أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه ….. عرض وتحليل: أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك

 


 

 


أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه (1901-1969م)
بين التعليم والسياسة وأربجي
تأليف: د. فدوى عبد الرحمن علي طه
عرض وتحليل: أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك

تقديم
قدَّم الأستاذ الطيب صالح كتاب يوسف الشريف، "السودان وأهل السودان: أسرار السياسة وخفايا المجتمع"، بقوله: "السودانيون، لم يوطِّنوا أنفسهم بعد، على أن يروا واقعهم مصوَّراً في مرآة التاريخ، وربما يفسر ذلك أن عدداً من الرجال الذين أسهموا مساهمات عظيمة في بناء المجتمع، كلهم رحلوا دون أن يتركوا سجلاً لتجاربهم، [بل] حملوها معهم إلى مراقدهم، فخسر الناس بذلك خسارة لا تعوض." (يوسف الشريف: ص 7) إلا أن هذه الفرضية لا تنطبق على أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه، لأنه بفضل حسه التوثيقي استطاع أن يدوِّن شطراً من تاريخ حياته السياسية في كتابه الموسوم بـ "السودان للسودانيين"، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1955م، في وقت كان السودان يمر بمرحلة مخاض حرجة في تاريخ نضاله السياسي، ويتأرجح تقرير مصيره بين خيار الاستقلال التام وخيار وحدة وادي النيل. وقد استقام ميسم هذه السيرة بالجهد الذي بذلته ابنته الدكتورة فدوى في كتابها الموسوم بـ "أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه، 1901-1969م: بين التعليم والسياسة وأربجي"، ويبدو أن هذا الكتاب قد جاء استجابة لمسوِّغات كثيرة، من ضمنها النداء الذي وجهه الأستاذ محجوب عمر باشري، بقوله: "ولعبد الرحمن علي طه دراسات ومقالات متخصصة وأوراق وذكريات لم تر النور، فلو جُمعت ونُشرت لأضافت الكثير في حياتنا الفكرية، وأبناؤه قادرون على ذلك"، (رواد الفكر في السودان، ص 212)، ويتجلى هذا النداء أيضاً في الخطاب الذي بعثه الحفيد عبد الرحمن فيصل عام 1992م إلى عمته فدوى، مُثـمِّناً تحقيقها لكتاب "السودان للسودانيين"، ومخاطباً هاجساً في نفسها بقوله: "لا أدري إن كان نفس الخاطر قد جال بذهنك، ولكنني تساءلتُ إن كان بالإمكان توسيع هذه الترجمة في كتاب منفصل، يعرض تفاصيل إصلاحاته التعليمية وتجربته السياسية، بالإضافة إلى جمع أعماله وكتاباته التي لم تنشر، وحتى التمثيليات التي ألفها مع مقاطع ولمحات تحليلية لبعض ما أدخله في الكتب والمناهج المدرسية." (فدوي: ص 522)
فلا عجب أن كل ذلك يؤكد أن الكتاب الذي بين أيدينا الآن يدور حول شخصية ذات صلة دقيقة بأحداث كبرى شهدها السودان في فترة نضاله الوطني، وسعيه الحثيث تجاه الاستقلال الذي كان محفوفاً بالمخاطر والتحديات اللاحقة التي واجهت أبناء السودان الحر المستقل، وذات نظرة خاصة إلى الحياة الإنسانية وحقائق الكون، الشيء الذي أهَّل صاحبها إلى سَوْدَنة منصب وزير وزارة المعارف، وجعله نسيج وحده في كثير من المجالات التي طرقها. فلاشك أن هذا التفرد قد جعل الصحفي يحيى عبد القادر يعاتبه قائلاً: لقد أخطأ عبد الرحمن علي طه عندما زج "بنفسه في السياسة الحزبية الضيقة بانتمائه إلى حزب الأمه وهيئته ... وقد كان جديراً برجل مثله غير معروف بالتبعية الطائفية والنحلة الحزبية أن ينتهز الفرصة فيصبح قومياً، [... و] لا يرتطم بالتيارات المعارضة". فيتهمه "قلة من زملائه بالمكر، ولكن الكثرة منهم يرون أنه الدهاء والاستعداد الشخصي لمسايرة الحوادث والأشخاص." (شخصيات من السودان: ص 106)
    هذا هو الخبير التربوي والسياسي المخلص الأستاذ عبد الرحمن علي طه كما عرفه الآخرون، ولكن لابنته فدوى التي تعتز بسيرته مادحةً: "إلى والدي عبد الرحمن علي طه الذي أورثني اسماً عظيماً ووضعني على بدايات الطريق"، قراءة أُخرى تجمع بين محبة البُنوَّة الصادقة، وإحساس المؤرخ المرهف، القائم الدقة والموثوقية في عرض الأحداث التاريخية، دون تشيع لرأي أو نحلة، أو ذهول عن مقصد كامن وراء الحدث التاريخي، أو جهل بواقع عمران بشري فرض وجوده في بلورة معالم ذلك الحدث. وفي هذا الشأن تقول المؤلفة: "لقد بذلت جهداً كبيراً لأتحلى بصفات المؤرخ المطلوبة من حيدة وموضوعية، بعيداً عن الصلة التي تربطني بالشخصية موضوع الكتاب. وذلك بعيداً عن أسر العواطف والمشاعر، التي كثيراً ما تجيش وتندفع أثناء الكتابة مسترجعة ذكريات أيام خوالي. لقد كنت لصيقة جداً بوالدي الذي فقدته في مرحلة حرجة جداً هي بداية المرحلة الثانوية، فرحل عني وكنت أحوج ما أكون إليه، لتكملة ما بدأه في نواحي الإعداد الأكاديمي والتربوي والنفسي والاجتماعي." (فدوى: ص 16) هذا هو الجو المعرفي الذي ولد فيه كتاب: "أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه". ويتكون الكتاب من 533 صفحة من الحجم المتوسط، استهلتها المؤلفة بمقدمة عن دواعي التأليف، والمنهجية البحثية المتعبة، وشكر وعرفان لمن أسهموا في إنجاح هذا المشروع، ثم أعقبت ذلك بثمانية فصول، وخاتمة، وملاحق، وثبت للمصادر والمراجع العربية والإنجليزية، إضافة إلى ثلة من الصور المختارة التي تعكس بعض الجوانب السياسية والتربوية والأسرية المرتبطة بحياة المترجم له، وخريطة للمواقع الجغرافية ذات الصلة بحياة صاحب السيرة الذاخرة بالعطاء والإنجاز. وقد صدر هذا السفر القيم في موضوعه عن مطابع دار عزة للنشر والتوزيع بالخرطوم، شراكةً مع دار جامعة الخرطوم للنشر في عام 2003م.
وفي ضوء هذه التوطئة يمكننا أن نعرض سيرة أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه من خلال ثلاثة محاور رئيسة، يراعي فيها التدرج التاريخي والبناء النفسي لشخصية المترجم له، وطبيعة الواقع السياسي والاجتماعي والفكري الذي عاش بين ظهرانيه، باعتباره واحداً من أبناء جيل اليقظة الذين نشأوا في كنف الاستعمار، وتعلموا في مدارسه وكلياته، وتدربوا في مؤسساته المهنية، ثم أصبحوا بعد ذلك يمثلون طبقة الأفندية التي حملت لواء النضال السياسي ضد المستعمر، وقامت بسودنة الوظائف المهنية والسياسية بعد الاستقلال. وأخيراً نربط ذلك كُـلِّه بمشروع العودة إلى الجذور (أربجي)، الذي يختلف مضموناً ومعنىً عن مفهوم العودة الذي أسس له ألكس هالي أو ذلك الذي جسده الطيب صالح في شخصية مصطفي سعيد، لأن عطاء أستاذ الأجيال كان عطاءً محسوساً، تجلت معالمه في نقل عمارة الجعليين (أو العمارة طه) نقلة نوعية، عتقتها من قيود الانتماء العرقي الضيقة، وتوأمة بينها وبين عمارة البطاحين في اسم واحد له دلالته التاريخية والقومية (أربجي)، وطوَّرتها أيضاً إلى مرقٍ أشبه بمرقى دامر المجذوب، التي جمعت بين قيم القرية الفاضلة وكمالات البندر التي تقع خارج نطاق ضرورات أهل القُرى وتطلعاتهم المشروعة.


الخلفية الأسرية والإعداد المعرفي والعطاء التربوي
يعطي هذا المحور عرضاً تحليلياً للمادة الواردة في الفصل الأول الذي أطلقت عليه المؤلفة "الجذور العائلية والاجتماعية والتعليمية"، والفصل الثاني المعنون بـ "بخت الرضا". والمحصلة الوسطى التي تجمع بين هذين الفصلين ترتكز إلى التعريف بمولد صاحب السيرة ونشأته ومراحل تعليمه المختلفة، وتسلط الضوء على فترة عمله مدرساً بمدرسة أمدرمان الأميرية وكلية غردون، ثم توثق لفترة نبوغه التربوي وعطائه الدافق بمعهد التربية ببخت الرضا.
وكما ترى الدكتورة فدوى فإن المترجم له ولد في لحظة كانت حاسمة من تاريخ السودان، شهدت نهاية الدولة المهدية وقيام الحكم الثنائي، وكان ميلاده بعمارة الجعليين التي تقع على بُعْد سبعة كيلومترات جنوب مدينة الحصاحيصا، لأب يجمع في نسبه بين قبيلة الصواردة المحس والجعليين المسيكتاب، ولأم تنتمي إلى فرع الجعليين الميرفاب. هكذا ولد عبد الرحمن في كنف جيل الهزيمة (كما يسميه محمد المكي إبراهيم) الذي استُوعب نفر منه في مؤسسات الحكم الإنجليزي المصري، ومن جملة هؤلاء المستوعبين كان والده العمدة علي طه، الذي أُوكلت إليه مهمة إدارة قرى الجعليين بشمال الجزيرة، ومن اشهرها الدوينيب، والعيكورة، وودسلفاب. وكعادة أهل السودان في ذلك الوقت أُرسل الصبي عبد الرحمن إلى خلوة ود التويم لتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ومنها انتقل إلى خلوة الشيخ طه البطحاني، حيث درس مبادئ الفقه وحفظ نذراً من القرآن. وكان التعليم المدني الحكومي آنذاك مرفوضاً من قِبل أهالي الريف السوداني الذين كانوا يعتبرونه مفسدة لأخلاقيات الصبية، إلا العمدة علي طه كان شأن كشأن رصفائه العاملين في مؤسسات الدولة والقائمين على تنفيذ سياساتها التعليمية، لذا فنجده قد اهتم بتعليم أبنائه، وحاول أن يشجع سكان القرى الواقعة تحت إدارته أن يحذو حذوه. فلاشك أن هذا الواقع جعل الصبي عبد الرحمن ينتقل من خلوة الشيخ طه البطحاني إلى مدرسة المسلمية الأولية، ثم يكمل تعليمه الأولي بمدرسة رفاعة التي كانت على مقربة من العمارة طه. وتصف الدكتورة فدوى الصبي عبد الرحمن في هذه الفترة "بالشغب والشقاوة والتميز الأكاديمي على أقرانه"، (فدوى: ص 51) الشيء الذي مهد له الطريق للانتقال إلى كلية غردون بالخرطوم، حيث درس الوسطى والثانوي بقسم المعلمين، وعلى حسب ما جاء في مصادر المؤلفة، فقد كان "مبرزاً ومتميزاً في العقل والتحصيل، صاحبه نبوغ مبكر خلال سنوات الدراسة"، (فدوى: ص 55) وبجانب ذلك لمع اسمه في المناشط الثقافية، والعمل المسرحي، والمحاضرات، والندوات التي كان تعقدها الكلية لصقل مواهب الطلاب النُجُب.
    وفور تخرجه من كلية غردون عام 1922م، التحق عبد الرحمن علي طه بمصلحة المعارف، حيث عُين معلماً للغة الإنجليزية بمدرسة أم درمان الأميرية، وعاصر في تلك الفترة الزعيم إسماعيل الأزهري الذي كان معلماً للرياضيات، ومن جمله تلاميذه بالأميرية أمين التوم ساتي، والتجاني عامر الذي وصف جيل عبد الرحمن من المعلمين السودانيين بقوله: "أذكر ونحن تلاميذ بمدرسة أم درمان الوسطى في العشرينات أن جاءتنا دفعة من المدرسين الذين تخرجوا حديثاً من كلية غردون، في طليعتهم المرحوم عبد الرحمن علي طه، ومعه ممن أذكر من المدرسين الدكتور على بدري، والمرحوم محمد الأزرق، والمرحوم حمزة أحمد، والأستاذ عوض ساتي وغيرهم. وقد أدركنا برغم حداثة أعمارنا أن لهؤلاء طابعاً خاصاً يميزهم كجيل جديد من الأساتذة، وأبرز معالم ذلك الطابع أنهم جميعاً كانوا يلبسون العمامة البلدية الكبيرة مع الجبة والقفطان، في حين كان المدرسون الذين سبقوهم يلبسون الطربوش المغربي مع عمامة صغيرة على زي جماعة الأزهر الشريف من المدرسين المصريين ..." (فدوى: ص 57) 
ويبدو أن مدرسة أمدرمان الأميرية كانت أقصر من قامة عبد الرحمن علي طه المعرفية، لأنه في عام 1927م نُقل مترقياً إلى كلية غردون، التي "كانت تعاني من نقص في الأساتذة بعد ثورة عام 1924، فقد أُبعد المعلمون المصريون، وانتهت فترة عمل كثير من المدرسين السوريين." (فدوى: ص 59) ومن ضمن تلاميذه في تلك المرحلة الأستاذ سر الختم الخليفة الذي يصف أستاذه بأنه "صاحب أسلوب متفرد وكفاءة مقتدرة وروح عالية في التعامل مع الطلبة"، وعلى ذات النسق جاءت التقارير الرسمية التي اعتبرت نقله إلى معهد بخت الرضا بالدويم "خسارة كبيرة"، لكلية غردون، لأنه كان على صلة طيبة بطلاب قسم المعلمين، وكان من أعضاء هيئة التدريس الذين تميزوا بعطائهم الأكاديمي الثر، وعملهم المفيد في "ترقية الحركة الكشفية في الخرطوم وأم درمان." (فدوى: ص 63).
فلا عجب أن معهد التربية ببخت الرضا كان يمثل مرحلة محورية في حياة الأستاذ عبد الرحمن علي طه، الذي انتقل إليه عام 1935م، ومنذ ذلك الوقت ارتبط اسمه بتدريب المعلمين، وإعداد المناهج الدراسية، والقيام بالتفتيش الفني للتعليم، وتقويم مسار التعليم العام في السودان. وتقديراً لعطائه المتفرد في هذا الشأن تمت ترقيته إلى نائب عميد بخت الرضا، ويتحدث عنه عميد المعهد آنذاك، الأستاذ ف. ل. قريفث، في سياق حديثه عن أعضاء هيئة التدريس ببخت الرضا، فيقول: "ولعل نائب العميد كان أبرزهم. كان دقيق البنية معتدل القامة، يتحدث في ثقة وشجاعة تتخللها الدُعابة، كما تخللها الأسئلة التي كان يصوبها نحو شخصيات معروفة من مستمعيه. كان في قرارة نفسه ينتمي إلى المدرسة القديمة، ويتمسك بالمبادئ الدينية والأخلاق في وقت كانت فيه الأخلاق قد تداعت، وكان على استعداد لتأديب أبنائه في وقت تخلى كثير من الآباء عن هذه المهمة. وعلى هذا الأساس المتين من الأخلاق أخذ يستوعب الأفكار الجديدة بعد أن يتأملها جيداً، ويفكر في تطبيقات جديدة لها، بحيث تصبح وكأنها أفكاره الشخصية. وكان يهتم بالعلاقات الشخصية والرأي العام. وهذه من خصائص الأشخاص الذين ينشأون في مجتمع يعتمد على العلاقات الشخصية أكثر من اعتماد المجتمع الحديث عليها. ولا يعني ذلك أنه كان يخشى الرأي العام، وإنما كان في اهتمامه به ضمانة دائمة لعملنا ومصدراً للمقترحات البناءة التي يقدمها. وقد أكسبه إخلاصه ووطنيته وإحساسه بالعلاقات الشخصية نفوذاً فريداً بين قدامى المعلمين. أما صغار المعلمين فقد كان في واقع الأمر الشخص الوحيد تقريباً من أعضاء هيئة التدريس الذين يهابونه بالمعنى الإنجيلي السليم. أما بالنسبة لنا نحن الأجانب فقد كان المرجع في أسلوب المعاملات اليومية. كما كان القدوة في الإخلاص للعمل الذي نذرنا أنفسنا له." (نقلاً عن فدوى: ص 80-81). هذا هو "أب عوف" كما يسميه أقرانه، فلاشك أن قريفث قد بيَّن موقعه المحوري في إدارة معهد بخت الرضا، ودوره الفاعل في ترتيب شبكة العلاقات الأكاديمية والاجتماعية التي كانت تقوم على نسيج خلاق، يجمع بين القديم والحديث، ويؤاخي بين إدارة المعهد الأجنبية وأعضاء هيئة الوطنيين، ويوثق عرى الترابط بين طلاب المعهد الذين كانوا يشكلون ألوان طيف المجتمع السوداني الزاخر بالتباين العرقي، والاجتماعي، والثقافي. وشمل مجال إسهامه التربوي حقولاً تعليمية شتى، نذكر منها الاهتمام بتعليم الكبار، وتعليم البنات، والتدريب المنـزلي، والفلاحة البُستانية، والمناشط الرياضية، ومكتبة النشر ومجلة الصبيان. وكل هذه القيم المعرفية كانت تصب في أوعية الإعداد الوطني وربط الطلاب بتقاليد المجتمع السوداني، وذلك من خلال جملة إصدارات للمترجم له، أشهرها كتابه الموسوم بـ "سبل كبس العيش في السودان"، الذي نظمه في شكل زيارات علمية لمناطق السودان المختلفة للتعرف على دقائق بيئاتها المحلية وأنشطتها البشرية. وبذلك استطاع أبوعوف أن يجعل من الجغرافيا أدباً ينشد داخل قاعات الدرس وخارجها، كما جاء في قصيدته المشهورة:

في القولد التقيت بالصـــديق        أنعم به من فاضل صديق
خرجت أمشي معه في السـاقية        ويالها من ذكريات باقية
فكم أكلتُ معه الـــكابيدا        وكم سمعتُ آورو ألودا
       
هكذا كان أبوعوف صاحب دور مبدع في تطوير التعليم العام بالسودان إلى أن ودع بخت الرضا عام 1948م مرتحلاً إلى الخرطوم، حيث شغل منصب أول وزير سوداني للمعارف (1948-1953م) قبل الاستقلال. لذا فقد وصفه الأستاذ السر قدور بالأب "الشرعي لنظام التعليم الحديث الرسمي في السودان"، لأنه من وجهة نظره كان "رائد التأصيل التعليمي، وإحلال المناهج المرتبطة بحياة أبناء السودان وتاريخهم، وأساليب نشاطاتهم الحياتية والمعيشية مكان المناهج الدراسية الوافدة، التي وضعتها الإدارة الاستعمارية مع بداية الخطوات الأولى للتعليم الحديث في السودان". (نقلاً عن فدوى: ص 84-85).  

وزارة المعارف ومعترك العمل السياسي
يحلل هذا المحور مفردات الفصل الثالث الموسوم بـ "وزارة المعارف: التطورات التعليمية في شمال السودان"، والفصل الرابع الخاص بالتعليم في "جنوب السودان وجبال النوبة"، والفصل الخامس الذي أطلقت عليه المؤلفة "دور عبد الرحمن علي طه السياسي". فالعلاقة الجامعة بين هذه الفصول الثلاثة تكمن في انتقال أستاذ الأجيال من دائرة العمل المهني  التنفيذي إلى دائرة صناعة السياسة التعليمية العامة في جو ملبد بغيوم الهاجس السياسي الذي صنفه في قائمة وزراء حزب الأمة البارزين وضمن الصفوة الاستشارية للإمام عبد الرحمن المهدي، كما يرى العميد يوسف بدري (انظر مقاله: "رجال حول الإمام عبد الرحمن  المهدي"). وكانت جدلية العلاقة القائمة بين العمل المهني والممارسة السياسية تلقي دائماً بظلالها على أداء وزير المعارف، الذي كان يميز بين الاثنين، وسط جمهور يخلط بين كليهما من أجل تحقيق الكسب السياسي العارض. ويتجلى هذا الموقف في خطة وزارة المعارف العشرية المعدلة التي قدمها الوزير للمجلس التنفيذي في مايو 1949م، وعضد ذلك بقوله: " أنوي بعد مصادقة الجمعية التشريعية عليها أن أوزع نسخاً منها لجميع المدارس السودانية والأندية الكبرى في البلاد، وللصحافة ليطلع عليها أكبر عدد ممكن من المواطنين، وغرض ذلك أن أخلق رقابة شعبية تشير عليَّ بالنقد الصالح والتوجيه، وتحاسبني على النتائج محاسبة ركازها تمحيص الحقائق ورائدها المصلحة العامة." (نقلاً عن فدوى: ص 144) وفي ضوء هذه الشفافية الخاضعة لمعايير المصلحة العامة قدم الوزير خطته الجمعية التشريعية التي أجازتها في نوفمبر 1949م. وقد تبلورت نتائج هذه الخطة في التوسع الأفقي والتصاعد الرأسي في حقل التعليم العام في شمال السودان، وقد شمل ذلك المدارس الأولية، والمدارس الوسطى، والمدارس الثانوية الصغرى، والمدارس الثانوية، والمدارس الصناعية والفنية، كليات تدريب المعلمين والمعلمات، وتعليم الكبار.
أما الجنوب وجبال النوبة فقد كانا يمثلان محور اهتمام آخر وتحدٍ حقيقي للسياسات التعليمية التي وضعها أستاذ الأجيال، لأنه كان يرى أن تطوير التعليم في الجنوب يجب أن يكون مصحوباً باللغة العربية، وفي جبال النوبة بالتعليم الإسلامي الديني، إضافة إلى وضع مدارس الإرساليات تحت أشراف وزارة المعارف. وبهذه الكيفية دخل الوزير في تحدٍ سافرٍ مع الإدارة الاستعمارية، ويظهر هذا التحدي في عباراته الممتعضة: "وعلى الجملة لم يكن تنفيذ الأشياء المتقدمة بالأمر السهل، لأنها تمس صميم السياسة الاستعمارية في الجنوب والجبال. لذلك اضطررت لتقديم استقالتي من الوزارة ثلاث مرات، آخرها والتي قبلت فعلاً تخص ترقية الأستاذ عوض ساتي. وبعد أن جمعت أوراقي الخصوصية من المكتب، وشرعت في حزم متاعي من المنـزل الحكومي، أوفد الحاكم العام سكرتيره الخاص للإمام عبد الرحمن المهدي يرجوني ألا أنشر شيئاً في الصحف، فرفضت الرجاء، ورفضه معي الإمام. وبعد يومين فقط عاد الحاكم العام فقبل ترقية عوض ساتي دون قيد أو شرط فسحبت الاستقالة." (نقلاً عن فدوى: ص 176-177).
    هكذا دخل الأستاذ عبد الرحمن علي طه وزارة المعارف من بوابة العمل السياسي تحت مظلة حزب الأمة وشعار السودان للسودانيين. وكما تصفه أحد مصادر الدكتورة فدوى فقد "كان من أكثر الناس تمسكاً وإيماناً باستقلال السودان، [... و] أقرب الناس إلى السيد عبد الرحمن في دعوته السودان للسودانيين. اشترك في الوفود الأولى للمفاوضات التي دارت بمصر وإنجلترا بخصوص الاستقلال داعياً إلى هذا المبدأ، فكان موضع ثقة من السيد عبد الرحمن المهدي راعي الحركة الاستقلالية، وكان مستشاره الأول، وقد تميز بالإخلاص للسيد عبد الرحمن ولدعوة الاستقلال". (نقلاً عن فدوى: ص 264) فلاشك أن مواقفه الصريحة تجاه الاستقلال التام ومنافحته لوحدة وادي النيل جعلته يخسر دائرة المسلمية أمام مرشح الوطني الاتحادي حماد توفيق في انتخابات عام 1953م، ويعزي بشير محمد سعيد سقوط عبد الرحمن علي طه إلى الدعم المعنوي والمادي الذي قدمته الحكومة المصرية لمرشح الوطني الاتحادي، لأنها أيقنت أن وجوده في البرلمان سيكون "خطراً على رغبتها في إخضاع السودان لها وفي تحقيق وحدة وادي النيل. [...] ومن هنا رأت أن تبعده مهما كلف ذلك من مال وجهد". (نقلاً عن فدوى: ص 321) ويبدو أيضاً أن مواقفه الصريحة تجاه الاستقلال التام جعلته يفقد ودَّ بعض قادة العمل السياسي البريطاني، ويظهر ذلك في التحفظ الذي أبداه وليم لوس، مستشار الحاكم العام، بشأن ترشيح عبد الرحمن علي طه رئيساً للجبهة الاستقلالية التي تكونت بعد انتخابات 1953م، حيث رفض الترشيح بحجة أن المرشح "شديد التمسك بمبادئه ولا يساوم فيها"، و"أن ارتباطه الوثيق بالسيد عبد الرحمن ربما أثار الختمية"، من ثم فإن البديل الأنسب لرئاسة الجبهة الاستقلالية من وجهة نظر لوس هو إبراهيم أحمد. (فدوى: ص 316-317) وفي ظل هذا الواقع التآمري ابتعد الأستاذ عبد الرحمن علي طه عن دائرة الضوء، حيث آثر البقاء بعمارة الجعليين، وظل على صلة بالسيد عبد الرحمن المهدي ومجلس إدارة حزب الأمة. وبحلول انتخابات عام 1958م عاد مرة أُخرى إلى دائرة الضوء، عندما فاز في دائرة الحصاحيصا الشرقية على منافسه حسن عبد الجليل. وقد علق على نتيجة انتخابات دائرة الحصاحيصا الصحفي بشير محمد سعيد قائلاً: "إني حقاً لفخور بنيل السيد عبد الرحمن علي طه لثقة الشعب، وأني لفخور أيضاً بأنه سيدخل الوزارة هذه المرة رضي خصومه أو لم يرضوا." وواضح من هذا التعليق أن أستاذ الأجيال كان رجلاً محسوداً في دوائر العمل السياسي، ويظهر ذلك من تعليق بشير محمد سعيد: "لا أعرف أي وزارة ستسند للسيد عبد الرحمن علي طه، ولكنه لو كان لي كلمة في تشكيل الحكومة لرشحته لوزارة الداخلية ... إذ هو الوزير الذي ينشده هذا المكان. غير أني أشك لأني أعلم أن لسيادته خصوماً كثر في داخل حزبه وخارجه. يقفون أمامه بسبب الحسد تارة، وبسبب الحرص على مصالحهم تارة أخرى. ومن أعني يريدون أن يخدموا مصالحهم الخاصة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ويعلمون أن عبد الرحمن علي طه لن يقبل ذلك ولن يرضاه، بل هو سيقاومه ويحطمه مهما كان الثمن وكانت الغاية، ومن هنا وقوفهم ضده وحرصهم على إبعاده." (نقلاً عن فدوى: ص 327) وواضح من هذا العرض أن خصوم السيد عبد الرحمن علي طه قد كسبوا الجولة بدليل أنه قد عُين وزيراً لوزارة الحكومات المحلية، لأن هذه الوزارة كانت تُعتبر غير مهمة من وجهة نظر الطامعين في خدمة مصالحهم الشخصية وكسبهم المادي. وهكذا صار أستاذ الأجيال وزيراً لوزارة الحكومات المحلية إلي أن حل انقلاب 17 نوفمبر 1958م ضيفاً ثقيلاً على أهل السودان. وبقيام انقلاب نوفمبر، كما ترى الدكتورة فدوى، "اعتزل عبد الرحمن علي طه العمل السياسي دون أن يعتـزل العمل العام. وعاد مرة أخرى إلى قريته عمارة الجعليين حيث نذر نفسه لإصلاحها ولقضاء حوائج أهلها وغيرهم من أبناء المنطقة..." (فدوى: ص 334)



العودة إلى الجذور: كسب وعطاء
يسلط هذا المحور الضوء على الفصول الثلاثة الأخيرة من كتاب أستاذ الأجيال، التي جاءت عناوينها تباعاً على النحو التالي: "نواحي أدبية وأسرية في حياة صاحب السيرة"؛ "الإصلاحات في مسقط الرأس"؛ "رحيل ونعي عبد الرحمن علي طه". وهذه الفصول الثلاثة تقوم على علاقة ثلاثية الأبعاد، يجسدها عطاء عبد الرحمن علي طه وإبداعه في مجالات شتى من ضروب الحياة الإنسانية، ووفاؤه لمسقط الرأس ومقطع السرة، عمارة الجعليين، التي يعتقد أن لها عليه يد سلفت ودين مستحق، وطبيعة دوره المحوري في تسيير شوؤن أسرته الصغيرة، وتفعيل شبكة اتصالها الاجتماعي بقطاعات مجتمع الريف، الذي آثر البقاء بين ظهرانيه بعيداً عن صخب المدن وضوضاء الحواضر.
وفي السابع عشر من نوفمبر 1958م استلم السيد وزير الحكومات المحلية، عبد الرحمن علي طه، الخطاب الآتي نصه: "فقد قرر المجلس الأعلى للقيادة العامة إعفاءكم من منصبكم اعتباراً من اليوم الاثنين السابع عشر من شهر نوفمبر 1958م. وكما أنه يشكركم على ما قمتم به من خدمات لجمهورية السودان ويتمنى لكن حياة سعيدة." (نقلاً عن فدوى: ص 393) وكما ترى الدكتورة فدوى فإن استجابته إلى هذا القرار كانت سريعة، حيث "حزم [...] متاعه ورحل من المنـزل الحكومي في زمن قياسي مدته ثلاثة أيام، بدلاً من ثلاثة أشهر، وهي الفترة التي كانت تمنح في ذلك الوقت لإخلاء المنـزل الحكومي." ثم غادر الخرطوم التي لا يملك فيها "شبراً من الأرض أو عقاراً" إلى منـزله الكائن بعمارة الجعليين. ويعلق حسن نجيلة على هذه النقلة النوعية بقوله: "ولما صار العمل السياسي الحزبي تطاحناً حول الاستوزار والحكم عف عنه [عبد الرحمن علي طه] واحتقره، وعاد إلى موطنه الصغير في قريته، لا لينعم بالهدوء كرجال المعاشات، بل ليبدأ عملاً جليلاً مضنياً، فخطط القرية تخطيطاً جديداً، وغرس في نفوس أهلها حب التعاون، فبنوا وعمَّروا، وأنشئوا المدارس والشفخانات والمصحات والمساجد، وأسسوا مجتمعاً راقياً في اتجاهه وعمله، وذهل كبار الزوار العالميين الذين زاروهم خلال تجوالهم في أرض الجزيرة، وتمنى الكثيرون منهم مثاله في بلادهم وهي أكثر حضارة ورقياً من بلادنا، ولكن مجتمع القرية المتعاون العامل الذي خلقه الفقيد العزيز بهرهم وشد مشاعرهم." (نقلاً عن فدوى: ص 395) ومُحقٌّ التيجاني الماحي عندما وصف صاحب هذا الإنجاز بأنه "صانع المدينة الفاضلة التي كان يحلم بها أبو النصر الفارابي". ومن القضايا الأخرى التي تؤكد حصره على تطوير أربجي وفاءه لها، رفضه العمل سفيراً للسودان بلندن أبان الحكم العسكري الأول، واعتذاره عن رئاسة مجلس إدارة مشروع الجزيرة، وعضوية مجلس السيادة في عهد الديمقراطية الثانية (1964-1969م). ولا جدال أن هذه الشواهد التي ذُكرت أعلاه تكفينا مؤنة الحديث عن إنجازات عبد الرحمن علي طه في أربجي، فمن أراد المزيد فعليه بالفصل الذي وثقته ابنته الدكتورة فدوى في كتابها القيم: أستاذ الأجيال.   
  أما على مستوى الأسرة الصغيرة فقد استطاع أستاذ الأجيال أن يوفر لابنائه تعليماً جيداً، مكَّنهم من تسنم الدرجات العُلا في كثير من جوانب الحياة الإنسانية، دون أن يكون ذلك على حساب مصلحة عامة أو حظوة ورثوها من والدهم. والشاهد على ذلك رده على الخطاب الذي بعثه إليه مشرف الطلاب بجامعة الخرطوم، مخطراً إياه بأن ابنه فيصل لم يسدد المصروفات الدراسية، "فإن الجامعة ستجد نفسها مضطرة بأن لا تسمح [... له] بالسكن بالداخلية واستئناف الدراسة." فأمَّن صاحب السيرة في رده على سلامة الإجراءات، وعبر عن مشاعره الخاصة بقوله: "وإذا كان هذا هو الواقع فإني أحس بشيء من الخجل، بل من الحزن حين أعلم أن ابني كان يدرس سنة كاملة بالمجان على حساب دافع الضرائب، ولكني في الوقت ذاته لا يسعني إلا أن أبدي إعجابي بدقة مكتبكم في استخراج المتأخرات". ثم طالب أخيراً بتسوية المـتأخرات ووضع الأمور في نصابها. (فدوى: ص 383) والشاهد الآخر يمثله خطابه الخاص لابنه فيصل الذي كان يدرس بجامعة كامبردج: "حدثني مهلب عن عربة تريد شراءها فما الموضوع بالتفصيل؟ وهل شراؤها من إنجلترا أو من السودان؟ وهل هي جديدة أو مستعملة، وكم تقدر لها من ثمن؟ وبكم تريدني أن أساهم؟ مع علمك يا سيد بما نحن فيه من تقشف وشد أحزمة." (نقلاً عن فدوى: ص 384)  عزيزي القارئ أنعم النظر في هذا الأدب الرفيع، والتواضع الجم، والطُهر السياسي، وقارن بينه وبين واقع الحال في بلادي، حيث أضحت الوظائف العليا في الدولة مدعاة للفساد السياسي ومجلبة للثراء على حساب المال العام وعرق دافعي الضرائب، وأبناء هذه "الصفوة" هم أهل الصولة والجولة دون حسيب ولا رقيب.
