متى ينتهي هذا الجنون؟
صرخة امرأة من هامش الشمال يتردّد صداها في مأساة الفاشر
د. مريم محمد عبدالله وقيع الله
قبل أكثر من عام، وقفت امرأة في قرية قوزهندي المنكوبة بالسيول بشمال السودان، تواجه رئيس مجلس السيادة، الفريق عبد الفتاح البرهان، وتصرخ بمرارة:
“كفاية… أوقفوا هذه الحرب يا برهان! تعبنا نحن النساء واطفالنا من التشريد والموت والجوع!”1
كانت تلك الصرخة تختزل وجع أمة بأكملها؛ امرأة فقدت منزلها في الخرطوم تحت وابل القصف، فهربت بأطفالها وعدد من الأسر إلى قريتها الأصلية في الشمال بحثًا عن الأمان.
لكن الأقدار لم تمهلهم طويلًا، إذ اجتاحت السيول قريتهم الفقيرة وجرفت بيوتهم المتهالكة، تاركةً النساء والأطفال يعيشون في العراء مرة أخرى، ضحايا للحرب والنزوح والكارثة الطبيعية في آنٍ واحد.
تلك الصرخة التي خرجت من قلب امرأة بسيطة، كان يمكن أن تكون جرس إنذار مبكرًا لو أُصغيت بضميرٍ حي.
فلو استجابت قيادة الجيش آنذاك لصوتها، لربما أُوقفت الحرب قبل أن تتحول إلى نهر من الدم والدمار، ولما شهدنا الفاشر اليوم تغرق في هذا المشهد المأساوي الذي يعيد إلى الأذهان أسوأ فصول تاريخ السودان الحديث.
“الفاشر… من مدينة محايدة إلى مأساة إنسانية مفتوحة”
في بداية الحرب، برز اتجاه عقلاني داخل دارفور لجعل مدينة الفاشر منطقة محايدة، بعد دعوة قادة الإدارة الأهلية هناك إلى تحييدها عن الصراع. وبالفعل، أصبحت المدينة في تلك الفترة ملاذًا لعشرات الآلاف من النازحين الذين فرّوا من المدن التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع.
ففي نوفمبر 2023، خرجت بعض الحركات المسلحة المنضوية تحت لواء القوات المشتركة عن حيادها، وانضمت إلى القتال إلى جانب الجيش الذي يسيطر عليه قادة من الإسلاميين التابعين للنظام المخلوع.2 وهي المفارقة التي لا تخطئها العين، إذ إن هؤلاء القادة أنفسهم، خلال سنوات حكمهم السابقة، استعانوا بميليشيات الجنجويد وأنشأوا منها لاحقًا قوات الدعم السريع للقضاء على هذه الحركات ذاتها.
هذا التناقض يعرّي بوضوح كيف تُدار قضايا ومصائر المجتمعات المحلية المهمَّشة في دارفور، وكيف تُستخدم معاناة أهلها كورقة مساومة في صراعات السلطة بين قادةٍ يدّعون الدفاع عنها بينما يتاجرون بدمائها ومآسيها.
ومنذ تلك اللحظة، بدأت المدينة تنزلق بسرعة نحو الهاوية.
ورغم الجهود المتكررة للوساطة ومنع اندلاع القتال، الا ان الانصياع لخطاب الحرب وأطماع الإسلاميين جرّ الأطراف الدارفورية إلى حرب استنزاف طويلة كانت نتيجتها هذه المأساة الختامية التي نشهدها اليوم. و كما كتب أحد الناشطين،
” كان ممكن نتفاداها بخمسة ستة كراسي وطربيزة و ورقة وقلم وشوية ناس عاقلين “3
لكن مأساة الفاشر لا تختزل في مشاهد الأيام الأخيرة وحدها. فالمدينة تعرضت خلال العامين الماضيين لأكثر من 250 هجومًا من قوات الدعم السريع، تصدّت لها في الغالب القوات المشتركة والمستنفرون من أبناء المدينة، كثير منهم من أبناء معسكرات النازحين الذين ورثوا جراح حرب دارفور الأولى. الإسلاميون بشكل واعي و ممنهج استثمروا هذه الغبائن التاريخية لإبقاء نار القتال مشتعلة، مراهِنين على أن استمرار النزاع سيمنحهم فرصة لاستعادة السلطة.
في كل هجوم، كانت الفاشر تدفع ثمنًا فادحًا من الأرواح. حيث سقط مئات القتلى من الجانبين، خلفوا وراءهم أمهاتٍ ثكالى، وزوجاتٍ أرامل، وأطفالًا أيتامًا، يحملون في صدورهم جراحًا وغبائن ستورَّث إلى الأجيال القادمة، لتغذّي دوامة الانتقام والعنف من جديد.
ومن جهةٍ أخرى، كان المدنيون هم الأكثر تضررًا من هذه المأساة؛ إذ تحوّلوا إلى ضحايا للطلقات الطائشة، ودانات المدافع، وغارات الطيران، يعانون وسط ذلك من الجوع والحصار وانعدام الرعاية الصحية، تحت وطأة الطوق الخانق الذي فُرض على المدينة لأشهر طويلة.
ثم جاءت الكارثة الكبرى مع الانسحاب المفاجئ لقيادة الفرقة السادسة بالفاشر، تاركةً جنودها والقوات المشتركة والمدنيين المحاصرين في مواجهة مباشرة مع قوات الدعم السريع، المنتشين بدخول مقرّ الفرقة، والمتعطشين للانتقام لقادتهم وجنودهم الذين قُتلوا في الفاشر، وبعضهم تعرّضت جثثهم للتمثيل بعد مقتلهم.
كان المشهد فوضويًا ودمويًا — نهاية مأساوية لمدينةٍ كانت يومًا رمزًا للتعايش، قبل أن تُحرق بنيران حسابات السياسيين والعسكر.
“تحوّلات مسار الحرب ومخاطر الانهيار الشامل”
ما يزيد المخاوف اليوم هو تصاعد الخطاب العنصري البغيض الذي تغذيه أبواق إعلامية من الطرفين. خطاب محمّل بنعرات قبلية واستدعاء لأحداث تاريخية تُستخدم لإشعال الغبائن. وللأسف، فقد انطلى هذا الخطاب على بعض النخب المتعلّمة والناشطين المنحازين للثورة، الذين كان يُفترض أن يكونوا في مقدمة من يواجهون هذه السرديات السامة، لا أن يرددوها. حين تمتزج المظالم القديمة بروح الانتقام، يتحول الغضب المشروع إلى كارثة جديدة. والتاريخ السوداني، القريب والبعيد، يحمل شواهد كثيرة على أن هذا الطريق لا يؤدي إلا إلى جحيمٍ أكبر مما شهدناه في الفاشر أو الخرطوم أو دارفور.
الواقع المرير يشير إلى أن السودان يقف اليوم أمام منعطف خطير. فبعد أن أصبحت كل دارفور عمليًا تحت سيطرة قوات الدعم السريع، فإن عدم إيقاف الحرب في هذه اللحظة الحرجة يعني ببساطة فتح الباب أمام تمدّدها إلى كل مدن وقرى كردفان، ثم إلى الشمال والشرق. في تلك المناطق، التي لجأ إليها ملايين المشردين من الخرطوم ودارفور، يعيش الناس اليوم حالة من الاختناق الإنساني وسط انعدام الخدمات وندرة الموارد وارتفاع الأسعار بصورة غير مسبوقة. وإذا ما وصلت نيران الحرب إلى هناك، فلن يجد هؤلاء النازحون ملاذًا آخر. ستتشرد الأسر مجددًا، وستتكرّر المأساة في مناطق كانت حتى وقت قريب مأوى للناجين من الجحيم.
في هذه الحرب، لا يمكن الحديث عن نصر. الجيش يخسر جنوده وفشل في حماية المدنيين، والدعم السريع يستولي علي مناطق مدمرة وبيئة اجتماعية مفككة و معادية يصعب ادارتها . المدنيون وحدهم من يدفعون الثمن — أرواحًا وجوعًا وتشريدًا. ومع كل يوم جديد، تتآكل بنية الدولة أكثر، وينهار الاقتصاد، وتنهار معه مؤسسات القضاء والتعليم والصحة.
لقد أصبح واضحًا أن هذه الحرب لم تعد مجرد صراع بين جنرالين على السلطة، بل صراع وجودي بين مشروعين متناقضين في جوهرهما. فمن جهة، تقاتل تيارات الإسلاميين داخل الجيش في محاولة يائسة لاستعادة سلطتها المطلقة التي حكمت بها البلاد لعقود، مستندةً إلى خطاب ديني وسياسي يبرر الهيمنة ويخشى التغيير.5 ومن الجهة الأخرى، ترفع قوات الدعم السريع شعارات المهمّشين وتتبنّى سردية اقتلاع “دولة 56″، تلك الدولة التي فشلت في تحقيق العدالة والمواطنة المتساوية منذ الاستقلال.
ورغم ان قوات الدعم السريع نجحت مؤخرا في خلق تحالف تأسيس الذي ضم عدد من حركات النضال المسلح واهمها الحركة الشعبية لتحرير السودان التي تتبني مشروع السودان الجديد الا ان الاتفاق ادي عمليا لتفتت كتلة القوي السياسية و المدنية التي يعول علي توحيد صفوفها للعب دور في انهاء الحرب. وبالتالي رغم ان ميثاق اعادة تاسيس الدولة السودانية تم بناءا علي رؤية السودان الجديد التي تعتبر مثالية لحل المعضلة السودانية التاريخية الا انه لن يوفر حلا في ظل هذه الانقسامات السياسية و تمزق النسيج المجتمعي والمقاومة الشرسة للنظام القديم الموروث من الاستعمار و الذي تم اعادة هندسته بواسطة الاسلاميين.6
وبين هذين المشروعين المتصارعين، يقف الشعب السوداني، وحيدًا في مأساته، أعزل ومحاصر ومنسيّ، يُسحق بلا رحمة تحت الأقدام في صراعٍ لتصفية الحسابات بين الطامحين إلى السلطة والناقمين عليها، دون أن يُمنح حتى حقّ أن يُسمَع صوتُ استغاثته.
إن استمرار الصراع بلا أفق سياسي أو إنساني يجعل من تمدد الحرب مسألة وقت لا أكثر، ما لم يتحرك السودانيون ، مدنيين وعسكريين، بعقلانية و حكمة و شجاعة لإيقاف الانهيار قبل أن يبتلع البلاد كلها.
“الحل في أيدي السودانيين… لا في الخارج”
وسط هذا الخراب، يظل الأمل الحقيقي في وعي السودانيين أنفسهم؛ فالحل لن يأتي من الخارج، مهما تعددت المبادرات. لقد سعى المجتمع الدولي إلى التوسط لوقف الحرب في عدة محاولات، كان آخرها مبادرة الرباعية (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، ومصر)، لكنها لم تنجح بسبب تعنّت الإسلاميين ورفضهم لأي تسوية لا تضمن عودتهم إلى السلطة. وأي حل يُفرض من الخارج لن يكون في مصلحة البلاد، لأن مصالح تلك الدول ليست بالضرورة متطابقة مع تطلعات السودانيين وطموحهم في السلام والعدالة.
لذلك، على النخب السياسية والمدنية أن تستغل هذا الاهتمام الدولي كفرصة لا كمنقذ، وأن تستعد لتكون طرفًا أصيلًا في الحل، لا متلقيًا لتسوية تُفرض من الخارج.
والأولوية الآن يجب أن تكون لتكثيف حملات التوعية — عبر كل الوسائل المتاحة — لوقف تصاعد خطاب الكراهية والعنصرية، ووضع حدٍّ لهذا الانحدار الخطير الذي يهدد بانزلاق البلاد إلى مستنقعٍ من الدماء والعنف لا ينجو منه أحد.
كما أن على النخب السياسية والمدنية أن تتحرر من خدع الإسلاميين وشباكهم المنصوبة لتخوين كل من يحاول تفنيد سرديتهم الداعية لاستمرار الحرب، وأن تتحمل مسؤوليتها التاريخية بتوحيد كلمتها، وذلك لا يتم إلا بالاستماع لبعضها البعض بعقلٍ وقلبٍ مفتوحين، وبإرادة صادقة لإيقاف نزيف هذا الوطن المنكوب، ووضعه على مسار تطورٍ منصفٍ ومستدامٍ يعزز الاستقرار والتعايش السلمي.
فكل تأخير في الحل يعني مزيدًا من الموت والدمار، ومزيدًا من التفتت والانقسام، وتحويل السودان إلى ساحة مفتوحة لصراع القوى الدولية.
“صوت المرأة… ضمير الضحايا المغيَّب”
في نهاية المطاف، تبقى صرخة تلك المرأة الشجاعة المرآة الصادقة لمأساة ضحايا الحرب؛
صرخة خرجت من قلبٍ مكلوم، تحمل وجع الأمهات، ورعب الأطفال، وصبر النساء اللواتي يواصلن الحياة رغم كل شيء.
لم تكن تنطق باسم نفسها، بل باسم وطنٍ بأكمله يئنّ تحت ثقل الحرب والجوع والتشريد.
وحتى اليوم، ما زال صداها يتردد في كل مدينة وقرية ومعسكر نازحين:
“كفاية… أوقفوا هذه الحرب.”
فهل يسمعها — ولو بعد حين — قادة السودان، عسكريين ومدنيين، ويصغون لصوت العقل والحكمة، قبل أن لا يبقى من الوطن سوى رماد؟
المراجع:
1- امرأة تستغيث امام البرهان . لا للحرب يابرهان https://www.youtube.com/watch?v=aof3ADE7uSs
2- الشرق الاوسط (16 نوفمبر 2023) الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا تعلن إنهاء الحياد والقتال ضد «الدعم السريع» https://aawsat.com
3- عبدالمالك موسي (Facebook 27.10.2025) الفاشر كانت محرقة لابناء دارفور https://www.facebook.com/abdulmalik.musa.929771?locale=de_DE
4- الحدث (27 اكتوبر 2025) البرهان: سنقتص لأهالي الفاشر.. ووافقنا على انسحاب الجيش لمكان آمن https://www.youtube.com/watch?v=gDtJo5mpZH4
5- مريم وقيع الله (10 أغسطس 2025) من هندسة الهيمنة إلى التفكيك العنيف (1-5) https://sudanile.com
6- مريم وقيع الله (12 أغسطس, 2025) من هندسة الهيمنة إلى التفكيك العنيف (3-5) https://sudanile.com
7- مريم وقيع الله (17 أغسطس 2025) من هندسة الهيمنة إلى التفكيك العنيف (5-5) https://sudanile.com
marfa_1998@hotmail.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم