال التنظيم المجتمعي غير المعتمد على الدعم الحكومي، وقد بدأ الاستقلال عن الدولة حالياً من خلال التشكيلات المسلحة التي تقاتل بجانب الجيش وتتخذ هيئات ومسميات عدة، لكن تكوينها في الأساس إما قبلي أو مناطقي على رغم محاولات التأكيد أنها ستندمج في القوات المسلحة”.

ومضت المتخصصة في مجال الإعلام “في الحقيقة أن الحرب ليست شراً مطلقاً، ستستفيد المجتمعات السودانية من دروسها والتي نأمل في أن تكون الأخيرة حتى وإن طالت على غير المتوقع، هذه الفائدة ستجنيها الأجيال القادمة التي ستعمل على النهوض بالسودان على النحو الذي يحقق أحلامهم في بناء وطن يتلاءم مع تطلعاتهم”.
AFP__20230721__33PM66C__v1__HighRes__SudanConflictDailyLife.jpg
تظهر توترات اجتماعية جديدة بين النازحين والمجتمعات المضيفة في السودان (ا ف ب)

تفكك اجتماعي

في حين أفاد الناشط الاجتماعي عروة الصادق بأن “هذه الحرب ليست مجرد حلقة جديدة في سلسلة صراعات، بل هي إعادة إنتاج للأزمة السودانية في شكلها الأكثر تعقيداً، إذ خلقت حالاً من التفكك الاجتماعي لم تشهدها البلاد من قبل، كما جعلت العلاقات الأسرية شبحاً يتلاشى تحت ظلال القذائف، وبات التضامن الاجتماعي حلماً يذوب في مستنقع الخوف. فالنزوح الجماعي الذي وثقته المنظمة الدولية للهجرة بأكثر من تسعة ملايين نازح داخلي و1.7 مليون لاجئ خارجي، لم يكن مجرد انتقال جغرافي من مكان إلى آخر، بل كان انسلاخاً وجودياً من جذور الهوية، مما جعل الإنسان السوداني غريباً في وطنه، مشرداً في أرضه، منفياً في دياره”.

وأردف “كذلك حولت هذه الحرب العادات والتقاليد إلى ذكريات بعيدة، إذ تتوارى الأعراس التقليدية التي كانت تمتد أياماً تحت ظلال الخوف من الهجمات، وتظهر أنماط جديدة من الزواج أطلق عليه “الزواج الاضطراري”، إذ تتزوج الفتيات لتأمين الحماية أو المأوى، وهو تحول يعيد تعريف العلاقات الأسرية من أداة ارتباط إلى أداة للبقاء، وفي ولاية الجزيرة التي استقبلت أكثر من 500 ألف نازح، تظهر توترات اجتماعية جديدة بين النازحين والمجتمعات المضيفة، حيث تتداخل العادات المختلفة في فضاء ضيق من الموارد، فتتحول القيم التقليدية للكرم والتضامن إلى تنافس على الماء والغذاء”.

وأضاف الصادق “في ظل تراجع سلطة الدولة المركزية تعود القبائل إلى الساحة كفاعل رئيس في تنظيم الحياة اليومية، لكن ليس كما كانت يوماً جسوراً للتعايش، بل كجزر معزولة تصارع من أجل البقاء، وهو تحول يعيد إنتاج الانقسامات العرقية في شكل أكثر دموية، وفي الوقت ذاته تظهر شبكات تضامن محلية كبديل عن غياب الدولة، لكن هذه الشبكات على رغم قوتها تحمل في طياتها بذور صراعات جديدة، إذ تتحول الولاءات إلى أدوات للتفاوض على البقاء، وتصبح الهوية الإثنية سلاحاً في وجه الآخر بدلاً من أن تكون جسراً للتعايش”.
اقرأ المزيد

وواصل “هذه الحرب لم تقتصر على تمزيق النسيج الاجتماعي، بل جعلت اقتصاده يقوم على النهب الممنهج والتهريب العابر للحدود والابتزاز المسلح والتربح من المساعدات الإنسانية. إن هذا التحول لم يكن مجرد انهيار اقتصادي، بل كان انهياراً للقيم وللكرامة وللإنسانية، حيث أفادت تقارير الأمم المتحدة بأن 25 مليون سوداني، أي أكثر من نصف سكان البلاد البالغ عددهم 49 مليون نسمة، باتوا بحاجة إلى مساعدات إنسانية، و18 مليوناً يواجهون جوعاً حاداً، و222 ألف طفل معرضون لخطر الموت جوعاً خلال الأشهر المقبلة. هذه الأرقام تكشف عن كارثة ليست مجرد أزمة طعام، بل أزمة وجود تهدد بمحو جيل كامل”.

ونوه بأن “الصدمة النفسية التي أفرزتها هذه الحرب ليست مجرد اضطراب عابر، بل هي جرح بنيوي يهدد بإعادة تشكيل الوجدان الجمعي للشعب السوداني، فقد أفادت تقارير الأمم المتحدة بأن 97 في المئة من النازحين داخلياً يعانون مستويات شديدة من الجوع، وهو ما يفاقم التوتر النفسي والقلق، بينما أكدت منظمة الصحة العالمية أن أكثر من 30 في المئة من النازحين يعانون اضطرابات نفسية كالاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة و10 ملايين طفل، أي ما يعادل ثلث الأطفال السودانيين، خارج مقاعد الدراسة، ليصبح جيل كامل عرضة لفقدان التعليم والإصابة باضطرابات نفسية تهدد بمحو مستقبله، كذلك أفادت تقارير للجان المقاومة المحلية أن أكثر من 60 في المئة من الأطفال في هذه الأحياء يعانون نوبات هلع واضطرابات في النوم، فضلاً عن ظهور حالات متزايدة من الاكتئاب والانتحار وسط النساء في مخيمات النزوح في إقليم دارفور”.

ومضى الناشط الاجتماعي في القول “من المؤسف ظهور حالات من الهجرة القسرية، إذ دفع اليأس مئات آلاف الشباب إلى مغادرة البلاد، ليصبح السودان مصدراً للعقول بدلاً من الأمل، فقد أشارت تقارير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بأن أكثر من مليون سوداني، معظمهم من الشباب، لجأوا إلى مصر منذ بدء الحرب، ليعيشوا في ظروف قاسية، وما يقارب هذا العدد دخل تشاد ونصفه لإثيوبيا وربعه لأفريقيا الوسطى، وكذلك جنوب السودان وإريتريا وأوغندا وليبيا”.

اندبندنت عربية

عن طارق الجزولي

طارق الجزولي

شاهد أيضاً

عبد العاطي في بورتسودان… هدنة الأشهر الثلاثة أولاً

العربي الجديد: قال مصدر مصري مطّلع لـ”العربي الجديد”، إن زيارة وزير الخارجية والهجرة المصري بدر …