الحلقة الثالثة: نحو تسوية عادلة وبناء مؤسسي
الوعي والوحدة طريق الخروج من الحرب
عبده الحاج 20 أكتوبر 2025
يأتي هذا المقال ضمن سلسلة “من تسييس المؤسسات إلى دولة المؤسسات”، التي تسعى إلى تفكيك المفاهيم المغلوطة التي كبّلت الدولة السودانية منذ الاستقلال، وإعادة طرح مفهوم الدولة كمؤسساتٍ خدمية محايدة تخضع للقانون لا للنفوذ، وتستمد قوتها من وعي الشعب ورقابته، لا من مركز السلطة وحده. في هذه الحلقة الثالثة، نتناول مفهوم الوحدة الوطنية، لا كشعارٍ سياسي، بل كشرطٍ أساسي لبناء الدولة الحديثة وتحقيق السلام الدائم.
السودان بين مفترق الحرب والسلام
يقف السودان اليوم عند مفترق طرق حاسم. فبعد أكثر من عامٍ ونصف من حربٍ مدمّرة، تتكاثف المبادرات الدولية والإقليمية لإنهاء النزاع، وفي مقدمتها جهود الرباعية بقيادة الولايات المتحدة. لكن السؤال الأهم ليس متى تتوقف الحرب، بل كيف يمكن ألا تعود؟ فوقف إطلاق النار لا يساوي السلام، والسلام لا يتحقق إلا حين تُبنى الدولة على المفاهيم الصحيحة وتستند إلى مؤسساتٍ راسخة ووعيٍ وطنيٍ جامع.
الوحدة المفقودة ودور الدولة المحلولة
لقد كشفت سنوات ما بعد سقوط نظام عمر البشير عمق أزمة المفاهيم والانقسام في السودان. فبعد أن كانت الثورة لحظة وحدةٍ نادرة، اصطفّ فيها كل السودانيين خلف كيانٍ رمزي غامض اسمه “تجمع المهنيين”، لم يكن أحد يعرف من فيه ولا من يقف وراءه، لكنه مثّل رمزًا للأمل في دولة العدالة والمساواة والمحبة والتعايش السلمي. كانت ساحة اعتصام القيادة العامة تجسيدًا لوطنٍ جديدٍ يولد من رحم الألم: وطنٍ يسع الجميع بلا تمييز ولا خوف ولا حواجز. غير أن تلك الروح النبيلة سرعان ما تراجعت، إذ عادت الانقسامات القديمة لتطلّ برأسها، وانقلبت الوحدة إلى تنافسٍ محمومٍ على النفوذ والمناصب. تعثّرت تجربة الانتقال المدني، وضاعت بوصلة الثورة بين الشعارات والمصالح، وغاب صوت الوطن في زحمة الأصوات المتناحرة.
هذه الانقسامات لم تكن عفوية، بل وجدت من يغذّيها ويستثمر فيها. فـ(الدولة المحلولة) التي سقطت في أبريل 2019 لم تختفِ تمامًا، بل بقيت بقاياها من سدنة النظام القديم تعمل في الظل، تبثّ الفتنة وتزرع الشقاق وتنشر القبلية وخطاب الكراهية بين السودانيين، كانت تدرك أن بقاءها مرهونٌ بإفشال أي مشروعٍ وطنيٍ جامع، فعملت على ضرب الثقة بين الفصائل، وإحياء النعرات التي تجاوزتها الثورة. هكذا تحوّل الأمل إلى انقسام، وتحولت الثقة إلى ريبة، ووجد الوطن نفسه أسير دوامةٍ من الشك والاتهام المتبادل.
لكن من الإنصاف القول إنّ الأرضية الخصبة لهذه الانقسامات لم تُزرع فقط من الخارج، بل نَمَت في داخلنا أيضًا، نحن كثيرًا ما نرى أنفسنا على حقٍ مطلق، ونرى الآخر على باطلٍ مطلق، فنتعصّب لما نؤمن به دون أن نمنح أنفسنا فرصةً للاستماع الصادق وبذهن محايد. إنّ الإيمان بالرأي لا يعني احتكار الحقيقة، ولا يبرر العداء. وأحد أهم مفاتيح الخروج من دوامة الانقسام هو أن نتعلّم ألا نضيق بالرأي الآخر، وأن نستمع إليه بصدقٍ ومحبةٍ وذهنٍ مفتوحٍ خالٍ من الأحكام المسبقة. فالحوار الصادق لا ينتقص من القناعة، بل ينقّيها، والاختلاف في الرأي لا يهدد الوطن، بل يثريه. أما الخطر الحقيقي فيكمن حين يتحوّل الاختلاف إلى خصومة، والجدل إلى عداوة، فيُهدم الجسر الوحيد الذي يمكن أن نعبر عبره جميعًا إلى المستقبل.
