لم يكن الرجل يروي مشهداً من فيلم، بل من ذاكرة تحترق؛ يفوح منها مذاق الرماد.
قال بصوتٍ متحشرج عبر “بي بي سي”: “لم أظنّ يوماً أنني سأرى جثّةً تأكلها النسور وتنهشها الكلاب أمامي”.
كان يتحدّث من مدينة “طويلة”، بعد أن فرّ من الفاشر، حافيَ القلب، تاركاً وراءه مدينة كانت ذات يومٍ داره، وصارت جحيماً على الأرض.
الحرب هناك لا تميّز بين بيتٍ ومسجد ومستشفى.
انفتح الجسد السوداني على كل أشكال الموت: القتل الميداني، الحرق، النهب، والخذلان.
تتجوّل الكاميرات في الشوارع، كما لو أنها توثّق سقوط الإنسانية في بثٍّ مباشر.
جنودٌ يصوّرون الجثث على الأرض، ويعلّقون بضحكاتٍ توزّع الإهانة على الأحياء والأموات معاً.
وفيما الدم ما زال ساخناً في الشوارع، خرج قائد المليشيا حميدتي ليعلن أنّ ما حدث في الفاشر “يُدرّس في الجامعات”.
قال بوجهٍ مطمئن إنّها “تجاوزات من أفراد”، وإنّ “لجان محاسبة” قد شُكّلت، وإنّ المدينة “آمنة” وعلى أهلها العودة.
كان الخطاب نسخة فاخرة من النفي الملوّن، واحتفالاً بالكذب تحت أنقاض الحقيقة.
لغةٌ متأدّبة تغسل الدماء بالكلام الهادئ، وتحوّل المذبحة إلى درسٍ في “الانتصار الأخلاقي”.
كأنّ المجازر فصلٌ من كتاب العلاقات العامة، تُمنح فيه الضحية شهادةَ حسن سلوك من جلادها.
في مقاطع الفيديو التي أغرقت وسائل التواصل، لم تكن دارفور تُعرض على الشاشة، بل يُعرض العالم كلّه في مرآة عاره: مدن تُحرق، وأمهات يحملن أبناءً بلا ملامح. وجثثٌ تُصفّى كما لو أنها زائدة عن الحاجة في حسابات السلطة والسلاح.
حتى الأمم المتحدة، التي أتقنت فنّ التحذير، وصفت التقارير بـ”المروّعة”، ثم مضت إلى صمتها المعتاد، كما لو أن اللغة نفدت من قاموسها.
تقول امرأة نجت بأعجوبة: “قفزتُ من سور المنزل عندما اقترب المسلحون. ركضت بلا وجهة. فقط لأبقى على قيد الحياة”.
كانت تركض باسم البقاء، بينما تسقط حولها كل الأسماء الأخرى: الشرف، الرحمة، الدولة.
امرأة أخرى خرجت من حافيةً من هناك، قالت وهي تلهث من البكاء: “نزحت وأنا أشعر بالإهانة… جئنا حفاةً عراة”.
أما الطبيب القادم إلى طويلة، فقد فقد اثنين من إخوته في المدينة. وحين عثر على زوجته وابنه بين الناجين، قال: “الوضع في الفاشر كارثي… الطبّ صار عاجزًا أمام هذا الموت”.
شبكة أطباء السودان أعلنت عن أن ستة من كوادرها اختُطفوا وطُلبت فدية لإطلاق سراحهم، بينما وثّقت مقتل سبعٍ وأربعين نفساً في مدينة بارا، بينهم تسع نساء.
الأرقام هنا لا تُعدّ بل تُنزف. البيانات تُصدر كأنها نشرة طقس يومية في جهنم.
“تنسيقية لجان مقاومة الفاشر”، كتبت بيانها الأخير بلغة الشهداء: “قُتلوا وهم بين الحياة والموت، داخل المستشفى السعودي، في زمنٍ لم يعد للإنسانية فيه مكان”.
أضافت: “سقطت المدينة، لكن لم تسقط كرامتها. غابت الأجساد وبقيت الأرواح تحرس الذاكرة، كل حجرٍ هنا يشهد أن أبناءها لم يُهزموا، بل خُذلوا”.
من خلف الحدود، تتعالى نداءات: #أنقذوا_الفاشر.
لكن الهاشتاغ لا يوقف رصاصة، ولا يُنقذ طفلاً من تحت الركام.
العالم يكتفي بالمشاهدة، وكأن الفاشر شاشة صغيرة في غرفة جلوسٍ بعيدة.
سماء السودان تُمطر طائراتٍ مسيّرة، والأرض تفيض بالجثث. كل طرف في الحرب يعلن انتصاره في معركة خاسرة أخلاقياً قبل أن تُحسم عسكرياً.
أما المفاوضات التي تُروّج لها العواصم البعيدة، فهي صدى لحديثٍ بلا معنى. حوار بين موتين، وهدنة بين جريمتين.
هكذا تبدو دارفور اليوم: مسرحاً للخراب الإنساني العظيم، ومرآةً لموت الضمير في أبهى حُلّة. تشمّ رائحة أهلها في الريح، وتنتظر أن يسأل أحد:
كيف يُمكن للإنسان أن ينجو من وطنٍ يأكل أبناءه بهذا النهم؟
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم