تحدثت في الحلقتين السابقتين عن الأجواء التي سبقت انقلاب البرهان/ حمدان المدعوم من الحركة الإسلامية على الفترة الانتقالية، ووقفت عند محطة انقلاب بكراوي في سبتمبر ٢٠٢١، وأشرت قبل ذلك إلى التوتر الذي حدث بين الجيش وقوات الدعم السريع في يونيو ٢٠٢١، ثم كيف تصالح الجنرالان وانقلبا على المدنيين؟.وجاء شهر أكتوبر،
و استمرت المواجهة، و بلغت أوجها خلال اجتماع مجلس الدفاع والأمن عندما قدم وزير الداخلية الفريق عز الدين الشيخ، تنويراً عن الأوضاع بشرق السودان، وطالب تفويضاً بنشر قواته لحماية الطريق القومي بعد أن أكدت الأجهزة الأمنية في تقاريرها اتجاه المجلس الأعلى لنظارات البجا لتنفيذ خطته بإغلاق الموانئ والطريق الذي يربط الخرطوم ببورتسودان، لكن الفريق عبد الفتاح البرهان، رفض مقترح الوزير، ووصفه بأنه مجرد ضابط شرطة، وأن هذا ليس شأنه، بل هو شأن السياسيين.
اقترح وزير شئون مجلس الوزراء خالد عمر يوسف، اتخاذ إجراءات استباقية بنشر قوات الشرطة لحماية الشارع الرئيسي، إلا أن البرهان، تجاهل حديث الوزير، وهنا تدخل قائد الدعم السريع حميدتي، قائلاً ” انتو لما تقفلوا شارع الستين في زول بسألكم؟”وسعى قائد الجيش لتحويل الاجتماع الى نقاش حول مسائل إجرائية وقوانين لم يكن ذلك الاجتماع الوقت المناسب لمناقشتها،
ادلهم الليل، وعاد قادة المكون العسكري إلى ممارسة سياسات الهروب إلى الأمام، وقيادة الأوضاع الى حافة الهاوية، وعطَّل البرهان الاجتماعات، وجمَّد عمل المؤسسات، مثل المجلس السيادي، مجلس الدفاع والأمن، المجلس الأعلى للسلام، مجلس الشركاء. ونقل إدارة الخلافات إلى الهواء الطلق في إشارة إلى خطورة الوضع، وتهديد أمن المواطن، ثم شرع العسكر في تنفيذ خطتهم بشد البلاد من أطرافها، وكانت البداية من الشرق باستخدام الناظر سيد محمد الأمين ترك، بالاستفادة من موقع البحر الأحمر، الموانئ، المداخل والمخارج، والشوارع شرايين الحياة التي تربط الميناء ببقية مناطق السودان.
ما تم في شرق السودان يعتبر أكبر فضيحة في تاريخنا السياسي، وتعتبر خيانة وجريمة قانونياً؛ تتوجب تقديم المتورطين فيها إلى محاكمة عادلة،
يقدر اقتصاديون أن خسارة البلاد بسبب الاغلاق تصل شهرياً إلى مليار دولار، شاملةً قيمة الصادرات والواردات والترحيل، والنقل، والتأمين، ونتيجة ذلك رفعت شركات التأمين قيمة التأمين على السفن التي تعمل في خط بورتسودان، فيما اضطرت فيه الحكومة المدنية إلى البحث عن بدائل منها ميناء العين السخن المصري، بعد أن حاصر العسكريون في الشرق الحكومة الانتقالية.
أغلق العسكر الموانئ البحرية، والطريق الرئيسي الذي يربط بين بورتسودان وبقية أنحاء البلاد، ليرتكب أكبر حماقة وطنية ، أن يتآمر رئيس سيادي ونائبه على شعبه، هدف الإغلاق الكامل إلى خنق الحكومة المدنية حتى يثور ضدها الناس، بعد أن يتوقف وصول المؤن الغذائية، والأدوية المنقذة للحياة.ليس مهماً مقدار الأذى الذي يلحق بالمواطنين بقدر ما كان المهم للعساكر هو تنفيذ أجندة فلول البشير، والوفاء بما تعاهدوا عليه مع الأمين العام للحركة الإسلامية علي كرتي، اتفقوا على إزاحة ابن عوف، بعد أن رفضه الشارع من أول بيان، ثم أمروا قادة الجيش بخطوات تنظيم، أن يخرج أعضاء اللجنة الأمنية جميعهم، ويتم تبديل الفريق بآخر، بشرط عدم التعدي على مؤسسات وأموال الحركة الإسلامية وقيادتها، وتقضي الخطة بإجراء انتخابات صورية تحت رعاية العسكر، بعد أن يهدأ الشارع، وينخفض الصوت الثوري، ليعود الإسلاميون من جديد، جميعهم عدا عمر الشير، وبعض من قادة الحرس القديم.ولم يكن المجلس الأعلى لنظارات البجا إلا مجرد لافتة للتمويه، لأن كل ما تم من تآمر كان بتخطيط وتنفيذ المكون العسكري بشقيه، لهم الفكرة والتمويل، ودفع المال وسيارات الدفع الرباعي للمشاركين في خطة الإغلاق.للبجا قضية عادلة، وهذا ما ظللنا نردده كثيراً،
و مؤكد أن من ضمن أخطاء قوى الحرية والتغيير والحكومة المدنية اهمالهم الشرق، وقد بدأ الإهمال بأسقاط تمثيلهم في الجسم السياسي حيث خلت كل هياكل الحرية والتغيير من أبناء شرق السودان، وظهر هذا الاقصاء/ الإهمال/ النسيان منذ تشكيل وفد التفاوض، ثم تعيين ناطقين باسم تجمع المهنيين، واستمر في الفشل في تجذير العمل التنظيمي والجماهيري والسياسي على المستوى القاعدي؛ في تلك الأصقاع النائية، وفتح حوار مع قادة القبائل، وتطمينهم بأنهم جزء من التغيير، لا بتخويفهم بأنهم هم هدف التغيير.
نشير هنا إلى أن الإدارة الأهلية نشرت علاقات تزاوجها مع السلطة منذ عهد الاستعمار البريطاني، ويقول بروف تيسير محمد أحمد علي، في كتابه زراعة الجوع، ص٦٩ ” وجدت القيادات القبلية في فترة الحكم الثنائي فرصة واسعة لمراكمة الثروة وإعادة استثمارها في نشاطات اقتصادية مجزية”. ويؤكد تيسير، أن السلطة الاستعمارية فقدت الثقة في المتعلمين والاعتماد عليهم، ونفذت إجراءات أدت إلى اضعاف الدور المصري في السودان، وبنت كل سياساتها على الثقة في الإدارات الأهلية والقبلية.
بالطبع استغلت الحركة الإسلامية ذلك الواقع خلال ثلاثين عاماً، فارتبطت تنظيمياً بغالبية قيادات القبائل، ومنهم شرق السودان حيث كان ترك، عضواً في المؤتمر الوطني، ونائباً في المجلس الوطني، فاستغلوا نفوذه القبلي وسطوته كناظر في مجتمع تتدنى فيه نسبة التعليم، والخدمات، بل يغيب فيه الظل الإداري الحكومي الرسمي، فلا توجد مؤسسات سوى النظار وقادة القبائل، الذين ارتبطوا في الشرق بقيادات نافذة في المؤتمر الوطني مثل موسى صالح ضرار، ومحمد طاهر إيلا، وإبراهيم محمود حامد.
لذلك لا يحتاج التربص بحكومة النخب المدنية؛ إلا لتنشيط الحلقات القديمة، وتفعيل رموزها، وتحريك لاعبيها على الأرض. للمفارقة سمح الذين أعلقوا الموانئ والطرق بتمرير نفط جنوب السودان، بتوجيه من الفريق شمس الدين الكباشي، خلال زيارة لبورتسودان، بل وتعهد الجنرال بحماية اعتصام المجلس الأعلى لنظارات البجا، التي منعت في فترة حتى مرور الدواء والمساعدات الانسانية قبل أن تمارس الأمم المتحدة ضغوطها.ونشرت وكالة الأناضول أن ” السلطات السودانية أعلنت، توصل وفد حكومي زار بورتسودان إلى اتفاق بشأن السماح بمرور صادر بترول دولة جنوب السودان عبر ميناء بشائر. وأوضح بيان صادر عن مجلس السيادة اطلعت عليها الأناضول، “أن الوفد الحكومي برئاسة شمس الدين كباشي عقد اجتماعا مع لجنة أمن ولاية البحر الأجر ووفد “مجلس نظارات البجا والعموديات المستقلة” (مجلس قبلي). وأضاف البيان: “تم الاتفاق على السماح لصادر بترول جنوب السودان بالمرور”. يذكر أن جوبا كانت قد أبرمت اتفاقا مع الخرطوم في عام 2012، يقضي بدفع 24.5 دولارا عن كل برميل نفط يتم تصديره عبر السودان. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2019، أعلنت الحكومة السودانية تمديد هذا الاتفاق حتى مارس/آذار 2022. ووفق بيان مجلس السيادة، أكد عضو المجلس شمس الدين كباشي، ضمان أمن الحراك الأهلي لـ”المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة” وعدم التعرض له من أي جهة حتى يتم التوصل لاتفاق نهائي بشأن القضية.فيما أكد رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا، محمد الأمين ترك، قبولهم المبدئي بالمقترحات التي قدمها الوفد الحكومي وطلبهم إمهالهم مدة أسبوع للتشاورـ بحسب البيان ذاته، لكن كان الهدف الرئيسي الذي أعلنه الناظر ترك، وقادة المجلس الأعلى هو اسقاط حكومة حمدوك، واستيلاء الجيش على السلطة وتشكيل حكومة ” كفاءات وطنية” أو ” تكنوقراط”.
أخذت أصوات المتربص بالانتقال تعلو يومياً، عزفوا المعزوفات القديمة، وغنوا الأغاني الجنائزية، ورقصوا على ايقاعات المارشات العسكرية، كان الجنرالات عند كل زيارة لهم لقاعدة عسكرية؛ يتحدثون عن مطامع المدنيين، وعن انقساماتهم، وعن ضعفهم، وعن فشلهم، ثم لا تكتسي أوداج العسكريين حمرة حياء عندما يظهرون شغفهم هم بالسلطة بقوة السلاح، وإصرارهم على السيطرة على المؤسسات الأمنية والعسكرية.
باتت كل التصريحات الصادرة من القادة العسكريين موجهة للتعبئة الداخلية، فالبرهان يتحدث عن محاولات الحرية والتغيير لتفكيك الجيش بدعاوى استرداد الشركات التجارية والاقتصادية، أما حميدتي، فلم يفوت فرصة لمهاجمة الحكومة المدنية واتهامها بالفشل، وفي تصريحات أمام معلمي الشهادة السودانية، تمسك بتبعية الشرطة وجهاز المخابرات العامة للمكون العسكري وعدم تركهما للحكومة الانتقالية المدنية حتى لا تستغل للبطش بالمواطنين، على حد قوله.
ونواصل في كواليس الانتقال..
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم