من تسييس المؤسسات إلى دولة المؤسسات (2)

المقال الثاني: السودان بين فشل المفهوم وتحدي الإصلاح – حين ضاع المعنى بين المؤسسة والدولة
عبده الحاج 18 أكتوبر 2025

منذ فجر الاستقلال، والسودان يعيش في دائرةٍ مغلقةٍ من التوتر بين الحكم المدني والحكم العسكري، بين الحزبية الضيقة والسلطة المطلقة، وبين الحلم بالدولة الحديثة والواقع الذي يبتلع ذلك الحلم عند أول منعطف. جوهر هذا الفشل المتكرر لا يكمن في الأشخاص ولا في النيات، بل في المفهوم ذاته: مفهوم العلاقة بين المؤسسة والدولة، وبين الخدمة والحكم. لقد تحولت المؤسسات التي صُمّمت لتخدم الناس إلى أدوات تتنافس على السلطة، وأصبح ميزان الحكم يُقاس بوزن البندقية لا بوزن القانون.

تسييس المؤسسة وهشاشة الدولة

حين تتسيّس المؤسسة، تضعف الدولة. هذا ما حدث مرارًا في التجربة السودانية. فكل انقلابٍ بدأ بشعار “تصحيح المسار” انتهى إلى مسارٍ أكثر التواءً، وكل مرحلة انتقالية بُنيت على المحاصصة المغلوطة انهارت عند أول اختبار. في كل مرة كانت نفس الأخطاء تتكرر: غياب الوعي بدوري المؤسسة، وانعدام الفصل بين الوظيفة العامة والقرار السياسي، وغياب الرقابة المجتمعية الفاعلة التي تستطيع أن تحاسب وتحذّر وتصحح. كانت النتيجة واحدة، دولةٌ هشة تتنازعها الأيديولوجيا وتفتك بها الولاءات، بينما تضيع هيبة المؤسسات وتفسد الخدمة العامة ويترسخ الشعور بأن الوطن بلا بوصلة.

الصراع الدائر اليوم بين الجيش والدعم السريع هو استمرارٌ لذلك الخلل المؤسسي القديم الذي نشأ من تسييس المؤسسة. فبدل أن تكون أجهزة الدولة مظلةً واحدةً للوطن، أصبحت ساحاتٍ متقابلةً للنفوذ. لم ينشأ هذا الصراع فجأة، بل كان ثمرةً طبيعية لعقودٍ من غياب المفهوم المؤسسي السليم، حيث استُبدلت الدولة بدوائر النفوذ، وحيث غاب الرأي العام المستنير الذي يحاسب ويقاوم الانحراف في بدايته قبل أن يتحول إلى حربٍ شاملة.

الرأي العام المستنير صمام الأمان

في تجاربٍ أخرى حول العالم، كان الوعي الشعبي والرأي العام الواعي هو صمام الأمان أمام الانحراف المؤسسي. في كوريا الجنوبية مثلًا، لم يكن التحول إلى الديمقراطية نتاج انقلابٍ مضاد، بل ثمرة رأي عامٍ متعلّمٍ وفعّالٍ خرج إلى الشوارع مطالبًا بسيادة القانون وإخضاع المؤسسة العسكرية. وفي تشيلي، لم يسقط الحكم العسكري بالمدافع، بل بإرادةٍ مدنيةٍ مستنيرةٍ نجحت في فرض دستورٍ جديد يضع الجيش تحت رقابةٍ مدنيةٍ منتخبة. هذه النماذج تعلمنا أن المؤسسات لا تُصلح من القمة، بل تُحرس من القاعدة.

أما في السودان، فإن ضعف الرأي العام المستنير كان ولا يزال من أكبر معوقات الإصلاح. لقد أُفرغت الساحة العامة من التفكير النقدي، وسيطر الخطاب العاطفي الذي يقدّس الأشخاص بدل المبادئ، ويبرر الفشل باسم الولاء، ويغطي على الفساد باسم “المصلحة الوطنية”. في غياب الرأي العام الواعي، تصبح المفاهيم المقلوبة هي اللغة السائدة، فيُختزل الوطن في جماعة، والمواطنة في ولاء، والدولة في زعيم. حين يغيب الوعي، يُغتال المفهوم، ويُصادر العقل الجمعي لصالح دعاة القوة، فيتكرّر الانهيار جيلاً بعد جيل.

الشباب.. طليعة الوعي الجديد

لكن ما يبعث على الأمل هو أن جيلاً جديدًا من الشباب، من الجنسين، بدأ يدرك خطورة هذا الإرث ويبحث عن معنى جديد للانتماء. هؤلاء الشباب، سواء كانوا من خارج الأحزاب أو من داخلها، يشكّلون اليوم الرأي العام المستنير الذي يمكن أن يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع. فالشباب الذين زهدوا في العمل الحزبي لم يزهدوا في الوطن، بل في الأشكال القديمة التي عطّلت الوطن. والشباب الذين ظلّوا داخل الأحزاب يحملون روحًا وطنية خالصة، يقدّمون المصلحة العامة على مصلحة التنظيم، هم اليوم رأس الرمح في بناء وعيٍ جمعيٍّ جديدٍ يراقب أداء الدولة وينتقد بجرأة ويقترح بوعي.

إنّ قيام دولة المؤسسات لا يكون بقراراتٍ فوقية، بل بوعيٍ جمعي يرفض تسييس أجهزة الدولة ويطالب بمحاسبة كل من يعبث بها. الدولة القوية لا تحتاج إلى حزبٍ مهيمن، بل إلى مجتمعٍ قويٍّ قادرٍ على الفهم والمساءلة. هذا هو جوهر الإصلاح الحقيقي الذي لم تعرفه التجربة السودانية بعد. الإصلاح يبدأ من الفرد، لا من المكاتب، ومن العقل لا من الشعارات. فحين يدرك المواطن أنه المالك الحقيقي لزمام الأمر، وأنّ المؤسسات إنما وُجدت لخدمته لا لتتسلط عليه، يستعيد المجتمع توازنه، وتستعيد الدولة معناها، ويصبح الاستقرار نابعًا من الداخل لا مفروضًا من فوق.

معركة العقول هي الأصل

إنّ الرأي العام المستنير هو أقوى ضمانةٍ ضد تكرار الانقلابات والانقسامات. فهو الذي يزرع ثقافة المساءلة ويمنع احتكار السلطة باسم “الضرورة الوطنية”، وهو الذي يحمي المؤسسات من التحوّل إلى أدوات طغيان. وإذا كان تاريخ السودان قد علّمنا أن تسييس المؤسسة يهدم الدولة، فإنّ التجارب العالمية تعلّمنا أن غياب الوعي الشعبي هو الذي يسمح بذلك التسييس أن يحدث ويستمر. لذلك، فإنّ معركة السودان الحقيقية ليست فقط مع البنادق، بل مع المفاهيم. والنصر فيها لا يتحقق بالسلاح، بل بالوعي، ولا يُقاس بعدد الاتفاقيات، بل بقدرة الناس على إدراك ما تعنيه الدولة وكيف تُبنى وتُحكم وتُراقَب.

إنّ السودان يقف اليوم أمام مفترق طرق حاسم: إما أن يستمر في إعادة تدوير الفشل تحت لافتاتٍ جديدة، أو أن يختار طريق الإصلاح العميق الذي يبدأ من المفهوم وينتهي بالمؤسسة. ولن يتحقق هذا الخيار إلا عندما يدرك المواطنون، وفي مقدمتهم الشباب، أن دورهم لا ينتهي عند اسقاط الأنظمة القمعية، أو عند صناديق الاقتراع، بل يبدأ منها. فعندما يتحوّل الرأي العام إلى وعيٍ رقابيٍّ حيّ، وعندما يصبح العقل الجمعي قوةً فاعلة في تصويب المسار، عندها فقط يمكن القول إنّ السودان بدأ أولى خطواته نحو الدولة الحديثة التي يعيش فيها الناس تحت حكم القانون، وتعمل فيها المؤسسات لخدمة المواطن، ويظل فيها الوعي الشعبي حارسًا دائمًا لاستقرارها وديمومتها.

(نواصل: سأتناول في الحلقة القادمة أهمية الوحدة الوطنية كشرط لنجاح أي تسوية والربط بجهود الرباعية لمحاولة الخروج من الازمة الحالية).

عن عبده الحاج

عبده الحاج

شاهد أيضاً

ميثاق ودستور تأسيس .. هل من عاصم من تفتيت وحدة البلاد وشعبها؟

عبده الحاج – مارس 2025 قامت الكتلة الموقعة على ميثاق السودان التأسيسي بصياغة والتوقيع على …