لماذا تنجح مخططات الاسلاميين مع السودانيين

قبل الانتخابات الأمريكية الأخيرة بأيام سألت أحد السودانيين الأمريكيين عن مرشحه المفضل للرئاسة فكان رده ” لن اصوت لأي من مرشحي الرئاسة هذه المرة”. وعندما سألته لماذا، قال بغضب “لان كليهما يدعمان إسرائيل”. كان بإمكاني ان أتقبل إجابته إذا قال بانه لن يصوت لأي منهم لانهما لم يعملا على ايقاف الحرب في السودان وفلسطين او لم يمنعا حدوثها من أصله. لكن ان يتعامى عن رؤية حرب ضروس تكاد ان تحرق كامل وطنه الام، وخلفت ما خلفت من فظائع وشردت الملايين ويقفز فوق كل ذلك بكل برود ليهتم بأزمة اخرى خارج الحدود ويضعها في مقدمة اولوياته فهذا ما يدعوا للاستغراب والتساؤل عن الكيفية التي يعمل بها العقل السوداني.
هذه ليست دعوة لعدم التضامن مع فلسطين هذه بالأحرى دعوة للتضامن مع السودان. السودان في حالة الراهن، وهو على وشك ان ينفرط الى دويلات تافهة، هو مجرد فلسطين أخرى وعبء اخر على الامة العربية والإسلامية وحالة أخرى من البؤس والضياع. انها حالة من الجحيم الأرضي التي تحتاج الى التضامن من الاخرين بنفس القدر او أكثر ربما. ما هي منفعتنا لفلسطين وللمسلمين في أي مكان على ظهر هذه البسيطة ونحن في هذه الحالة من الضعف والانهيار والتبعثر.
الاهتمام بأزماتنا ووضعها كأولوية قصوى لا يمنعنا من الاهتمام بأزمات الآخرين والتضامن مع شعوب الارض قاطبة مسلمين او غير مسلمين، ولا يمنعنا من توخي الحزم والرشد في ترتيب أولوياتنا. ليس من الحصافة او الفطنة ان نترك ارواحنا تزهق ودمائنا تهرق على امتداد الوطن ونخف سراعا لتضميد جراح الاخرين، وما فائدتنا للآخرين إذا كنا لا نقدر حتى على إغاثة أنفسنا. هذا الانحراف البين والزيغ عن جادة الهم الوطني ليس له تفسير سوى انه يرجع الي طغيان الوعي الديني على الوعي العملي البراغماتي ويعكس حالة التليف التي تستشري في ماكنيزمات العقل السوداني وتجعل من السهل التلاعب به خاصة من قبل جماعة الإسلام السياسي.
السبات الدوغمائي الذي يغط فيه العقل السوداني يجعل من السودانيين احتياطي نافع لمخططات الكيزان وهو ما يدفعنا للتساؤل إذا ما كانت مقولة حسين خوجلي عن التيار العريض (ونحن ال ٩٨٪) لم تكن افتراء. وهو ما يفسر ايضا لماذا حكم الاخوان المسلمين السودان لأطول فترة من تاريخه الحديث. لم يستمر نظام البشير لثلاثة عقود بسبب البطش وتكميم الأفواه فقط، ولكن بسبب شعاراته وخطابه العقائدي الذي يصادف هوى وحنين لدي الغالبية العظمي من السودانيين.
كذلك هذا العقل من تجلياته الغرائبية ان بإمكانه ان يتحيز ضد مصلحته ويتجاهل اعدائه الحقيقيين او قل الأزليين وينخرط في تعبئة هستيرية ضد عدو استيهامي من بنات افكاره. معلوم ان الامارات ومصر يتدخلان في السودان بنفس القدر من الهمة والتصميم، كل منهما يدعم فريقا من فرقاء الحرب. ومعلوم ان أهداف دعم هذين البلدين كل منهما لحليفة في السودان شديدة التباين. مصر مثلا لم تتوقف عن التدخل في السودان عبر تاريخه الحديث على الاقل وهي تحتل الان منطقتين على طول حدوده الشمالية ولو كان السودان (الشقيق) هو من يحتل أراضي مصرية لكان الان يدمغ من قبل اجهزة الاعلام المصرية (بالعدو المحتل). بينما المسئولين السودانيين خاصة العسكريين منهم لا يجرؤون على ذكر حلايب وشلاتين علنا في خطاباتهم خوفا على مشاعر اخواتنا المصريين.
مصر لديها مطامع تاريخية واهداف توسعية لا تخفيها في السودان. تدخل مصر في الشأن السوداني يبدو أكثر جلاء في دعمها للحكم العسكري طوال تاريخ السودان الحديث وهو ما أعاق تطور النظام النيابي في السودان وساهم بالتالي في تأخير نهضته. لكن مع ذلك السودانيين قادرين على رؤية تدخل الإمارات (السافر) في الحرب وغير قادرين على رؤية تدخل مصر رغم أن دولة الإمارات تقع في قارة اخرى تبعد عن السودان آلاف الكيلومترات وليس لنا معها اي حدود تجعلها تطمع في ضم بعض اراضينا من خلال الحرب وليس بيننا وبينها نزاعات حدودية، ولا كانت من الدول العظمي حتى نظن بانها تسعي لإنشاء قواعد عسكرية في السودان.
لكن لماذا تتدخل الإمارات في السودان؟
ان غياب الديمقراطية وانعدام الحريات وسيطرة النظم الشمولية والاضطهاد والقمع السياسي في العالم العربي لعقود عقب الاستعمار ساهم بقدر كبير في نمو وانتشار الجماعات الدينية بسبب طبيعتها العقائدية التي تؤهلها للعمل السري والازدهار في ظروف العنف والتضييق السياسي. الامر الذي جعلها تشكل التهديد الأكبر والوحيد الان للأنظمة الحاكمة في المنطقة العربية. قوة التنظيم والخبرة السياسية المتراكمة والنشاط الأيديولوجي والدعائي الذي تتمتع به الجماعات الإسلامية اكسبها سلطة سياسية ومعرفية وجعلها تنصب نفسها الوصية والمدافعة الوحيدة عن المرجعية المعرفية (الدينية) للعقل العربي. العقل الذي لم يسمح له غياب الحريات والقمع السياسي من ان يختبر أي مرجعية معرفية او إنسانية اخري غير المرجعية الدينية.
هذا الواقع جعل الأنظمة العربية تقف في مواجهة تاريخية مع جماعة الاخوان المسلمين التي تملك تراث هائل يمتد لما يقارب مئة عام من النشاط السياسي والديني والتنظيمي والعمل الدعوى والخيري ساعدها على التمدد والتغلغل عميقا داخل الطبقات الفقيرة والمتوسطة في المجتمعات العربية انتهى بها لإنتاج أجيال عابرة لكل الفئات الاجتماعية. بل ان التوسع الهائل في جسد الجماعة يؤهلها لان تتحول لطائفة دينية بسبب التطور الديموغرافي النوعي في بنيتها الاجتماعية الذي يتجلى في قدرتها على رفد نفسها تلقائيا بأعضاء من عائلات الجماعة نفسها في متوالية هندسية لا تتوقف. وهذا ما نلاحظه في السودان الان من ظهور أجيال شابة من الإسلاميين ينحدرون من عائلات إسلامية لم ينتموا للجماعة بطريقة التجنيد التقليدية الشيء الذي يعني ان نسبة كبيرة جدا من العضوية الجديدة للجماعة الإسلامية تنحدر من صلب الجماعة نفسها.
بعيدا عن صخب الالة الإعلامية لجماعة الاخوان المسلمين السودانيين وغير السودانيين، الذين أطلقوا على دولة الإمارات العربية المتحدة لقب “دولة الشر” وذلك عقب تزعمها مهمة اجهاض ثورات الربيع العربي في كل البلدان العربية والقضاء على بعضها من خلال التدخل العسكري المباشر كما في ليبيا وسوريا واليمن ومساهمتها الكبيرة في تغيير الحكم في مصر نفسها. من خلال كل ذلك يتضح بان الهدف الاستراتيجي لدولة الامارات في المنطقة هو هدف سياسي واضح المرامي وهو اجهاض أي فرصة او سانحة تلوح في الأفق ربما تقود الى إمكانية ان يصل الاخوان المسلمين إلى سدة الحكم في اي من البلدان العربية. وهو ليس هدف استراتيجي لدولة الامارات وحدها، بل لكل النظم التقليدية والوراثية في المنطقة العربية من الخليج للمحيط خاصة الممالك العربية.
ورغم ظهور نسخ عدة من الجماعات الإسلامية القابلة للابتزاز والمساومة بما فيها النسخة السودانية المتمثلة في جماعة (كرتي) تحديدا والتي تتحالف مع مصر الان، لكن من طبيعة هذه الجماعات انها غير مأمونة الجانب ولا يمكن التنبؤ بالتحولات المفاجئة التي يمكن ان تحدث فيها مثل قابليتها لتغيير جلدها او ان تحدث فيها صراعات او انقلابات داخلية تدفع بالمتشددين الي الواجهة مرة اخرى وتبدأ فيها دورة أخرى من العنف والعدوانية والرغبة في تصدير أيديولوجيتها. في ظل هذا الواقع تصبح الجماعات الإسلامية هي المهدد الاستراتيجي الذي يقف على اهبة الاستعداد (داخل نواة المجتمعات العربية) لوراثة الأنظمة الملكية وغير الملكية في شبه الجزيرة العربية وحتى في دول المغرب العربي. بعد ان لم يعد هنالك اي تهديد يذكر من التيارات السياسية التقليدية مثل القوميين العرب او الشيوعيين او الليبراليين.
كما قلنا في غياب اي منافسة محتملة الان من أي قوى سياسية اخرى في الفضاء السياسي العربي تصبح جماعة الاخوان المسلمين هي التيار السياسي الأكثر استعدادا للقفز على السلطة في حال عمت الفوضى في اي بلد من البلدان العربية (الان) او حتى من خلال صناديق الاقتراع وما يحدث في السودان ليس استثناء مع بعض الاختلافات في الحالة السودانية. بعد نجاح الثورة في كل من مصر وتونس كانت جماعة الاخوان المسلمين هي الفصيل السياسي الأكثر استعدادا وتنظيما (مواردا وجماهيرا وخطابا اعلاميا) للفوز بالانتخابات وبالتالي الوصول الى سدة الحكم. الان جماعة الاخوان المسلمين تستولي على الحكم في سوريا وتستولي بالكامل على المقاومة الفلسطينية في فلسطين. الشعب الوحيد الذي اختبر حقيقة وعواقب (العيش في ظل حكم الاسلاميين) هم السودانيين لكن مع ذلك لايزالون عرضة للتلاعب بهم من قبل هذه الجماعة.
أنا لا احاول هنا باي حال من الاحوال ان اختلق ذرائع او مبررات لتدخل الامارات في حرب السودان، ولكن فقط اود لفت الأنظار الي الانتقائية المفرطة والخلل المريع في معايير الحكم على الامور وهي السمة الغالبة لمواقف عامة الشعب من الحرب وتطوراتها والتي تؤكد وقوعه ضحية لمكر وتدليس ماكينة الدعاية السياسية لجماعة الاخوان المسلمين مستغلة في ذلك المرجعية الدينية لعموم أبناء الشعب السوداني.
لكن هنالك سؤال ضروري، لماذا تقصى مصر الإسلاميين من الحكم في مصر وتتحالف معهم في السودان؟
مصر اقصت الاخوان المسلمين من الحكم في مصر لأنهم كانوا يشكلون خطرا على وحدتها وهو ما حدث فعلا في السودان حيث تسبب الاخوان المسلمين في تمزيق وحدة السودان حينما دفعوا بالجنوبيين للانفصال. من جهة أخرى تمكنت مصر في عهد الرئيس مبارك في مطلع هذا القرن, بعد ما يقارب عقد كامل من التوتر في العلاقات مع حكومة الانقاذ (من أبرز أسباب التوتر في العلاقات كانت محاولة حكومة الإنقاذ اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في اديس ابابا في 26 يونيو 1995), تمكنت على اثرها مصر من إعادة السودان الى بيت الطاعة بعد نجاحها في تدجين وإخضاع حكومة الاخوان المسلمين لمشيئتها ودفعتهم لتأسيس شراكات في المجالات الأمنية والاستخباراتية متخذة من (اتفاقية الحريات الأربعة) سانحة لعقد شراكات مجحفة جدا في مجال التبادل التجاري وبذلك استعادت كامل نفوذها مرة أخرى في السودان وعززت من مصالحها القومية فيه أكثر من ذي قبل. الان المصريين يعلمون تماما انهم يتعاملون مع فئة مجربة لديهم في قابليتها للابتزاز والمساومة وهذه الفئة هي الضمانة الوحيدة لهم لاستعادة نفوذهم في السودان الى حالته ما قبل ثورة ديسمبر ومن ثم تحقيق أهدافهم الاستراتيجية.
نحن السودانيين بدلا من ان نسعى الى فرض علاقات متوازنة وعادلة مع جيراننا اعتدنا ان ننتظر منهم ان يعاملوننا من منطلق علاقات الجوار تارة والرحم والدين والعرق تارة اخري، وهذا لعمري يعكس قمة السذاجة والغفلة وخفة العقل. معروف ان المصلحة القومية هي المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه السياسة الخارجية لاي دولة حيث من واجب اي دولة (مسئولة) ان تتصرف بعقلانية وتحرص على مراعاة مصالحها الذاتية ووضعها فوق كل الاعتبارات الدينية والثقافية والعرقية وذلك لضمان رفاهية ورفعة شعبها وضمان قوتها وبقائها في ظل نظام عالمي لا يرحم. بل ان الدول تسعي بكل السبل المتاحة للحصول على أكبر المكاسب الاقتصادية والسياسية في الساحة الدولية بما في ذلك استغلال العلائق الدينية والثقافية والعرقية مثلما يفعل معنا المصريين.
الحكومات المصرية من منطلق المصلحة الوطنية البحتة تسعي بكل قوة لتامين مصالحها السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والمائية في السودان وهو امر يمليه الواجب الوطني للمسؤولين المصريين الذين يعملون بإخلاص ومسئولية على وضع مصلحتهم القومية فوق كل اعتبارات اخري. لكن ما لم ندركه نحن السودانيين ونستمر في عدم ادراكه ان مصر دولة مستقلة في محيطها وجغرافيتها الخاصة وان السودان بنفس القدر دولة مستقلة وان موقع الجوار، التاريخ المشترك، العقيدة وحتى التداخل الاثني والعرقي لا يجعل من مستوى العلاقة أكثر من كونها علاقة بين كيانين مستقلين كامل الاستقلال عن بعضهم البعض، كل منهما يسعي في هذا العالم لتحقيق مصالحه الوطنية حتى ولو على حساب الاخر.
فيصل خليفة

faikhalifaisal@gmail.com

شاهد أيضاً

الفرق بين بيراميدز وهلاريخ

في وصول بيراميدز في سنوات قليلة إلى المباراة النهائية في البطولة الأفريقية، والتي أتمنى أن …