الوحدة كقوة ضاغطة.. الحل السوداني بمساندة دولية
رغم كل ما حدث، لا تزال أمام السودانيين فرصٌ حقيقيةٌ للوحدة الوطنية يمكن البناء عليها. فالحرب، على قسوتها، أعادت تعريف الأشياء من جديد وذكّرت الناس بحقيقةٍ مؤلمةٍ وبسيطة: لا أحد سينجو وحده. لقد أدرك الجميع أن الانقسام لا يحمي أحدًا، وأنّ الخلاص الفردي وهمٌ لا يتحقق إلا في ظل وطنٍ مستقرٍّ وآمنٍ للجميع. في المدن التي تهدمت، وفي القرى التي نزح أهلها، وفي المنافي التي لجأ إليها الآلاف، بدأ يتكوّن رأي عام جديد، أكثر وعيًا ونضجًا، يدرك أن الوحدة ليست شعارًا بل شرط حياة، وأن دولة المؤسسات لا يمكن أن تُبنى إلا على عقدٍ وطنيٍ جامعٍ يتجاوز الأيديولوجيا والمصالح الضيقة.
في ظل هذه المعضلة، تبرز جهود الرباعية والمجتمع الدولي، التي ينظر إليها قطاع واسع من السودانيين بشك وريبة، إذ يرى كثيرون أنها معالجات قاصرة أو تسويات مؤقتة تهدف إلى إدارة الأزمة لا حلها، وهنا يصبح دور الوحدة الوطنية مضاعفًا: فجهود الرباعية، مهما بلغت قوتها، لن تنجح أو تحظى بالقبول إذا ظلّ السودانيون متنافرين ومتعصبين لمواقفهم، فالاتفاقيات قد تصنع وقفًا للحرب، لكنّ الوحدة وحدها تصنع السلام، والوحدة ليست فقط قوة ضغط تفاوضية، بل هي أيضًا مصدر الشرعية السياسية الحقيقية لأي اتفاق أو حكومةٍ انتقاليةٍ قادمة، لأنها تمنح صوت الداخل ثقله أمام الخارج، وتجعل الحل سودانياً بروحٍ وطنيةٍ لا وصاية فيها.
ولن تتحقق هذه الوحدة ما لم يدرك الجميع أن الولاء الأول يجب أن يكون للوطن لا للحزب، وللدولة لا للقبيلة، وللمبدأ لا للمصلحة. لقد آن للسودانيين أن يتجاوزوا وهم (من يحكم) إلى سؤالٍ أعمق (كيف نحكم أنفسنا بطريقةٍ تليق بنا وبأجيالنا القادمة؟).
دور الشباب والرأي العام المستنير
وفي قلب هذا التحوّل يبرز دور الرأي العام المستنير كقوةٍ رقابيةٍ وأخلاقيةٍ قادرةٍ على إعادة التوازن للحياة العامة، فالمجتمعات لا تُدار بالقرارات وحدها، بل بالوعي الذي يراقبها ويصوّب مسارها. بناء هذا الرأي العام مسؤولية الجميع، لكنه يبدأ من الشباب من الجنسين — من النساء والرجال الذين تحرّروا من أسر الأيديولوجيات الجامدة، والذين زهدوا في الصراع الحزبي دون أن يزهدوا في الوطن، ومن أولئك الحزبيين الذين تجاوزوا ضيق التنظيم إلى رحابة الوطن. هؤلاء هم طليعة الوعي الجديد في السودان، القادرون على تحويل الفوضى إلى مشروعٍ وطني، والشتات إلى طاقة بناء، والخلاف إلى حوارٍ مثمرٍ يعيد للسياسة معناها النبيل كفنٍ لإدارة الاختلاف، لا لتأجيجه.
إنّ السودان اليوم يحتاج إلى وعيٍ جديد يوحّد لا يفرّق، يبني لا يهدم، يُقيم العدل بدل الثأر، ويُعلي قيمة الإنسان فوق كل اعتبار. الوحدة الوطنية ليست ترفًا سياسيًا ولا شعارًا مرحليًا، بل هي الركيزة التي يمكن أن تُقام عليها دولة المؤسسات، فالمؤسسات لا تزدهر في بيئةٍ من الشقاق، ولا تعمل في ظل الكراهية. الدولة القوية تنبت في تربةٍ من الثقة المتبادلة، والرأي العام الواعي هو الذي يسقي هذه التربة بالحكمة والعقل والحوار.
لقد أثبتت التجارب أن السلام لا يُصنع في المؤتمرات فقط، بل في العقول والقلوب. حين يتعلّم الناس أن يستمعوا لبعضهم البعض، ويقبلوا اختلافهم بمحبةٍ واحترام، تزول أسباب الحرب قبل أن تُوقّع اتفاقياتها، وعندما يدرك السودانيون أن الوطن ليس حكرًا على فكرٍ أو حزبٍ أو قبيلة، بل بيتٌ للجميع، سيتحوّل الانقسام إلى تنوّع، والخصام إلى قوة.
الطريق إلى الدولة الممكنة
إنّ السودان يملك اليوم، رغم كل شيء، فرصة نادرة لإعادة اكتشاف نفسه. فإذا توحّد السودانيون خلف فكرة الوطن ودولة المؤسسات، واستبدلوا لغة الإقصاء والتخوين والشيطنة بلغة الحوار، وواجهوا دعاة الفتنة بالوعي لا بالكراهية، فسيخرجون من هذه الحرب أكثر نضجًا وصلابة، وسيسطّرون فجرًا جديدًا من تاريخهم، فالوحدة الحقيقية ليست في التشابه، بل في القدرة على الاختلاف دون عداوة، وعلى الحوار دون خصومة، وعلى بناء وطنٍ يتسع لكل صوتٍ ما دام صادقًا. إن الحرب لا تُنهيها البنادق، بل تُنهيها القلوب العامرة المحبة حين تتسع للوطن كله.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم