أبجدية سياسية جديدة لوطن حديث
بالتأكيد ثمة حوجٌ ملحَ لممارسة الحراك الجماهيري ضغطاً عالياً بما في ذلك التظاهر بغية إعادة ضخ دماء الثورة في هياكل السلطة الرخوة. لكن الثلاثين من يونيو حتماً ليس بالتوقيت الملائم لممارسة ذلك الحق. هو موعد من خارج روزنامة الحراك الجماهيري. هو مناسبة تتيح لقوى الفعل المضاد استعراض التربص بالسلطة والثورة وجماهيرها. هذا الثالوث في غنىً حالياً عن الدخول في اختبارات حمقاء. في تظاهرنا العارم في يونيو الفائت كنا كتلة صماء. كانت تظاهراتنا عملاً احتجاجيا ثأرياً ضد أفعال الإنقاذ و"فعايلها". معسكر الثورة حالياً ليس بتلك الصلابة في التماسك. تظاهرنا المستهدف رد فعل تحريضي على وهن سلطتنا.
الأفضل من ذلك إعادة فصائل الثورة والسلطة وحتى المعارضة كذلك التفكير العميق في تبصُر مزالق التجربة السابقة. الجميع مطالبون بإبتكار أبجدية سياسية حديثة من أجل بناء سودان أكثر استقراراً، أماناً وأزدهاراً. لعل الجميع أصبح أكثر قناعة بأنه ما من سبيل لبلوغ تلك الغايات خارج المسار الديمقراطي. ذلك مسار لا يمكن بناؤه وتأمينه بإلهاب المشاعر الجماهيرية وحده. على قوى الثورة أكثر من غيرها عند المنحنى الراهن الإرتكاز إلى العقل. هذا هو التحدي الجوهري الماثل أمام نخب معسكر الثورة.
نحن مطالبون بتفادي أي منزلق تلوح عنده أشباح مهددات عملية ترسيخ تجربتنا الوليدة. فأي إخفاق مسارنا الديمقراطي الهش يفضي لا محالة إلى سقوط في الهاوية. هذا درس يجب استيعابه من قبل نخب معسكر الثورة والفئة المستنيرة من قوى الفعل المضاد معاً. لهذا المأمول من حملة الأقلام الموسومة بالموضوعية من مناصري الدولة البائدة إعادة الانطلاق مواكبة للمرحلة الجديدة من نقد تجربتهم المكتنزة بالفساد والإستبداد. كل دعاة استرداد سلطة الإنقاذ يفتقدون إلى الحد الأدنى من الأهلية الأخلاقية حينما يطالبونا بالردة إلى مشروع لم يثمر طوال ثلاثين سنة سوى البوار والدمار.
كذلك على دعاة التقدم داخل معسكر الثورة الإنطلاق من قناعة راسخة بحتمية وجود المعارضة فرضاً لا تستقيم الديمقراطية في غيابه. من ثم يصبح كل محاولات تغييبها رجس حرام. ذلك حقٌ لا يؤمنه شرط تمنطق نخب المعارضة الإنقاذية بحقوقهم السياسية وحقوق الإنسان بل توفره كذلك قناعات قوى الثورة بفرضية وجود جناح معارض حتى تحلًق التجربة الديمقراطية في آفاق أرحب.
هذه معادلة تتطلب من النخب السودانية الخروج بالفعل السياسي من دائرة الصراع على السلطة إلى ميادين التنافس على البناء المجتمعي. عندما نتبنى أبجدية جديدة في الفكر والعمل السياسي نستطيع في يسر إبتكار آليات حديثة على درب بناء مجتمع متطور. على النخبة من مساندي الإنقاذ الإعتراف الناقد للمنهج الضدي السائد طوال العقود الثلاثة العجاف بوبائله الكارثية. هو نهج لم يكرّس فقط الإستبداد بل بلغ في إستقطابه الآحادي؛ من ليس معنا ليس له حق الحياة. نهج اقصائي تجاوز التهجير القسري، التكفير، التهميش إلى التجريد. أزمة هؤلاء كمثل البعض داخل معسكر الثورة تتمكن منهم نزعات تصفية الحسابات.
الأبجدية الجديدة الخلاقة تندرج في مقاصدها الرئيسية تصفية التشوهات الراسخة في الذهن والممارسة في الحقب الفائتة. إذ إلتزم دعاة الردة إلى الإنقاذ الإستقامة الوطنية فلن يعثروا على ما يتيح لهم التباهي من رصيد إخلاقي. فإلى جانب النهج الإقصائى جرى حشر المعارضين في أنفاق الشظف الجماعي وأبواب السجون حتى صار الوطن سجناً لغير المتكسبين بامتيازات السلطة بالولاء الزائف نادراً والتمسح به غالباً. هذا ما أسماه نفر خيرٌ سيادة ثقافة السوق السياسي.
ليس منافياً للحق القول كذلك شد النظام مركبات الإعلام، الثقافة والفن إلى بغال الأمن على المسار الأحادي الممعن في الفردية مما محق مفردات الفرادة والتفرد في مجالات الإبداع. كما لم يعد في الإمكان الرجوع بنا إلى منظومة السوق السياسي فلا سبيل للخداع برايات الإسلام. ففرية تديين السياسة مثل أكذوبة تسييس الدين لن ينطليا على شعب إكتوى غالبيته حتى العظم بنيرانها على أيدي مما يعدونهم هم أنفسهم أنجب قيادات الحركة الإسلامية.
على الربوة المقابلة على الحركيين الناشطين الإعتراف وفق الأبجدية المنشودة بمبدأ التباين داخل معسكر الثورة. من ثم يكون حملة الرؤى المغايرة للسائد هم ثوريون كذلك وديمقراطيون أيضاً. وهم لهم حق التعبير والممارسة والتباين في المواقف من قاعدة الحقوق المشتركة في المساواة، ليس من منطلق التسامح. هناك تسامق في المساواة وهناك مِننٌ في التسامح وهو ميسم لا يليق بمقام الثوار. كما على معسكر الثورة الإعتراف بحق كل فصيل في الكسب السياسي بناء على قدرات كل فصيل في التنظيم والدأب وسط الجماهير.
هذا واقع لا تفرضه خارطة الحراك الجيوبوليسية بل نابعٌ كذلك من وقف طموح العمل المشترك إبان الحراك الجماهيري العارم عند الحافة التالية لإسقاط النظام. عقبها اكتنفت الأجواء سحب الإرتباك المنصوص عليه في الوثيقة الدستورية والإلتباس المعقد المجدول في تضاعيف المرحلة الإنتقالية بهياكلها وبمساراتها المتباينة. فالشباب مشعلو الثورة ووقودها لم يهبطوا ساحات النضال من بطون أمهاتهم. الغالبية هم وشائج متباينة المتانة بكيانات سياسية موجودة وإن تباينت درجات حضورها الفاعل في سوح النضال.
الأبجدية الخلاقة المفترضة لبناء مجتمع حديث متطور ترفض على غرار تصفية الحسابات ممارسة المساومات، الإبتزازات والترضيات. من ثم على الحركات المسلحة حين ترتضي توقيع إتفاقات السلام التجرد كذلك من أسلحتها التقليدية الفاسدة من عتاد الجهوية، القبلية والطائفية. هذا عتاد يفضي بالضرورة إلى المحاصصة وهي آفةُ تنخر الديمقراطية من الداخل وإن بدت زينة تُجمُل السطح. تجربتان شاخصتان: إحداهما عتيقة؛ لبنان والأخرى حديثة؛ العراق. كلاهما يتوغلان كل صباح في بحر الأزمات على مراكب المحاصصة الخربة.
السلام شرط أساسي لممارسة الديمقراطية مثلما هي شرط لا غنىً عنه بغية ترسيخ الأول. المفترض في مقاربة السلام الذهاب إلى جذور قضايا الأزمة بغية إبتداع آليات تجتث تلك الجذور وتجفيف تربتها النتنة. التركيز على إقتسام الثروة والسلطة ينبع من عقلية عتيقة معتًقة في الجهوية والقبلية. التشبث بها يفصح عن ذهنية ثأرية ديدنها ليس فقط الفوز بغنيمة في السلطة والثروة بل كذلك إقصاء كفاءات وتجريد آخرين من مكتسبات وفق معايير غير محقوقة.
الأبجدية المرتجاة تنظر إلى مقاربة قضية السلام بمنظور معادلة تنويع الثروة والسلطة. هذا منظور يحررنا من الشعور بالغبن والإحساس بالإستعلاء الزائف كما يجردنا من شبق الإحتكار والنزوع الثأري ومن ثم يحررننا من الإنتماءات الضيقة إلى رحاب وطن فسيح. في ظل الأبجديات القديمة السائدة لا تخرج إتفاقات السلام دوماً عن رواق الصراع على السلطة. المألوف إنتهاء الطموحات عند ترضيات عبر مساومات شخصية بمقاعد داخل ذلك الرواق. تلك معالجات موقوتة لا تصمد أمام يقين وطني فتنهض فصائل مغايرة بالثأرات القديمة ذاتها فتدور في الفلك نفسه!
كأننا لم نستوعب بعد، بل حقاً نتائج نيفاشا الكارثية المبنية كلها على معادلة إقتسام الثروة والسلطة. أبجدية تنويع الثروة تذهب بنا إلى تكريس الإمكانات المتاحة للمشاريع ذات الأولوية الملحة في ميادين وفق المنظور القومي. تنويع السلطة تعلي الكفاءات على الإنتماءات الضيقة معياراً للمواقع السيادية والتنفيذية في هرم الدولة .
aloomar@gmail.com