مِنْ قَرَنْق إلىَ حِمِيدْتِي: فَشَلُ ”تَأسِيس“ السُوْدَانِ الجَدِيدِ بالسِلَاحِ
From Garang to Hemedti: The failure of “Establishing” the New Sudan by Force
بروفيسور مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي لمركز الدراية للدراسات الاستراتيجية
هل كان اختيار اسمٍ مثل ”تأسيس“ كحاضنة مدنية للدعم السريع مجرد تسميةٍ دعائية تعبِّرعن رغبةٍ في صناعة واقعٍ جديد، أم أنه غطاءٌ لغوي لعمليةٍ من العنف المنظَّم تهدف إلى إعادة تركيب المجتمع والسلطة عبر الإبادة والتهجير بقوة السلاح؟ هذا السؤال الإيحائي ليس لعبة كلمات، بل مفتاحٌ لفهم كيف يُستخدم العنف في السودان اليوم كأداة تأسيس، ليس لبناء دولة مدنية تعددية، بل لإقامة واقع سياسي واجتماعي جديد على أنقاض الدولة الوطنية والمجتمع المدني.
أولاً: عنف التأسيس كمنهج
التأسيس، في معناه المدني والأخلاقي، يفترض الحوار والتوافق والمؤسسات كآليات بناء، لا البنادق والدانات. أما حين يتحول “التأسيس” إلى عملية مدعومة بالعسكرة، فإن العنف يصبح وسيلة لإعادة رسم خرائط السلطة والهوية. الهدف لا يكون هزيمة خصمٍ عسكري فحسب، بل تفكيك البنية الاجتماعية نفسها: تهجير السكان، نهب الموارد، وتفكيك شبكات الحماية المحلية لإحلال تركيبات سكانية وولاءات جديدة. بذلك، يتحول “التأسيس“ إلى مشروعٍ لإعادة هندسة المجتمع قسراً، لا إلى عمليةٍ لإعادة بنائه سياسياً.
ثانياً: هل جرائم قوات تأسيس في الفاشر هي آلية ”تأسيس“ لسودان جديد؟
المدن التي تسقط في قبضة قوى مسلحة ثم تشهد ترويعاً واسعاً للمدنيين ليست ساحات قتال فحسب؛ بل مختبرات سياسية لفرض مشروعٍ جديد بالقوة. ما يجري في الفاشر، من قتلٍ واعتقالاتٍ ونهبٍ وتهجيرٍ موثّق من مصادر متعددة، ليس مجرد تجاوزٍ ميداني، بل جزءٌ من منهجٍ لإفراغ المدينة من قواها الاجتماعية الأصيلة وإعادة توزيع النفوذ على أساس الولاء العسكري أو الإثني. هكذا يصبح العنف ليس نتيجة الحرب، بل جوهر مشروعها. إنها ليست معركة ضد عدوٍّ محدد، بل ضد فكرة ”المجتمع المدني“ نفسه، وضد إمكانية وجود مركزٍ وطني جامع.
ثالثاً: لماذا يفشل ”مشروع التأسيس“ العنيف؟
رغم ما قد يمنحه العنف من مكاسب مؤقتة، فإنه يورّث هشاشةً مستدامة: مقاومةً لا تهدأ، اقتصاداً قائماً على الغنيمة، وشرعيةً مشوّهة في الداخل والخارج. وتجربة الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق تُعد الدليل الأوضح على هذا الفشل البنيوي. فقد رُفع السلاح يوماً لتأسيس ”السودان الجديد“، لكن النتيجة النهائية كانت انفصال الجنوب، لا تأسيس السودان الواحد على أساس المواطنة والعدالة. بل على العكس، تحوّل حلم العدالة والمواطنة المتساوية إلى واقعٍ من الانقسام والنزاع الداخلي. والأسوأ أن السلاح ذاته الذي رُفع لتأسيس السودان الجديد، ما زال يُشهَر اليوم بين فصيلي الحركة الشعبية في دولة جنوب السودان لتأسيس ”جنوب السودان الجديد“، سلاحٌ حصد مئات الآلاف من الأرواح دون أن يحقق هدفه الذي رُفع من أجله.
إنها المفارقة المأساوية ذاتها: حين يتحول السلاح إلى فلسفة تأسيس، يُلغَى المعنى الأخلاقي والسياسي للتأسيس نفسه.
ويعيد التاريخ نفسه الآن في دارفور، حيث يتكرر المنطق ذاته تحت مسميات مختلفة. تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية تؤكد أن ما يحدث في الفاشر وعموم دارفور وكردفان، وما حدث من قبل عدد من الولايات السودانية، يفضح الفجوة بين خطاب ”التأسيس“ وواقع الإبادة، بين شعار حماية المدنيين وممارسة التنكيل بهم.
رابعاً: مفارقة ”تأسيس السودان الجديد“ الموهومة — من قرنق إلى حميدتي
حتى لو تجاوزنا مأساة وعواقب العنف الذي مارسته قوات تأسيس، تبقى معضلة أخرى أكثر جوهرية: هل تضمن ”قوات تأسيس“ بقاءها كتلة واحدة بعد انتهاء الحرب؟
التجارب السابقة في السودان وجنوبه تؤكد أن كل مشروع تأسيسي مسلح يبدأ موحداً وينتهي مُتشظياً. فالجيش الشعبي الذي وُلد موحداً حول رؤية السودان الجديد تحت زعامة قرنق تشظى إلى عشرات الحركات والمليشيات، موزعة اليوم بين السودان ودولة جنوب السودان. ولا خاصية في تكوين ”قوات تأسيس“ تضمن تجنب المصير نفسه؛ فهي تضم خليطاً من التوجهات والمصالح والهويات، يجمعها عدوٌ مؤقت لا مشروعٌ وطني مشترك.
فما هي الضمانات مثلًا لعدم انفصال حركة عبد العزيز الحلو، ذات الجذور الأيديولوجية والإثنية المختلفة جوهريَّاً عن بقية ”قوات تأسيس“، في ضوء الخلافات والاختلافات الأيديولوجية والمنهجية والاجتماعية بينها وبين قوات الدعم السريع؟
فإذا كان ”السودان الجديد“ يُفترض أن يولد من رحم ”تحالف تأسيس“، فالتجربة التاريخية من جنوب السودان وغيره تقول إن رحم الحركات المسلحة لا ينجب وطناً، بل يُنجب حركات مسلحة أخرى تنسلخ منها.
خامساً: البنية العميقة للعنف – أدواته ونتائجه
عنف التأسيس لا يقوم على الفوضى وحدها؛ بل على بنيةٍ متماسكة من الأدوات السالبة، تشمل فيما تشمل:
- شبكات مسلحة شبه رسمية مرتبطة بالمصالح الاقتصادية والسياسية.
- اقتصادٍ موازٍ يقوم على النهب وتجارة الحرب.
- تحالفاتٍ ظرفية مع قوى إقليمية ومحلية.
- وسياسات تمييزٍ في توزيع الموارد والأراضي.
النتيجة هي ولادة ”احتلال داخلي“ يُعيد تعريف من يملك الأرض ومن يملك الحق في البقاء. المدارس تُدمَّر، المستشفيات تُغلق، القادة المحليون يُستهدفون، والمجتمع المدني يُجتثّ من جذوره. إنها عملية تفريغ ممنهجة للمجتمع من مقوماته، وتحويله إلى فراغٍ تُملؤه قوات ”تأسيس“ والتابعون.
بهذا الشكل، يصبح ”السودان الجديد“ الذي تُبشر به ”تأسيس“ ليس وطناً للمواطنة، بل فضاءً لمجتمع الخوف، تُستبدل فيه مؤسسات الدولة بمكاتب الحرب، ويُختزل فيه الانتماء إلى شبكة نجاةٍ تتمثل في قوات ”تأسيس“.
سادساً: المساءلة شرط التأسيس الحقيقي
لا يمكن لأي مشروع وطني أن يُبنى فوق ركامٍ من الجرائم دون مساءلة. فغياب العدالة يرسخ منطق القوة ويحوّله إلى قاعدة شرعية دائمة. لكن قوات تأسيس تواجه محنة مزدوجة في هذا الشأن:
فإما أن تُجري محاسبة شكلية حفاظاً على تماسك القوة الصلبة للدعم السريع، تلك القوة التي تعتمد في بقائها على اقتصاد النهب والسلب والانتهاكات، فتفقد بذلك أي مصداقية أمام الرأي العام المحلي والدولي؛ وإما أن تُنزل عقوباتٍ حقيقية ورادعة بحق الجناة تحت مرأى العالم، فتكسب بعض الاعتراف السياسي، لكنها تُحدث شرخاً عميقاً داخل صفوفها، إذ سيفسّر المقاتلون تلك المحاسبة كخيانةٍ لرفاقهم في الميدان.
هكذا تجد ”تأسيس“ نفسها أمام معادلةٍ أخلاقية وسياسية مستحيلة: لا تستطيع أن تعاقب دون أن تَضْعُف، ولا تستطيع أن تتغاضى دون أن تسقط أخلاقياً.
التأسيس الحقيقي يبدأ من النقيض تماماً: من إيقاف الانتهاكات فوراً، ومحاسبة الجناة بآليات مستقلة ومحلية ودولية، وضمان عودة النازحين بكرامة، وتعويض الضحايا، وبناء مؤسساتٍ مدنية تحمي المجتمع من عسكرة الحياة العامة.
فمن دون عدالةٍ انتقالية مدنية منتخبة، لن يكون هنالك “تأسيس” بل فقط إعادة تدويرٍ للعنف تحت أسماء جديدة.
خاتمة: التأسيس أمام مفترق الطريق
سؤالنا الأول: هل جرائم قوات تأسيس في الفاشر هي آلية ”تأسيس“ لسودان جديد؟، يكشف جوهر مأزق منهج الدعم السريع.
فإن كان التأسيس الذي يسعى له يعني البدء من جديد على أسس الحرية والعدالة والمواطنة، فإن ما يجري اليوم هو نقيض ذلك تماماً. فالعنف لا يبني وطناً، بل يهدم معناه؛ ومن يرفع السلاح لتأسيس السودان الجديد يكرر مأساة الجنوب، ويفتح الباب لسودانٍ تحكمه الحركات المسلحة المتجددة، وتُغلق فيه السياسة، وتُختزل العدالة في منطق القوة.
إن الخيار الحقيقي أمام السودانيين اليوم ليس بين ”قديم“ و ”جديد“، بل بين تأسيسٍ بالعنف يقود إلى اللا دولة، وتأسيسٍ بالإرادة الجماعية الطوعية الحرة يعيد الاعتبار لفكرة الدولة نفسها.
فمن أراد أن يؤسس سوداناً جديداً حقّاً، عليه أن يبدأ من إغاثة الإنسان السوداني، لا من سحقه؛ ومن حماية المجتمع لبناء نفسه، لا من فرض تشكيله بقوة السلاح.
نوفمبر 2025
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم