آية دوّخت المفسرين! .. بقلم : محمود عثمان رزق

 


 

 



morizig@hotmail.com
لما قدم المهاجرون المدينة قدموها وهم على فقر إلا قليل منهم، وكانت المدينة غالية السعر شديدة الجهد، وفي السوق عاهرات معروفات من المشركين قد رفعن علامات على أبوابهن ليعرفن أنهن عاهرات  وكن من أكثر أهل المدينة مالا. فرغب أناس من فقراء المهاجرين فيما يكتسبن بسبب ما هم فيه من الجهد والفقر الشديد ، فأشار بعضهم على بعض لو تزوجنا بعض هؤلاء العاهرات فنصيب من بعض أموالهن!  فقال بعضهم: إذن نسأل رسول الله (ص) فأتوه فقالوا: يا رسول الله قد شق علينا الجهد ولا نجد ما نأكل، وفي السوق بغايا يكتسبن لأنفسهن فهل يصلح لنا أن نتزوج منهن فنصيب من فضول ما يكتسبن؟ فأنزل الله تعالى على نبيه : ﴿الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين﴾ فكان ذلك سبب نزول الآية عند بعض الأقوال.
وقيل نـزلت في نساء بمكة والمدينة على السواء، وقد كان الرجل في الجاهلية يتزوج العاهرة ليتخذ منها مصدرا للتكسب ، فأراد نفر من المسلمين نكاحهن على عادة الجاهلية، فاستأذن أحد الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزواج من أم مهزول العاهرة وقد وافقت أن تنفق عليه، فأنـزل الله هذه الآية.
وقيل نزلت فى صحابي اسمه  مرثد بن أبى مرثد كان ينقل أسرى المسلمين من مكة فيأتي بهم المدينة وكانت بمكة بغي يقال لها عناق، وكانت صديقة له في الجاهلية، فلما رأته فى مكة دعته إلى نفسها، فقال مرثد: إن الله حرم الزنا، فقالت: فانكحني (أي تزوجني) ، فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فى المدينة فقلت: يا رسول الله أنكح عناقا؟ فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد شيئا، فأنزل الله هذه الآية.
إذن قد نزلت الآية بسبب حادثين لا حادث واحد كما يفهم : الحادث الأول كان صاحبه يطلب الزواج من عاهرة رغبة فى مالها، والحادث الثاني يطلب صاحبه الزواج من عاهرة أخرى بسبب الحبه بينهما.  
وعندما جاء المفسرون لتفسير الآية واستخراج الحكم منها اختلفوا في فهما على ثلاثة فرق كلها جانبت الصواب فى نظرنا:
الفريق الأول يرى أن معنى الآية يدور حول حرمة الزواج من العاهرين والعاهرات بمعنى : أنّ الزاني إذا اشتهر منه الزنا وأقيم عليه الحد لا يجوز له أن يتزوج إلا من زانية أو مشركة ، والزانية أيضا إذا اشتهر منها الزنا وأقيم عليها الحد لا يجوز لها أن تتزوج إلا من زان أو مشرك، أما العفيفون والعفيفات فإن مثل هذا الزوج لا يحل لهم ولا لهن. وهذا التفسير واضح جدا فى إباحته للمسلم الزانى أن يتزوج مشركة!!وهنا معضلة فقهية كبيرة.

و الفريق  الثاني ذهب مذهبا سيكولوجيا فقال : " إن الكلام مسوق للإخبار عما من شأن مرتكبي هذه الفاحشة أن يقصدوه وذلك أن من خبثت فطرته لا يميل إلا إلى من يشابهه في الخباثة ويجانسه في الفساد، والزاني لا يميل إلا إلى الزانية المشارك لها في الفحشاء ومن هو أفسد منها وهي المشركة، والزانية كذلك لا تميل إلا إلى مثلها وهو الزاني ومن هو أفسد منه وهو المشرك فالحكم وارد مورد الأعم الأغلب" وبهذا فضحت الآية النفسية المنحرفة للزناة بمعنى : أنّ الزاني لا يرضى و لا يحب و لايقبل إلا بالزواج من زانية أو مشركة لا تُقِرُّ بحرمة الزنى، والزانية أيضا لا ترضى و لا تحب و لاتقبل إلا بالزواج من زان أو مشرك لا يُقِرُّ بحرمة الزنى وفقا لقاعدة ﴿الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات﴾ ، أما العفيفون والعفيفات فإنهم لا يتمنون زواج الزانيات ولا يرضونه أبدا لأنّ نفسيتهم غير منحرفة وبسبب طهرهم قد حرم عليهم الزواج من العاهرات وفقا لقاعدة (الطيبون للطيبات والطيبات للطيبون).
اما الفريق الثالث فيرى أن المراد من النكاح فى الأية هو الجماع، وبالتالي يكون معناه هو: "أنّ الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة، والزانية لا تزني إلا بزان أو مشرك".
مناقشة أقوال المفسرين:
للأسف كل الفرق الثلاثة جانبت الصواب لأنّ الفريق الأول تجابهه مشكلة حقيقة وهي  حرمة زواج المسلم من المشركة وهي أصل من الأصول المتفق عليها بين المسلمين جميعا، فكيف إذن أجاز أصحاب هذا القول للمسلم العاصي بجريمة الزنى أن يتزوج من مشركة بربها – هذا بالإضافة لكونها زانية- مع أن القرآن قد حرّم زواج المشركات العفيفات –فضلا عن الفاجرات- فى آية محكمة هي  قوله تعالى : ﴿ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه﴾؟.
أما الفريق الثاني فشرحه يعتمد الشرح السايكولوجي للآية وهو شرح غير موفّق ولا يتماشى مع سبب النزول.  فأولا، ليس مسلَم به أن الزانى لا يرضى بالزواج إلا من زانية أو عاهرة أو غير العفيفة!  بل ما نعرفه العكس تماما وهو أننا نلاحظ أن الزناة -وخاصة الرجال – هم أكثر الناس شكا ونفورا من أي فتاة تدور حولها أقلّ شبهة لخبرتهم التامة بهذه المسالك الوعرة التي لا يتمنونها لنفوسهم. والعاهرة بالرغم من عهرها يعجبها الرجل العفيف الصادق. وقد وروي أن عمر بن الخطاب ضرب رجلا وامرأة في زنى وحرص أن يجمع بينهما بالحلال فأبى الغلام!!! ولعل فى هذه القصة شاهد لنا على صحة ما قلنا أن الزناة حريصون ألا يتزوجوا العاهرات. كما أن شرح نفسية الزاني لا تتماشى مع سبب النزول لأنّ الذين سألوا السؤال هم صحابة ولم يعرفوا أو يشتهروا بالزنا بعد إسلامهم ، وهم عندما سألوا رسول الله (ص) سألوه عن شرعية الزواج منهن، ولم يسألوه عن شرعية الزنا بهن! فقد كانو عالمين بحرمته، وقد رأينا كيف رد الصحابي مرثد لصاحبته فى الجاهلية عناق عندما دعته للزنا بها ، فقال لها بكل ثبات وقوة : "إن الله حرم الزنا" فردت عليه : "فانكحني" إذن!.
أما الفريق الثالث فقد كان تفسّيره من باب تعريف الشيء بنفسه أو بمرادفه، فكأنهم يعرفون الماء بالماء: فالذين قالوا إن الآية تعني أنّ: " الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة، والزانية لا تزني إلا بزان أو مشرك" لم يأتوا بجديد وكون أن الزانية تحتاج لزان تزنى معه، والزانى يحتاج لزانية يزنى بها شيء مسلّم به وبديهي ولا يحتاج لشروحات!  فما الجديد الذى أتت به الآية إذا كان هذا هو المعنى المقصود ؟ ومشكلة هذا التفسير يجعل كل زان مشرك وكل زانية مشركة وهذا غير مسلّم به البتة لأنّ نصوص القرآن التي تنفي الشرك عن الزناة المسلمين كثيرة منها قوله: { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم استغفروا الله ...} فلولا إيمانهم بالله ما استغفروه أليس كذلك؟و بالإضافة لهذا كله إنّ هذا التفسير لا يتماشى مع أسباب النزول! لأنّأسباب النزول قد أثبتت أن سؤال مرثد الصحابي و غيره من الصحابة كان عن مشروعية الزواج وليس عن مشروعية الزنا الذي يعلمون حرمته سلفا.
إذن ما هو التفسير الصحيح للآية؟
التفسير الصحيح هو أن الآية تحتوي على حكم وخبر:
فالحكم هو أن الله منع الزواج من العاهرات طمعا في أموالهن لأنّ فى هذا استغلال للمرأة وأكل للمال الحرام، وهذا متسق مع قوله تعالي : {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } وقوله تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}. وكذلك منع الزواج من المشركات بسبب الحب والإعجاب وذلك واضح من قوله تعالى: { ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم}.ونحن إذا رجعنا لسبب نزول الآية سنجد أن عناق صاحبة مرثد كانت عاهرة وكانت مشركة فى نفس الوقت بالإضافة لجمعها المال بصورة غير شرعية فكان مالها خبثا من خبث، والذي ينطبق على عناق ينطبق على العاهرات الأخريات المذكورات فى الروايات التاريخية المتعددة التي ذكرت أسباب النزول.فلذلك جاء الحكم شديدا لثلاثة أسباب هي: الشرك والدعارة وكسب المال الحرام.
ومما يجدر الإشارة إليه هو أن الآية ليس فيها أي دليل على إباحة زواج المسلم من المشركة ولو كان المسلم فاجرا وهي عفيفة وهذه مسألة محسومة بنصوص أخرى.كما أن الآية لا تمنع المسلم العفيف من زواج العاهرة المسلمة إذا تابت (لأن التوبة تجب ما قبلها) أو زواج المشركة إذا أسلمت (والإسلام يجب ما قبله) سترا لها ومنعا لها من التكسب المحرّم وتطهيرا للمجتمع من شرورها وهذا يتسق تماما مع قوله تعالى: ﴿وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم﴾ والأيامى هم غير المتزوجين مطلقا ويشمل ذلك العاهرات التائبات. وهذه أحكام واضحة تسندها وتشرحها آيات قرآنية كثيرة في مواضع مختلفة وقد ذكرنا بعضها.
أما الخبر هو أن الزواج من العاهرة المسلمة غير التائبة أو العاهرة المشركة لا يرضى به إلا نوعان من الناس: الأول ، قواد مثلها لا غيرة لهولا يهتم لمسألة الرزق الحلال أصلا. والصنف الثاني الذي يرضى بذلك هو المشرك الذي لا تنطبق عليه أحكام الدين أصلا وفقا للقاعدة المعروفة التى تقول : "ليس بعد الكفر ذنب" فهو لا يعرف الحلال والحرام أصلا.  وكأن الخبر يقول للصحابة لا أنتم بقوادين ولا أنتم بمشركين فكيف ترضون لأنفسكم زواج العاهرات وأنتم مؤمنون طاهرون؟!أم أنكم تريدون أن تسقطوا القيم بسبب الحب والمال؟
وأيضا الآية أشارت لقاعدة مهمة جدا فى علم القانون قديما وحديثا، وهي أن التشجيع على الجريمة يعتبر جريمة فى حد ذاته، وجزء من الجريمة المعنية. وبهذا المفهوم يعتبر الإسلام من يقبل بزواج العاهرات - وهو يعلم ويقر بحرمة الزنا-ولا ينكر عليهن ولا ينهاهنّ عن عملهن يكن زان مثلهن بسبب سكاته على المنكر والباطل، أو يكن مشركا مثلهنّ يرى الحل فى فعلهن وقد حرمه الله.  وهذا التفسير يتماشى مع القوانين الحديثة والقديمة التي ترى تشجيع الجريمة جريمة، وترى السكات عن الجريمة جريمة، ووفقا لهذا المفهوم يدخل فى جريمة القتل من شجّع على القتل وإن لم يقتل بيده، ويدخل فى جريمة السرقة من شجّع على السرقة وإن لم يسرق هو بنفسه.وعليه، جاءت الآية تؤكد على صحة هذا المفهوم القانوني فجعلت الذي يتكسب من أموال العاهرة –وهو يعلم بعهرها-عاهرا فى منزلة صاحبته إن كانت مسلمة،أو مشركا مثلها إن كانت مشركة. وكذلك المرأة التي تتكسب من أموال زوجها القواد- وهى تعلم بعمله - تكن قوادة مثله إن كان مسلما أو مشركة إن كان هو مشركا .
وخلاصة البحث أن الآية حرمت الزواج من العاهرات طمعا فى أموالهن أو لمجرد حبهنّ، وجعلت التشجيع على الجريمة جريمة فلذلك اعتبرت من يتزوج العاهرات زان مثلهن ولو كان فى الأصل عفيفا لا يزنى، وأيضا اعتبرت مجاراة المشرك عن علم وقصد شرك صرف وخاصة عندما يوافق المسلم المشرك فى تحليل الحرام. كما نود أن نؤكد أن الآية لا تبيح زواج المسلم العاصي من المشركة ولو كانت عفيفة فضلا أن تكون فاجرة،وكذلك لا تبيح زواج المسلمة العاصية من المشرك ولو كان عفيفا فضلا أن يكون فاجرا. وبهذا أرجو أن أكون قد أصبت كبد الحقيقة وبيّنت مفهوم الآية وأزلت الإشكال حولها، و الله هو العالم العليم وهو الهادي لسواء السبيل.

 

آراء