أثر التحويلات المالية على النمو الاقتصادي
د. نازك حامد الهاشمي
27 December, 2022
27 December, 2022
تعرف الحَوَالَةُ المصرفية بأنها واحدة من وسائل تحويل الأموال إلكترونيا من شخص أو مؤسسة (كيان) إلى آخر. ويمكن أن يتم هذا التحويل عبر المصارف والصرافات عبر أنظمة دولية مؤمنة بين المصارف أو شركات الأموال من دولة إلى أخرى، أو في نفس الدولة، أو عن طريق مكاتب نقل الأموال النقدية من شخص لآخر. كما قد يتم التنفيذ بصورة آنية، أو في خلال ساعات،أو قد تستغرق عدة أيام، وفقاً للنظام المختار عند تنفيذ التحويل. كذلك تتعدد أنواع الحوالات بحسب الغرض من الحوالة سواءً أكانت لأغراض تجارية أو أسرية، أو لأغراض الدراسة، أو العلاج أو غير ذلك.
وتلقى التحويلات الأسرية اهتماماً خاص من عدة جهات دولية عالمية لارتباطها بمفاهيم الشمول المالي والتخفيف من حدة الفقر وموضوعات أخرى لها علاقة بالهجرة. والجدير بالذكر أن الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت قد اعتمدت يوم 16 يونيو من كل عام يوماً عالمياً للتحويلات العائلية، لإذكاء الوعي بالعمل الجاد والتضحية من جانب الملايين من المهاجرين الذين يدعمون أفراد أسرهم ومجتمعاتهم الأصلية من خلال الأموال التي يرسلونها إلى أوطانهم.كذلك عزز الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2018م على أهمية التحويلات المالية للمهاجرين.
وفي ظل الازمات الاقتصادية المتلاحقة في العالم تزداد وتتعدد أهمية التحويلات المالية بحسب تقرير "الصندوق الدولي للتنمية الزراعية"الذي نُشر في15 يونيو 2022م (www.ifad.org)، فإن حوالي مليار شخص حول العالم في كل عام (أي حوالي شخص من كل سبعة أشخاص)، منهم200 مليون عامل مهاجر يرسلون أموالا إلى أوطانهم الأصلية، ويستفيد من تلك التدفقات النقدية نحو 800 مليون شخص. كذلك ذكر ذلك التقرير أن معدل التحويلات يتراوح بين200-300 دولار أمريكي ترسل من المهاجرين إلى أوطانهم في كل شهر إلى شهرين. ويمثل هذا المبلغ حوالي 15 في المائة فقط مما يكسبونه (ويظل المتبقي في البلدان التي يعملون بها). وما يحوله المهاجرون يمثل حوالي 60 % من إجمالي دخل الأسرة في أوطانهم، وهو رقم كبير يفي باحتياجات أسرهم الأساسية.
وتعد التحويلات المالية إحدى الوسائل الفاعلة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة حيث أنها تساعد حوالي 75% من فقراء العالم، وتساعد في تحسين مستوى المعيشة، خاصة المناطق الريفية والمناطق التي تعاني من انعدام الغذاء، وتسهم في تغطية النفقات الطبية أو الرسوم المدرسية أو تكاليف السكن وغيرها من التكاليف. كما تستخدم تلك التحويلات المالية وسيلةً للادخار أو للاستثمار في بناء أصول تدر عليهم دخولاً إضافية. وتساعد بصورة غير مباشرة في دعم تكوين المهارات والفرص من خلال التعليم وريادة الأعمال. والجدير بالذكر أن التحويلات المالية أو "المدفوعات الشخصية" ذات القيمة الصغيرة نسبيا، تمثل في مجملها أكثر من ثلاثة أضعاف المساعدات الإنمائية الرسمية العالمية. كما تثبت هذه الموارد على أن تحويلها بالنسبة لكل من الأسر والمجتمعات هو من الأمور التي تعمل على تحقيق "أهداف التنمية المستدامة" الخاصة بها. وبالتالي تحقق تلك التدفقات النقدية سبعة من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر (2015-2030م) التي صاغتها الامم المتحدة لتحقيق التنمية المستدامة في الدول الفقيرة (وهي الهدف الأول والثاني والثالث والرابع والسادس والثامن والعاشر )وهي أهداف ترمى للقضاء على الفقر، والقضاء على الجوع وتعزيز الصحة الجيدة والتعليم الجيد وتوفير المياه النظيفة والصرف الصحي والعمل اللائق والنمو الاقتصادي - والحد من انعدام المساواة، على التوالي.
ويساهم تعدد وتنوع وسائل تحويل الاموال في تعزيز سلوك المهاجرين في الاستمرار في إرسال التحويلات المالية لأوطانهم، واستخدام القنوات الرسمية في الإرسال تبعاً لقوانين الدول التي يعملون بها. وكانت التحويلات المالية في السابق تُوَاجه بعدة صعوبات حتى تصل إلى مقصدها في الدول التي لديها عدد من المشاكل في أنظمتها المالية والبنية التحتية للتقنية وفي شبكات الاتصال، هذا بالإضافة إلى اختلاف التوقيت وساعات العمل في المؤسسات المالية العاملة في هذا القطاع. غير أن هذا الأمر تغير لأسباب عديدة منها اعتماد التقنيات الرقمية من قبل المهاجرين وأسرهم. وغدت خدمة التحويل عبر الهواتف المتنقلة متاحة الآن. وهي خدمة تمكّن المستخدمين من إرسال وتلقي مبالغ صغيرة عبر الهواتف المتنقلة دون استخدام حساب مصرفي. وقد زادت المبالغ المحولة بتلك الطريقة بنسبة 65% خلال عام 2020م،إذ بلغت 12.7 مليار دولار أمريكي،وارتفعت إلى 16 مليار دولار أمريكي في عام 2021م.وتظل خدمة التحويل عبر الهواتف المتنقلة هي الوسيلة الأنسب للمبالغ الصغيرة المحولة. وستتزايد الابتكارات التقنية الأخرى العاملة في مجال الخدمات المالية التي أحدثت من قبل تحولاً جذرياً في الأسواق.
وأفاد تقرير الهجرة والتنمية الصادر من البنك الدولي في 30 نوفمبر2022م بأن التحويلات إلى البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل قد زادت بنسبة 5% في عام 2022 م لتصل إلى 626 مليار دولار على الرغم من التغيرات العالمية المعاكسة. كذلك أوضح التقرير أن مساهمة العاملات المهاجرات الآن (وعددهن يصل لمئة مليون عاملة مهاجرة) تمثل نصف عدد الحوالات المالية المرسلة، كما تمثل التحويلات الدور الاقتصادي الأكبر للمرأة سواءً أكانت مرسلة أو مستقبلة؛ حيث تتمكن من تحقيق الاستقلال المالي والحصول على فرص العمل أفضل .وفي حين أن النساء يرسلن لأسرهن نفس المبالغ التي يرسلها الرجال تقريبا، تلاحظ أن النساء تميل إلى إرسال نسبة أعلى من مداخيلهن بانتظام، رغماً عن أنهن يكسبن أقل مما يكسبه الرجال على وجه العموم.
كما أوضح البنك الدولي في تقريره المذكور أن نسبة التحويلات قلت في العام 2022م بشكل حادٍ عن الزيادة المسجلة في عام 2021م والتي بلغت 10.2%،وذلك بسبب التغيرات المعاكسة التي شهدها عام 2022م على الصعيد العالمي، مع ارتفاع تكلفة إرسال المبالغ الصغيرة إلى الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، وفقاً لقاعدة بيانات البنك الدولي لأسعار التحويلات في العالم. وتعتبر شركات شبكات الهاتف المحمول هي الأرخص والأسرع لتحويل المبالغ، رغم ضعف حجم المعاملات المنفذة عن طريق القنوات الرقمية. إلا أن عبء الامتثال للوائح مكافحة غسل الأموال و تمويل الإرهاب لا يزال يفرض قيوده على تعامل مقدمي خدمات التحويلات والضوابط المفروضة من دول المهجر على المهاجرين على خدمات التحويلات الرقمية.
وفي المقابل تساهم بعض الدول التي تستقبل التحويلات من مواطنيها المهاجرين في دعمهم عبر عدد من التسهيلات المتنوعة، مثل بعض الإعفاءات الجمركية البسيطة، وتوقيع الاتفاقيات مع الدول لمستقبلة للعمالة لتنظيم هجرتهم وحماية حقوقهم بالخارج، كذلك وللحد من أعداد المهاجرين بطرق غير شرعية. كما تقوم سفارات تلك الدول بتسهيل اجراءات اقامة العاملين بالدول التي يعملون بها وذلك مثل تجديد جوازات السفر وتذليل الصعوبات التي تواجههم، وتعمل على تقليل تكاليف عملية تحويلات الأموال من الخارج والتي تتم عن طريق القنوات الرسمية. ويتم كل ذلك مقابل الفوائد التي تجنيها الدول من التدفقات المالية لاقتصادها الأمر الذي يعمل على تخفيض قيمة العملة المحلية كدولة متلقية للتحويلات. غير أن الدول التي لا تضع سياسات واضحة لتشجيع مواطنيها في المهجر لتحويل أموالهم عبر القنوات الرسمية، يلجأ فيها المهاجرين في إيجاد وسائل أخرى خارج القطاع الرسمي، مما ينشط السوق الموازي للقطاع غير الرسمي؛ ومعلوم أن هذا القطاع يعمل على تأكل الاقتصاد الجيد. الامر الذي يكشف أن حجم التحويلات المالية المرسلة من المهاجرين لديها عدد من عوامل مختلفة تحول دون وصولها عبر القنوات الرسمية،لأسباب تعود لنظم وإجراءات الدول المستقبلة للتحويلات نفسها، من تعقيد إجراءات استلام الأموال وعدم توفر قنوات الاستلام ومدى انتشارها في الدولة، بحيث يصعب على الكثيرين من المستفيدين في الريف والمناطق البعيدة استلام أموالهم مباشرة، خاصة مع التداعيات العالمية التي مرت خلال الأعوام السابقة مثل جائحة كرونا، والأزمة العالمية الناتجة من الحروب.
ويعد تسريع اعتماد التكنولوجيا الرقمية في التحويلات من قِبل العمال المهاجرين وعائلاتهم، من أسباب تعزيز عملية الرقمنة سواءً عن طريق الإنترنت أو الهواتف المحمولة. وازدادت التحويلات المالية عن طريق الهاتف المحمول وحدها بنسبة 65% خلال عام 2020 إلى 12.7 مليار دولار أمريكي (وفق تقرير رابطة النظام العالمي لاتصالات الهواتف المحمولةلعام 2021م). وساهم هذا التغير التكنولوجي في استمرار التحويلات خلال فترة جائحة كرونا والتباعد الاجتماعي، وساعد في استمرار التحويلات عبر القطاع المالي الرسمي للدول.هذا فضلاً عن أن المعاملات الرقمية أقل تكلفةً من التحويلات النقدية عن طريق الوسائل الأخرى، مما عزز من الشمول المالي للمهاجرين وعائلاتهم، وهو بند أشار إليه الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية (الهدف العشرين)، الذي يحث على خفض تكاليف التحويل، وشمول مالي أكبر من خلال التحويلات المالية.
وأدرك المجتمع الدولي أهمية زيادة حجم التحويلات النقدية على الاقتصاد، وأهمية خفض تكلفة التحويلات إلى 3% بحلول عام0203م، توافقاً مع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، وحالياً يبلغ متوسط تكلفة الاموال في معظم الدول الافريقية ضعف هذه الكلفة، وعادة لايمكن التحكم في تكلفة التحويلات المالية إلا عبر زيادة المنافسة في أسواق التحويلات وإتاحة عدد من شركات التحاويل ومكاتب البريد، وإمكانية دمج شرائح واسعة من السكان في الشمول المالي وفتح الحسابات المصرفية. كما يمكن تشجيع التحويلات المالية من خلال القنوات الرسمية باللجوء إلى سياسات الاقتصاد الكلي الحصيفة التي تتفادى تطبيق أسعار صرف متعددة في البلدان المتلقية للتحويلات.
ومن جانب آخر دفع التضخم العالمي الذي ساد عام 2022م لتشديد السياسات المالية للعام الجديد2023م خاصة عند الدول التي تواجه مستويات مرتفعة من الدين، لتخفيف عبء الاقتراض ذي التكلفة المتصاعدة وتحجيم التضخم عبر السياسة النقدية، وتخفيف الدعم الاستثنائي الذي تقدمه المالية العامة على السلع الاستراتيجية ، وبالتالي تخفيف ضغوط الأسعار، التي تواجه الأسر الضعيفة بسبب ارتفاع أسعار الطاقة أو الغذاء، لذلك بات العالم ينظر للتحويلات النقدية المباشرة كأداة فاعلة في دعم مباشر للأسر، عوضاً عن الدعم التشويهي للاقتصاد من المالية العامة ، أوالسعي غير المجدي لوضع ضوابط للأسعار التي أضحت محكومة بالتحرير الاقتصادي والانفتاح الاقتصادي العالمي .
ويشير تقرير البنك الدولي لشهر مايو/أيار 2022م إلى تذبذب حجم التدفقات من التحويلات المالية في في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال الأعوام (2020-2021-2022)وبلغت نسبة (5.2% - 7.6% - 6%) على التوالي. وكان ترتيب قائمة الدول العشر الأكثر تلقيًا للتحويلات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي مصر، التي احتلت المرتبة الأولى من بين أكثر الدول المتلقية للتحويلات المالية لعام 2021، بقيمة بلغت 31.5$ مليار دولار.وأتت المغرب من حيث قيمة التحويلات في المرتبة الثانية بقيمة 10.4$ مليار دولار، ثم لبنان بـ 6.6 مليار. واحتلّت جيبوتي المرتبة الأخيرة بقيمة 1.0$ مليار دولار.
وتحظى الدول التي تعتبر التحويلات المالية أحد وأهم مصادر النقد الأجنبي بها، بتدفقات كبيرة من تحويلات المهاجرين. لذلك تقوم بوضع برامج وسياسات مدروسة عبر تكوين فرق عمل بحثية لدراسة التطور للعلاقة بين الناتج المحلي الاجمالي وحجم تدفقات التحويلات النقدية للعاملين بالخارج في الدولة، وجعلها متماشية مع السياسات الموضوعة لإدارة سعر الصرف في الدولة، دون إغفال للظروف الاقتصادية سواء داخلية أو خارجية التي تؤثر على انسياب التحويلات للدولة ارتفاعاً وانخفاضاً، كما تقوم بتفعيل دور المؤسسات المالية(المصارف) في دعم تحويلات العاملين بالخارج من خلال خلق منتجات بنكية تجذب التحويلات المالية للعاملين بالخارج لتحويلها بالطرق الرسمية وتسهيل عملية وصولهم للحسابات المصرفية، عبر التقنيات التكنولوجية التي تمكن المهاجرين من الوصول للخدمات المالية والمنتجات وإدارة حساباتهم المصرفية عن بعد. كذلكيجب أن تعمل الدولة على إشراك منظمات المجتمع المدني في إعداد الخطط والبرامج بآلياتها المختلفة القريبة من المواطنين لتوظيف التحويلات التي تصلهم مما يعود بالنفع عليهم وعلى أسرهم، بدلاً من تحويل المجتمع إلى مجتمع استهلاكي فقط ينتظر وصول التحويلات لتسير معايشهم.
ويثمن اليوم الدولي للتحويلات المالية العائلية روح التعاضد الانساني من المهاجرين تجاه أسرهم ومجتمعاتهم. وتدعو الأمم المتحدة الحكومات، والقطاع الخاص، والمنظمات الإنمائية، والمجتمع المدني إلى الترويج للحلول الرقمية والمالية للتحويلات المالية التي تعزز قدرا أكبر من الصمود والشمول الاجتماعي والاقتصاد، لإنشاء رأس مال اجتماعي وجمع الأموال لتلبية الاحتياجات المحلية، وعدم إغفال الدور المجتمعي الذي يقوم به المهاجرون تجاه مناطقهم ومن التعاضد في بناء المرافق الاساسية من مدارس ومراكز صحية عبر منظمات أحيائهم السكنية أو من في جمعيات تعاونيه مع أبناء أحيائهم وقراهم في الداخل. كما ينبغي على الدول الاهتمام بقطاع المهاجرين بتقديم الوسائل المالية المناسبة لضمان وصول الحوالات بطريقة آمنة وقانونية، لتحدث تحويلاتهم تأثيراً إيجابياً على الاقتصاد.
خلاصة القول،إن فوائد التحويلات تعود على مستوى الاقتصاد الجزئي للأسر الفقيرة بتحسين الناتج على مستوى رأس المال البشري من الصحة والتعليم وزيادة المدخرات الشخصية، بينما تعود على مستوى الاقتصاد الكلي تعمل على زيادة معدلات النمو وتقليل آثار تقلب السياسات النقدية.
لذلك على الدول المستقبلة لتحويلات مواطنيها المهاجرين تبني سياسة مالية واضحة تهدف إلى تحقيق التوازن بين الاستهلاك والاستثمار المحلي سواء المادي أو البشري، واعتماد التحويلات المالية كمصدر من أهم مصادر التمويل الخارجي في دعم عملية التنمية والانفاق ومعدل النمو الاقتصادي وزيادة معدلات الادخار والاستثمار المحليين وميزان المدفوعات وتنوع الأنشطة الاقتصادية ودعم رأس المال البشري، وبالتالي العمل على تنمية الدخل وتحسين مستوى المعيشة والحد من الفقر.
nazikelhashmi@hotmail.com
وتلقى التحويلات الأسرية اهتماماً خاص من عدة جهات دولية عالمية لارتباطها بمفاهيم الشمول المالي والتخفيف من حدة الفقر وموضوعات أخرى لها علاقة بالهجرة. والجدير بالذكر أن الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت قد اعتمدت يوم 16 يونيو من كل عام يوماً عالمياً للتحويلات العائلية، لإذكاء الوعي بالعمل الجاد والتضحية من جانب الملايين من المهاجرين الذين يدعمون أفراد أسرهم ومجتمعاتهم الأصلية من خلال الأموال التي يرسلونها إلى أوطانهم.كذلك عزز الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2018م على أهمية التحويلات المالية للمهاجرين.
وفي ظل الازمات الاقتصادية المتلاحقة في العالم تزداد وتتعدد أهمية التحويلات المالية بحسب تقرير "الصندوق الدولي للتنمية الزراعية"الذي نُشر في15 يونيو 2022م (www.ifad.org)، فإن حوالي مليار شخص حول العالم في كل عام (أي حوالي شخص من كل سبعة أشخاص)، منهم200 مليون عامل مهاجر يرسلون أموالا إلى أوطانهم الأصلية، ويستفيد من تلك التدفقات النقدية نحو 800 مليون شخص. كذلك ذكر ذلك التقرير أن معدل التحويلات يتراوح بين200-300 دولار أمريكي ترسل من المهاجرين إلى أوطانهم في كل شهر إلى شهرين. ويمثل هذا المبلغ حوالي 15 في المائة فقط مما يكسبونه (ويظل المتبقي في البلدان التي يعملون بها). وما يحوله المهاجرون يمثل حوالي 60 % من إجمالي دخل الأسرة في أوطانهم، وهو رقم كبير يفي باحتياجات أسرهم الأساسية.
وتعد التحويلات المالية إحدى الوسائل الفاعلة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة حيث أنها تساعد حوالي 75% من فقراء العالم، وتساعد في تحسين مستوى المعيشة، خاصة المناطق الريفية والمناطق التي تعاني من انعدام الغذاء، وتسهم في تغطية النفقات الطبية أو الرسوم المدرسية أو تكاليف السكن وغيرها من التكاليف. كما تستخدم تلك التحويلات المالية وسيلةً للادخار أو للاستثمار في بناء أصول تدر عليهم دخولاً إضافية. وتساعد بصورة غير مباشرة في دعم تكوين المهارات والفرص من خلال التعليم وريادة الأعمال. والجدير بالذكر أن التحويلات المالية أو "المدفوعات الشخصية" ذات القيمة الصغيرة نسبيا، تمثل في مجملها أكثر من ثلاثة أضعاف المساعدات الإنمائية الرسمية العالمية. كما تثبت هذه الموارد على أن تحويلها بالنسبة لكل من الأسر والمجتمعات هو من الأمور التي تعمل على تحقيق "أهداف التنمية المستدامة" الخاصة بها. وبالتالي تحقق تلك التدفقات النقدية سبعة من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر (2015-2030م) التي صاغتها الامم المتحدة لتحقيق التنمية المستدامة في الدول الفقيرة (وهي الهدف الأول والثاني والثالث والرابع والسادس والثامن والعاشر )وهي أهداف ترمى للقضاء على الفقر، والقضاء على الجوع وتعزيز الصحة الجيدة والتعليم الجيد وتوفير المياه النظيفة والصرف الصحي والعمل اللائق والنمو الاقتصادي - والحد من انعدام المساواة، على التوالي.
ويساهم تعدد وتنوع وسائل تحويل الاموال في تعزيز سلوك المهاجرين في الاستمرار في إرسال التحويلات المالية لأوطانهم، واستخدام القنوات الرسمية في الإرسال تبعاً لقوانين الدول التي يعملون بها. وكانت التحويلات المالية في السابق تُوَاجه بعدة صعوبات حتى تصل إلى مقصدها في الدول التي لديها عدد من المشاكل في أنظمتها المالية والبنية التحتية للتقنية وفي شبكات الاتصال، هذا بالإضافة إلى اختلاف التوقيت وساعات العمل في المؤسسات المالية العاملة في هذا القطاع. غير أن هذا الأمر تغير لأسباب عديدة منها اعتماد التقنيات الرقمية من قبل المهاجرين وأسرهم. وغدت خدمة التحويل عبر الهواتف المتنقلة متاحة الآن. وهي خدمة تمكّن المستخدمين من إرسال وتلقي مبالغ صغيرة عبر الهواتف المتنقلة دون استخدام حساب مصرفي. وقد زادت المبالغ المحولة بتلك الطريقة بنسبة 65% خلال عام 2020م،إذ بلغت 12.7 مليار دولار أمريكي،وارتفعت إلى 16 مليار دولار أمريكي في عام 2021م.وتظل خدمة التحويل عبر الهواتف المتنقلة هي الوسيلة الأنسب للمبالغ الصغيرة المحولة. وستتزايد الابتكارات التقنية الأخرى العاملة في مجال الخدمات المالية التي أحدثت من قبل تحولاً جذرياً في الأسواق.
وأفاد تقرير الهجرة والتنمية الصادر من البنك الدولي في 30 نوفمبر2022م بأن التحويلات إلى البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل قد زادت بنسبة 5% في عام 2022 م لتصل إلى 626 مليار دولار على الرغم من التغيرات العالمية المعاكسة. كذلك أوضح التقرير أن مساهمة العاملات المهاجرات الآن (وعددهن يصل لمئة مليون عاملة مهاجرة) تمثل نصف عدد الحوالات المالية المرسلة، كما تمثل التحويلات الدور الاقتصادي الأكبر للمرأة سواءً أكانت مرسلة أو مستقبلة؛ حيث تتمكن من تحقيق الاستقلال المالي والحصول على فرص العمل أفضل .وفي حين أن النساء يرسلن لأسرهن نفس المبالغ التي يرسلها الرجال تقريبا، تلاحظ أن النساء تميل إلى إرسال نسبة أعلى من مداخيلهن بانتظام، رغماً عن أنهن يكسبن أقل مما يكسبه الرجال على وجه العموم.
كما أوضح البنك الدولي في تقريره المذكور أن نسبة التحويلات قلت في العام 2022م بشكل حادٍ عن الزيادة المسجلة في عام 2021م والتي بلغت 10.2%،وذلك بسبب التغيرات المعاكسة التي شهدها عام 2022م على الصعيد العالمي، مع ارتفاع تكلفة إرسال المبالغ الصغيرة إلى الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، وفقاً لقاعدة بيانات البنك الدولي لأسعار التحويلات في العالم. وتعتبر شركات شبكات الهاتف المحمول هي الأرخص والأسرع لتحويل المبالغ، رغم ضعف حجم المعاملات المنفذة عن طريق القنوات الرقمية. إلا أن عبء الامتثال للوائح مكافحة غسل الأموال و تمويل الإرهاب لا يزال يفرض قيوده على تعامل مقدمي خدمات التحويلات والضوابط المفروضة من دول المهجر على المهاجرين على خدمات التحويلات الرقمية.
وفي المقابل تساهم بعض الدول التي تستقبل التحويلات من مواطنيها المهاجرين في دعمهم عبر عدد من التسهيلات المتنوعة، مثل بعض الإعفاءات الجمركية البسيطة، وتوقيع الاتفاقيات مع الدول لمستقبلة للعمالة لتنظيم هجرتهم وحماية حقوقهم بالخارج، كذلك وللحد من أعداد المهاجرين بطرق غير شرعية. كما تقوم سفارات تلك الدول بتسهيل اجراءات اقامة العاملين بالدول التي يعملون بها وذلك مثل تجديد جوازات السفر وتذليل الصعوبات التي تواجههم، وتعمل على تقليل تكاليف عملية تحويلات الأموال من الخارج والتي تتم عن طريق القنوات الرسمية. ويتم كل ذلك مقابل الفوائد التي تجنيها الدول من التدفقات المالية لاقتصادها الأمر الذي يعمل على تخفيض قيمة العملة المحلية كدولة متلقية للتحويلات. غير أن الدول التي لا تضع سياسات واضحة لتشجيع مواطنيها في المهجر لتحويل أموالهم عبر القنوات الرسمية، يلجأ فيها المهاجرين في إيجاد وسائل أخرى خارج القطاع الرسمي، مما ينشط السوق الموازي للقطاع غير الرسمي؛ ومعلوم أن هذا القطاع يعمل على تأكل الاقتصاد الجيد. الامر الذي يكشف أن حجم التحويلات المالية المرسلة من المهاجرين لديها عدد من عوامل مختلفة تحول دون وصولها عبر القنوات الرسمية،لأسباب تعود لنظم وإجراءات الدول المستقبلة للتحويلات نفسها، من تعقيد إجراءات استلام الأموال وعدم توفر قنوات الاستلام ومدى انتشارها في الدولة، بحيث يصعب على الكثيرين من المستفيدين في الريف والمناطق البعيدة استلام أموالهم مباشرة، خاصة مع التداعيات العالمية التي مرت خلال الأعوام السابقة مثل جائحة كرونا، والأزمة العالمية الناتجة من الحروب.
ويعد تسريع اعتماد التكنولوجيا الرقمية في التحويلات من قِبل العمال المهاجرين وعائلاتهم، من أسباب تعزيز عملية الرقمنة سواءً عن طريق الإنترنت أو الهواتف المحمولة. وازدادت التحويلات المالية عن طريق الهاتف المحمول وحدها بنسبة 65% خلال عام 2020 إلى 12.7 مليار دولار أمريكي (وفق تقرير رابطة النظام العالمي لاتصالات الهواتف المحمولةلعام 2021م). وساهم هذا التغير التكنولوجي في استمرار التحويلات خلال فترة جائحة كرونا والتباعد الاجتماعي، وساعد في استمرار التحويلات عبر القطاع المالي الرسمي للدول.هذا فضلاً عن أن المعاملات الرقمية أقل تكلفةً من التحويلات النقدية عن طريق الوسائل الأخرى، مما عزز من الشمول المالي للمهاجرين وعائلاتهم، وهو بند أشار إليه الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية (الهدف العشرين)، الذي يحث على خفض تكاليف التحويل، وشمول مالي أكبر من خلال التحويلات المالية.
وأدرك المجتمع الدولي أهمية زيادة حجم التحويلات النقدية على الاقتصاد، وأهمية خفض تكلفة التحويلات إلى 3% بحلول عام0203م، توافقاً مع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، وحالياً يبلغ متوسط تكلفة الاموال في معظم الدول الافريقية ضعف هذه الكلفة، وعادة لايمكن التحكم في تكلفة التحويلات المالية إلا عبر زيادة المنافسة في أسواق التحويلات وإتاحة عدد من شركات التحاويل ومكاتب البريد، وإمكانية دمج شرائح واسعة من السكان في الشمول المالي وفتح الحسابات المصرفية. كما يمكن تشجيع التحويلات المالية من خلال القنوات الرسمية باللجوء إلى سياسات الاقتصاد الكلي الحصيفة التي تتفادى تطبيق أسعار صرف متعددة في البلدان المتلقية للتحويلات.
ومن جانب آخر دفع التضخم العالمي الذي ساد عام 2022م لتشديد السياسات المالية للعام الجديد2023م خاصة عند الدول التي تواجه مستويات مرتفعة من الدين، لتخفيف عبء الاقتراض ذي التكلفة المتصاعدة وتحجيم التضخم عبر السياسة النقدية، وتخفيف الدعم الاستثنائي الذي تقدمه المالية العامة على السلع الاستراتيجية ، وبالتالي تخفيف ضغوط الأسعار، التي تواجه الأسر الضعيفة بسبب ارتفاع أسعار الطاقة أو الغذاء، لذلك بات العالم ينظر للتحويلات النقدية المباشرة كأداة فاعلة في دعم مباشر للأسر، عوضاً عن الدعم التشويهي للاقتصاد من المالية العامة ، أوالسعي غير المجدي لوضع ضوابط للأسعار التي أضحت محكومة بالتحرير الاقتصادي والانفتاح الاقتصادي العالمي .
ويشير تقرير البنك الدولي لشهر مايو/أيار 2022م إلى تذبذب حجم التدفقات من التحويلات المالية في في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال الأعوام (2020-2021-2022)وبلغت نسبة (5.2% - 7.6% - 6%) على التوالي. وكان ترتيب قائمة الدول العشر الأكثر تلقيًا للتحويلات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي مصر، التي احتلت المرتبة الأولى من بين أكثر الدول المتلقية للتحويلات المالية لعام 2021، بقيمة بلغت 31.5$ مليار دولار.وأتت المغرب من حيث قيمة التحويلات في المرتبة الثانية بقيمة 10.4$ مليار دولار، ثم لبنان بـ 6.6 مليار. واحتلّت جيبوتي المرتبة الأخيرة بقيمة 1.0$ مليار دولار.
وتحظى الدول التي تعتبر التحويلات المالية أحد وأهم مصادر النقد الأجنبي بها، بتدفقات كبيرة من تحويلات المهاجرين. لذلك تقوم بوضع برامج وسياسات مدروسة عبر تكوين فرق عمل بحثية لدراسة التطور للعلاقة بين الناتج المحلي الاجمالي وحجم تدفقات التحويلات النقدية للعاملين بالخارج في الدولة، وجعلها متماشية مع السياسات الموضوعة لإدارة سعر الصرف في الدولة، دون إغفال للظروف الاقتصادية سواء داخلية أو خارجية التي تؤثر على انسياب التحويلات للدولة ارتفاعاً وانخفاضاً، كما تقوم بتفعيل دور المؤسسات المالية(المصارف) في دعم تحويلات العاملين بالخارج من خلال خلق منتجات بنكية تجذب التحويلات المالية للعاملين بالخارج لتحويلها بالطرق الرسمية وتسهيل عملية وصولهم للحسابات المصرفية، عبر التقنيات التكنولوجية التي تمكن المهاجرين من الوصول للخدمات المالية والمنتجات وإدارة حساباتهم المصرفية عن بعد. كذلكيجب أن تعمل الدولة على إشراك منظمات المجتمع المدني في إعداد الخطط والبرامج بآلياتها المختلفة القريبة من المواطنين لتوظيف التحويلات التي تصلهم مما يعود بالنفع عليهم وعلى أسرهم، بدلاً من تحويل المجتمع إلى مجتمع استهلاكي فقط ينتظر وصول التحويلات لتسير معايشهم.
ويثمن اليوم الدولي للتحويلات المالية العائلية روح التعاضد الانساني من المهاجرين تجاه أسرهم ومجتمعاتهم. وتدعو الأمم المتحدة الحكومات، والقطاع الخاص، والمنظمات الإنمائية، والمجتمع المدني إلى الترويج للحلول الرقمية والمالية للتحويلات المالية التي تعزز قدرا أكبر من الصمود والشمول الاجتماعي والاقتصاد، لإنشاء رأس مال اجتماعي وجمع الأموال لتلبية الاحتياجات المحلية، وعدم إغفال الدور المجتمعي الذي يقوم به المهاجرون تجاه مناطقهم ومن التعاضد في بناء المرافق الاساسية من مدارس ومراكز صحية عبر منظمات أحيائهم السكنية أو من في جمعيات تعاونيه مع أبناء أحيائهم وقراهم في الداخل. كما ينبغي على الدول الاهتمام بقطاع المهاجرين بتقديم الوسائل المالية المناسبة لضمان وصول الحوالات بطريقة آمنة وقانونية، لتحدث تحويلاتهم تأثيراً إيجابياً على الاقتصاد.
خلاصة القول،إن فوائد التحويلات تعود على مستوى الاقتصاد الجزئي للأسر الفقيرة بتحسين الناتج على مستوى رأس المال البشري من الصحة والتعليم وزيادة المدخرات الشخصية، بينما تعود على مستوى الاقتصاد الكلي تعمل على زيادة معدلات النمو وتقليل آثار تقلب السياسات النقدية.
لذلك على الدول المستقبلة لتحويلات مواطنيها المهاجرين تبني سياسة مالية واضحة تهدف إلى تحقيق التوازن بين الاستهلاك والاستثمار المحلي سواء المادي أو البشري، واعتماد التحويلات المالية كمصدر من أهم مصادر التمويل الخارجي في دعم عملية التنمية والانفاق ومعدل النمو الاقتصادي وزيادة معدلات الادخار والاستثمار المحليين وميزان المدفوعات وتنوع الأنشطة الاقتصادية ودعم رأس المال البشري، وبالتالي العمل على تنمية الدخل وتحسين مستوى المعيشة والحد من الفقر.
nazikelhashmi@hotmail.com