هروبنا من أمدرمان القديمة …. “بدأ بخطوة واحدة” (9)

بقلم عبدالفتاح عبدالسلام*
16 أكتوبر 2025

سردية “تهافت الهاربين”

الحلقة التاسعة

• مصر الجديدة

في مصر الجديدة تحس أن الوضع مختلف نوعا ما ، شارع عريض يدعي ” شارع الحجاز” ، بقسمين غادي و رايح ، و السرعة فيه عالية ، و لاتوجد فيه خطوط مشاة أو كباري صغيرة علوية أو أنفاق للعبور مشيا ، إنه عبارة عن هاي واي وسط البلد . و لا وجود هنا للركشات أو الميكروبص حتي في الشوارع الخلفية . و لكن توجد في أول الشارع في الميدان محطة للمترو تحت الأرض ، يمكن الوصول لها سيرا علي الأقدام . حي سكنته الأرستقرطية فيما مضي و مازال يحتفظ ببريقها البعيد …

كنا اثنان في الشقة المطلة علي الشارع الكبير ، في الطابق الثاني عشر ، و لا مناص من استخدام الأسانسير ، و هنا عاودتني متلازمة الــ acrophobia و هي الخوف من الإرتفاعات مثل ركوب الطائرة أو قيادة السيارة فوق جسر او كوبري طويل ، او الوقوف في بلكونة في طابق مرتفع… وقد ألمت بي من نحو عشرين سنة مضت ، و كنت حسبتها قد زالت … و لم أحس بها في شقة حي الهرم في الطابق الثالث التي تطل علي زقاق ضيق ، أما هنا فالأمر مختلف …. ففي أول ليلة في مصر الجديدة لم استطع النوم … أصوات العربات و التركّات و أبواقها في آخر الليل كانت تصلني كأنها بجانبي …

• هناك حيث رأيت عن قرب تجارا هاربين

اقترح علي صديق أعرفه من قديم ، و كان قادما من ألمانيا لزيارة أهله الهاربين من بحري ، المرور علي بعض أصدقائه القدامي و يعرفهم مذ كان طالبا في القاهرة ، إذ كانوا يفدون للاستجمام في حي حدائق الزيتون في القاهرة في شقة امتلكها أهلهم منذ السبعينات . و ذكرني قبل أن نصل أن منهم من هرب مثلنا من الحرب و هم من عائلة تجارية ، ليس لها صيت كبير ، و لكنها معروفة لدي تجار العاصمة و الأقاليم ، حيث بدأوا تجارتهم في المحاصيل ، ربما في السبعينات أو قبلها من القرن الماضي …

دخلنا الشقة الواسعة في حي حدائق الزيتون مساء . و كان فيها عدد قليل و تقدمنا إلي إحدي الغرف و بها شخص واحد جالس علي طرف سرير . رحَب بنا و كان يرتدي عرَاقي و سروال . وجهه ذو اللون الفاتح يشي بأنه لم يشقي في هذه الدنيا . و راح هو و صديقي يتحدثان و يمزحان و يتذكران حكايات قديمة … و لما لم يكن لدي ما أقوله فقد رحت أتفرس في هيئة سليل العائلة التجارية أو “أولاد السوق المرفهين” كما يوصفون عادة من قبل بعض الانتلجنسيا … و كنت أعرف أن بعض أولاد السوق هؤلاء يتميزون بذكاء اجتماعي شديد مع الحذر تجاه الغرباء علي شاكلتي ، يراه البعض نتيجة لاحتكاكهم بعالم البزنس و المال و الصفقات و أسرار الكوتات و الحكومات و الشخصيات النافذة التي لديها القرار ، بينما يتجنبهم آخرون و يرون فيهم أناسا محتالين عديمي الثقافة و الاتيكيت أو كما يقول المصريون ” ياكلوا مال النبي” …

أذكر أن صديقي ذكر لي و نحن في الأساسنير أن منزلهم – أي منزل تلك العائلة التجارية – في أحد الأحياء القريبة من مطار الخرتوم ، قد تعرض للنهب من قبل جنود الدعم السريع ثم شفشافة العاصمة وما حولها بما فيه من عربات و معدات و غيرها … و لكن في اعتقاده أن مثل هؤلاء لا تنضب أموالهم بنهبات كهذه ، فقد يكونوا “مدكنين” قسما منها في جخانين و أصول و أمصار أخري في متناولهم ، و هم ليسوا بهذه الجهالة التي تميز الأفندية ، كما قال صديقي ، فلهم حنكة و دراية بالبزنس و مخاطره تجعلهم يستعيدون في صفقة واحدة ما فقدوه في نهبة أو نهبتين …
قد يكونون جهلة في أشياء تجيدها الإنتلجينسيا … كألاعيب القوى الدولية مثلا ، و قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة .. و قد لا يعرفون التجاني يوسف بشير أو محمد المهدي المجذوب أو إبداعات محمد المكي إبراهيم ، وربما لا يفقهون ما صدر لماركيز أو الطيب صالح أو ماذا قال ايمانويل كانط في القرن الثامن عشر .. و لكنهم بالتأكيد يعرفون كيف ينالون كعكتهم من أي سلطة متحكمة حول رؤوسهم ، خصوصا العسكرية التي خبروها طويلا منذ زمن عبود … و لا يتحملون أن تكون جمعاتهم غير عامرة بالذبائح و ” المرارات ” و صاحبتها ” أم فتفت ” و قد تكون أمسياتهم عامرة بالخندريس و بالدخاخين البيضاء و الزرقاء … و يؤدون الطقوس في أوقاتها أمام الخلق ، وقد يكون بحسن نية و بحكم التواضعات ، و يقومون بواجبات العزاء و الأفراح علي أتم وجه … و يبرّون بالأرحام و الجيران ، و يزورون الأراضي المقدسة كلما اقتضى الأمر … و كله تمام … و من يحفظ لهم هذه المصلحة فهو المبجل… فهم لا يشغلهم سواء أكان الجالس في عرش السلطة جنرالا من ضهاري شمال العاصمة المثلثة أم إبن ذوات من أمدرمان … كما قال صديقي ….

وبعد قليل دخلت فتاة صغيرة الحجم بمكياج خفيف ، ترتدي زيا عصريا أنيقا و تنورة قصيرة كأنها ذاهبة لمرقص أو حفل ساهر .. و جلست قرب مضيفنا و راحت تتحدث معه بعفوية ، بلهجة سودانية مدينية ، ما يشي أنهما علي ألفة أو صحبة قديمة … ثم بعد فترة انشغل مضيفنا بموبايله فالتفتت الفتاة و راحت تتفحصنا بنظرة طويلة متسائلة كأنها تقول “و دول مين ؟” . بان وجهها معاكسا تماما لحجمها الصغير ، وجه إمرأة ناضجة في حوالي الثلاثين أو أقل قليلا ، مع مسحة لا تخفي من الشقاء المقيم … و بعد قليل استأذنت من المضيف لتنصرف ، و رأيناها تتجه إلي المطبخ حيث علا صخبها مع صوت أنثوي آخر هناك ، قبل أن تغادر الشقة.
بعد فترة دعينا للعشاء علي صفرة صغيرة في الصالة قريبا من المطبخ ، و رأينا السيدة الأخري التي جهزت العشاء علي الطريقة السودانية ، عشاء بسيط من الفول و السلطات و إدامات … كانت المراة الأخري مختلفة عن الأولي ، إذ كان مظهرها عاديا ، و لهجتها ” بلدية شوية ” و بدت أكبر سنا من تلك الفتاة صغيرة الحجم …
بعد العشاء أخذت الفتاة أو المرأة الأخري الأطباق و غسلتها في المطبخ ، ثم و دعت و خرجت ، و جهز بعض الحاضرين نفس الطاولة للعب الورق و غادر بعض الذين كانوا في الصالة و أخيرا انصرفنا و أنا و صديقي في وقت متأخر من الليل …

ربما كانت تلك الشقة عينة لفئة قليلة من الهاربين المرفهين ، إذ من المنطقي أن تكون هناك فئات أخري مشابهة من عينات أخري توزعت في أرجاء القاهرة الشاسعة و غيرها من مدن مصر الكبيرة ، قد يكون منهم فئات من العسكريين و من المقاولين و المهندسين و المحامين و المحاسبين و غيرهم من المهنيين بجميع أطيافهم ، فيهم من الأسوياء بطبيعة الحال ، و لكن العقود الثلاث و نيف الأخيرة ، قد جعلت من التكسب المشروع و غير المشروع ، و الجنوح نحو المتعة من أي لون ممارسة طبيعية …
لا يجوز التعميم بالطبع فهناك ألوف مؤلفة ممن نزح هاربا بأسرته و عاني ما عاني ….

و لكن أليس من حقنا أيضا أن نعرف خبايا أولئك التجار و أصحاب البزنس الذين لا تنضب ثرواتهم ، متي ما غاب أو أخفي عنّا الكثير؟!!! أو كما قال ذلك الطلياني في بدايت عصر النهضة الأوروبية ، لعله “دانتي الليغيري” : ” الشك يسرني كما تسرني المعرفة “…..

قال صديقي و نحن في التاكسي أن صديقه إبن العائلة التجارية يساعد تلك الفتيات البائسات كلما غشينه و ينفحهن بعض الجنيهات كلما انقطعن … و لا يبدو أنهن هربن مثلنا من العاصمة بفعل الحرب ، بل ربما جئن إلي القاهرة منذ سنوات قليلة ، و بعضهن ربما يعملن في عدد محدود من المطاعم و المحلات و المستشفيات الخاصة … و يرسلن ما يوفرنه لأسرهن في مدن وقري السودان … و كثير منهن ضائعات .. كما قال صديقي.

• العودة لحي الهرم

ودعت صديقي الذي عاد لمستقره في ألمانيا و عدت من جديد لحي الهرم و مازلت منتظرا وصول التأشيرة السعودية …
حي الهرم مفعم بالحياة و الضجيج ليلا و نهارا .. في الليل أنام في أواخره علي صوت نسوة مصريات يجتمعن في مدخل العمارة الملاصقة و يثرثرن ، و في الصباح أخرج لأشتري الفول و الفلافل و المخللات و السلطات و العيش الطازج للفطور المتأخر دائما …. و أحيانا بعض الشبورة من الفرن مع الشاي باللبن بعد الاستيقاظ … و كنت أتوه في الأيام الأولي و لا أعرف الشارع الصغير المتجهة لعمارتنا في نهايته ، فأصبحت مداوما علي قراءة اللوحات المثبتة في ركن كل شارع … و ساعدني و جود قهوة تذيع أغاني أم كلثوم ، و تمثال صغير لها في تحديد و جهتي كلما مررت بها ، … مع عميق الإحساس المتزايد بأني في ” اللامكان ” و كل شئ مؤقت و ربما تنتهي الحرب فجأة و نعود مرة أخري إلي بيتنا في أمدرمان ……

لا أدري لما كنت ميالا ، حسب طبعي ، للتعارف مع أصحاب المحلات القريبة من الشقة ، ففي مساء يوم نزلت لابتاع دواء و حسب خبرتي في الخليج فإن معظم الصيادلة من أقباط مصر … و صدق حدسي ، فمن تحفظهم الزائد و ملامحهم أدركت ذلك … و حاولت الثرثرة معهم … و لكن بلا طائل …

أكثر المحلات إزدحاما هو مكان الفول و الطعمية و لا مجال هناك لتبادل أي حديث إضافي مع أصحابه …

الوحيد الذي أحسست أنه قريب مني هو عم أحمد أو محمد (لست متأكدا من الإسم) .. . بائع العيش و الخضار ، لأني كنت أغشاه يوميا في منتصف الصباح ، لم يكن محله كشكا أو دكانا ، بل فتحة صغيرة أو كتلك التي يطلق عليها الأنجلوساكسون لفظة hole in the wall ، و يساعده ابنه و أحيانا زوجته … سألته مرة عن قريته فذكر إسما مصريا قديما صعب علي تذكره .. و قنعت أنه ربما كان من الصعيد طبقا لملامحه المصرية و لونه القمحي و بساطته البادية … و دهشت طبعا لأنه لم يسألني و لا مرة عما جاء بي إلي هنا …. بل من أين أنا و من أكون ؟!!!! … مع ملاحظة أن الحي لا يحظي بسودانيين بائنين علي شاكلتي .. بل لم أصادف حتي الآن سودانيا في تلك البقعة من الحي ….

• حي فيصل

في أحد النهارات قررت التوجه الي حي فيصل و نصحني البعض بأخذ الميكروباص من الشارع الموازي البعيد نوعا عن حي الهرم ، فاختلط علي الأمر و لكني صادفت سودانيا يرتدي مثلي ؛ جلابية و طاقية ، متجها إلي نفس المكان و ركبنا سويا الميكروباص و نزلنا هناك في حي فيصل . علمت منه أنه يدير محلا صغيرا لبيع المنتوجات السودانية قريب من حي الهرم و أنه قدم إلي القاهرة قبل الحرب بفترة ليست بالقصيرة و أنه يذهب لحي فيصل ليشتري أغراضا بسعر الجملة لمحله….
و دهشت بالطبع لكثرة المحلات التي يشغلها سودانيون ، بعضهم من أمدرمان و دارفور و الجزيرة ، و رايت في الجانب الآخر من أحد الشوارع لافته كبيرة “جزارة أمدرمان للحوم” و كان الزحام عليها ظاهرا ، و السودانيون نساء و رجالا يمرون علي الأرصفة ، و يدخلون المحلات المتناثرة في معظم شوارع الحي …
.. و تجولنا في محلات كثيرة إذ كان صاحبنا يبحث عن نوع معين من الويكة من انتاج كردفان تتميز بالجودة و لكنه لم يعثر عليها بسبب الحرب … و في طريق العودة وصف لي محله و أعطاني رقم موبايله …

……يتبع

*
fattah71@gmail.com

عن عبدالفتاح عبدالسلام

عبدالفتاح عبدالسلام

شاهد أيضاً

هروبنا من أمدرمان القديمة …. “بدأ بخطوة واحدة” (5)

بقلم عبدالفتاح عبدالسلام 23 أغسطس 2025سردية “تهافت الهاربين” الحلقة الخامسة حفلة “العنقريب” في دنقلا العرضي …