العنوان أعلاه كان لمقال بقلم صديقنا الراحل الدكتور أحمد الربَعِي – طيب الله ثراه – ضمن سلسلة مقالاته الأسبوعية الراتبة في مجلة (المجلة) السعودية التي تصدر في العاصمة البريطانية لندن، وكان في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي. عقب التوقيع على (معاهدة أوسلو) بين الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993م. وهي الاتفاقية التي أدخلت القضية الفلسطينية عش الدبابير وما تزال لسعاتها تتوالي حتى اليوم. وفي المقال المشار إليه كان الربعي يعتب على صديقه القيادي الفلسطيني البارز ياسر عبد ربه لكونه سار في ركاب أوسلو. وكتب المقال بصورة ميلودرامية موغلة في العاطفة على عكس كتاباته المعروفة بالحدة الشديدة! أما عنوان المقال فقد جمع الربعي فيه بين الخاص والعام، قال لصديقه بعد انقطاعه عن زيارته في منزله - وتلك عادة دأب عليها كلما جاء الكويت زائراً - إن ابنه الصغير قُتيبة (ويُكنى به) دائم السؤال عنه بقوله (بابا وينهو عمو ياسر؟) وجعل الربعي من غياب ياسر عن منزله كأنما مقدمة لغياب القضية الفلسطينية برمتها بعد أوسلو. والمعروف أن ياسر عبد ربه يساري التوجه، وكان الربعي يدَّرِس الفلسفة الإسلامية في جامعة الكويت، وهو أيضاً من اليساريين القوميين الراديكاليين المناصرين للقضية الفلسطينية، وكانت له صولات وجولات داخل وخارج بلاده، وضمن ذلك كانت القضية السودانية تشكل حضوراً دائماً وسط اهتماماته، وبالطبع هذا ما جمعنا معاً! أما نحن فنُعقِّب على صديقنا اللدود ياسر عرمان تحت ذات العنوان، وذلك في التسجيل الصوتي الذي جرى على لسانه، تعليقاً على الإفطار الرمضاني الذي أقامه فلول النظام البائد خلسةً في ميدان الحرية (الساحة الخضراء) يوم الجمعة 16/4/2021م. وتعقيبنا على مستويين، فوفق ما ورد في التسجيل، فقد خاطب عضوية الحركة الإسلامية بصورة عامة، ثمَّ من أسموا أنفسهم (شباب الحركة الإسلامية) ولعل خطل التسمية ابتداءً يشيء كأنما يوجد هناك شبابٌ كافرون وهم المسلمون وحدهم! يقول الأستاذ ياسر عرمان في مستهل حديثه إن (الحركة الإسلامية يجب أن تحارب المؤتمر الوطني وليس العكس، لأن المؤتمر الوطني هو الذي قسَّم الحركة الإسلامية مثلما قسَّم السودان). في تقديري ذلك حديث تنقصه الدقة من ناحية منهجية. لأن المتابعين لمجريات الشأن السياسي في السودان لا يرون حرباً يدور رحاها بين الاثنين أصلاً، لا في الوقت الراهن ولا يوم أن كانوا على سدة السلطة (روح واحدة في جسدين) كما قال الشاعر. وباعتبار أنهما كذلك، فليس هناك ثمة أي احتمال لحرب بينهما سواءً افتعلها أحدهما أو الاثنان معاً! كما أن اتخاذ التقسيم الذي حدث بينهما ذريعة لتلك الحرب الافتراضية، قول فيه نظر كما يقول البخاري. ذلك لأننا لا نعتقد أن المؤتمر الوطني المؤسس في (1998م) قام بتقسيم الحركة الإسلامية العام (1999م) فمثل هذا الزعم يجعلنا نقف أمام كيانين منفصلين، في حين أنهما على العكس كما قلنا. بل حتى ظهور المؤتمر الشعبي في (2001م) لا يعد ولادة حزبية طبيعية، إنما وليد غير شرعي ثانٍ جاء كرد فعل للمولود غير الشرعي الأول (المؤتمر الوطني) والأبوان واحد. أما الانقسام نفسه فكلنا يعلم ملابساته التي يلخصها حبهما للسلطة.. القاسم المشترك الأعظم بينهما، أو قل الداء المتأصل في الإسلامويين عموماً. إذن بهذا المنظور لم يكن الانقسام في حاجة لرافع! عليه إن قول عرمان في المقطع الصوتي (حقو الإسلاميين يفرقوا بين المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية) افتراض باطل لأنه بُني على باطل. ولا أدري كيف يفرِّق المرء بين لحمه وجلده؟ بل هل يمكن للمرء أن يفصل الزيت من الماء إذا تخالطا؟ وإلا هل من حصيف يقول لنا ما الفرق بين المؤتمرين الوطني والشعبي قبل السلطة بالنسبة للثاني، وبعد أن زال بهرجها عن الأول؟ عليه اعتقد أن تلك دعوة فيها الكثير من المثالية، إزاء جماعة ظلت منذ تكوينها وطوال مسيرتها كما الحرباء تغير لونها - كيفما اتفق - طبقاً لألوان الأمر الواقع! بيد أن أكثر الأمور ربكة للعقل والمنطق، تمثلت في مخاطبة عرمان لمن سُموا أنفسهم (شباب الحركة الإسلامية) إذ انتقدهم في عدم تبنيهم خطاباً مختلفاً عن خطاب حزب المؤتمر الوطني المحلول. ونصحهم بقوله (يجب أن تقلبوا الصفحة دي وتفتحوا صفحة جديدة) وفسَّر حديثه بقوله (السؤال الرئيسي: كيف تعيدوا انتاج نفسكم، كيف تعيدوا طرح فكر جديد برؤية جديدة) وزاد في القول (إنتوا محتاجين تقعدوا وتفكروا في كيفية إنتاج فكر جديد) ثمَّ دعاهم (أدفنوا جثة المؤتمر الوطني وشوفوا ليكم حاجة جديدة عندها مستقبل ورؤية جديدة وفكر) مؤكداً لهم (الببني الحركة الإسلامية يكون شباب جديد عنده فكر جديد). وعلى هذا المنوال تدفقت العبارات التي تضمنت مفردة (جديد) لأكثر من عشر مرات كما أحصيتها في المقطع حتى أشفقت على القائل! الحقيقة هذه دعوة عصية على الفهم. لأن السؤال الذي يطرح نفسه: هل الوجه الجديد الذي طلب منهم أن يأتوا به: دنيوي سياسي أم آخروي ديني؟ فإذا افترضنا الأول فهل يستطيع هؤلاء أن يضعوا برنامجاً لحزب مدني (مدنياوووو) يستند على الديمقراطية منهجاً ويحفظ الحريات والحقوق الأساسية للمواطنين والتداول السلمي للسلطة؟ أمَّا إذا كان المقصود الخيار الثاني الديني/ الآخروي: بغض النظر عن أنه تكريس للدولة الدينية، هل يستطيع هؤلاء الأشاوس أن يطرحوا برنامجاً يتضمن الفصل بين الدين والدولة، ويجمد الحدود إن لم يلغها ولا يصدعنا بالقروض الربوية التي تتعامل بها الدولة مع المؤسسات المالية العالمية وحرمة دم البعوض وقانون النظام العام وبلاوي أُخر أعيونا بها سنين عددا؟! لعل من الجلي استحالة هذا وذاك، وعليه فإن ما ذكره ياسر مثل قوله: (التيار الإسلامي موجود وسيظل موجود لكن عليه أن يجدد نفسه برؤية جديدة) وقوله (التيار الإسلامي المع الحرية والديمقراطية والعدالة حيكون موجود والمؤتمر الوطني غير موجود) وتأكيده بأن (التيار الإسلامي ما دير ليه إثبات) وأيضاً (كيفية النظرة النقدية والمراجعة لكل ما تم لبناء تيار إسلامي وطني ديمقراطي يستطيع أن ينافس ديمقراطياً)، كلها أقوال تعد في تقديري محض نظرة طوباوية ليس لها سند على أرض الواقع. نقول بوضوح ليس هناك أي مستقبل لحزب ديني في السودان بعد تلك التجربة المريرة التي ما تزال شاخصة أبصارها! الغريب أن هذه خلاصة يعلمها ياسر جيداً، لكن عجبت له وهو يضع الحبل على رقبة (المؤتمر الوطني) في حين أنه ينبغي أن يضعه على رقبة الحركة الإسلامية أو كلاهما معاً وذلك في قوله: (المؤتمر الوطني حزب فاشي وفاسد وشمولي وانتهى بنهاية الثلاثين عاماً) ثم يكرر (المؤتمر الوطني حزب فاشي وفاسد ارتكب جرائم كثيرة وانتهى بقيام ثورة ديسمبر المجيدة) ويقول أيضاً (كتاب المؤتمر الوطني صحيفته مليئة بكل الموبقات والفساد وجرائم الحرب) وكذلك (نتيجة لحكم المؤتمر الوطني البلد كلها محتاجة لإعادة انتاج) في تقديري أن مثل هذا الإقرار إن لم يكن موجهٌ للاثنين معاً فسوف يُعد تبرئة للحركة الإسلامية حاملة الأوزار كلها! يقول المثل الإنجليزي (إن الطريق للجحيم مفروش بالنوايا الحسنة) فقد أغفل ياسر أهم كلمة يُرجى منها تعديل المسار مستقبلاً وهي المحاسبة، وذلك في قوله (عشان تتم مصالحة لابد أن تتم على حقائق والاعتراف بأن كل ما مضى ده ما كان في حق الحركة الإسلامية ذاتو، قسمها وأضعفها وشتتها والناس الضحوا من أجلها سنوات طويلة انتهوا لنظام لا يمكن أن يشرِّف أحد) مع أنه لا يخفى عليه أن الحركة الإسلامية ليست هي الضحية وإنما الجلاد، كما أن المحاسبة هي الترياق لعدم إعادة إنتاج الأزمة باستدعاء الدائرة الشريرة، لذلك لا مناص من نصب المشانق لمن أجرم وقتل، ولابد من فتح السجون لمن أفسد وخرَّب، أما من لم يفعل هذا ولا ذاك وكان شيطاناً أخرس فليكشف عن نواياه! للأستاذ ياسر عرمان تاريخ مُقدَّر لا ينكره سوى الذين حاول أن يبسط لهم جناح الذُّل من الرحمة مراراً وتكراراً! ثمة أقصوصة من تراث جنوب أفريقيا تقول: كان هناك فلاح يتفقد حقله في جوٍ ممطرٍ باردٍ، رأى على قارعة الطريق ثعباناً يتلوى ويرتعش من البرد. فرقَّ له قلبه وحمله في حضنه لينقذه وهو يعرف أنه خطير وقد يكون قاتلاً. فذهب به إلى منزله ورعاه، وعندما أصبح قوياً انتعش وعاد للحياة فلدغ الفلاح الذي أحسن إليه لدغة قاتلة. وعندما أوشك على الموت قال لأولاده الذين أحاطوا به وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: (تعلموا من مصيري ولا تشفقوا على اللئيم)! آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!