وبعد هذا العطاء الدافق توفي أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه، وكانت وفاته في صبيحة يوم الأحد الموافق الثاني من نوفمبر 1969م بمستشفي الحصاحيصا. وقد نعاه عميد الصحفيين بشير محمد سعيد قائلاً: "روع السودان أمس بوفاة رجل من أبطاله الميامين، وقائداً من قادته المحنكين، خالد الذكر عبد الرحمن علي طه، رائد نهضة السودان التعليمية الحديثة، وأحد قادة الحركة  الوطنية وزعماء الاستقلال، وقد اختاره الله إلى جواره فجر أمس في مستشفى الحصاحيصا أثر علة طارئة، فنقل جثمانه الطاهر إلى قرية أربجي، التي أحبها بكل ما يملك من حب لذويه، وخدمها بكل جهده وطاقته. وشُيِّع في الثامنة والنصف من صباح الأمس في موكب حزين رهيب إلى مقابر الأسرة، وقد اشترك في التشيع حشود كبيرة من أصدقاء الفقيد وزملاء كفاحه وتلاميذه وعارفي فضله الذين تدفقوا نحو القرية من العاصمة والجزيرة. وظل سيل المعزين يتدفق من كل مكان طيلة يوم أمس." (نقلاً عن فدوى: ص 460)

ملاحظات عامة
بعد هذا العرض الموجز لمفردات كتاب الدكتورة فدوى الموسوم بـ "أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه 1901-1969م"، والتحليل المفصل لمحتواه المعرفي، يمكننا أن نجمل ملاحظاتنا العامة في النقاط التالية.
أولاً: يُعدُّ كتاب "أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه" فتحاً جديداً في كتابة سير الأعلام في السودان، لأن مفرداته قد أُسست على كمٍ هائلٍ من الوثائق والمعلومات التي حصلت عليها المؤلفة في أضابير دور الوثائق التي زارتها، وفي أرشيف حكومة السودان، وفي الآثار التي تركها صاحب السيرة، وفي قصاصات الصحف والمجلات، وفي الأطروحات التي كُتبت بشأن الحركة الوطنية، وفي المقابلات الشخصية التي أجرتها مع نفر ممن عاصروا صاحب السيرة وعرفوه عن كثب، وفوق هذا وذاك ملاحظاتها الشخصية وعلاقتها اللصيقة بأستاذ الأجيال. وحقاً قد أفلحت الدكتورة فدوى في ترتيب هذه المعلومات ترتيباً تاريخياً منسجماً مع مراحل حياة صاحب السيرة المتداخلة مع بعضها بعضاً، ثم عرضتها بأسلوب علمي وتوثيق دقيق. إلا القارئ المتمعن في صفحات السيرة يلحظ أن المؤلفة كانت متنازعة بين حسها التاريخي المرهف وعلاقتها الشخصية مع صاحب السيرة، الشيء الذي أحدث نوعاً من القطيعة بينها وبين قراءة النص الداخلية، وتفكيك محتوياته البنيوية وتحليلها في إطار المجتمع الذي تشكلت فيه وقائع السيرة وحيثياتها. ويبدو أن المؤلفة كانت مدركةً لهذه القضية، ويتجلى ذلك في قولها: "حرصتُ على طرق الموضوع بصورة شاملة تربط الأحداث التاريخية المختلفة وتشير إليها، وتجعل السيرة مرجعاً في نواحي متعددة في تاريخ السودان التعليمي والسياسي والاجتماعي." (فدوى: ص 19) ومن هذه الزاوية يمكننا القول بأن سيرة  أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه هي إضافة مهمة إلى مكتبة الدراسات السودانية، ومرجعٌ فصلٌ في كثير من القضايا المرتبطة بتاريخ التعليم والحركة الوطنية في السودان.   
ثانياً: تؤكد السيرة أن صاحبها كان فرداً عادياً عاش في مجتمع إنساني جمع بين دفَّتيه قيم البادية وكمالات الحضر، كما يسميها ابن خلدون، وأن وقائع سيرته كانت نتاجاً طبيعياً للتأثير المتبادل بينه وبين ذلك المجتمع، وأن نجاحه في التفرد والإبداع كان قائماً على شبكة العلاقات الاجتماعية التي جعل قاعدتها المجتمع العام من ناحية الكسب والعطاء، وقمَّتها التجويد الذي كان ينشده من أجل استيعاب الجديد في عالم الفكر، ثم إعادة صياغته وفق متطلبات المجتمع الذي عاش بين ظهرانيه. وعند هذه النقطة يتجلى دور المترجم له باعتباره صاحب فكر ومبدأ.
ثالثاً: إن القاعدة الفكرية التي استند إليها صاحب السيرة، والتأهيل المهني والمعرفي الذي اكتسبه في مؤسسات الدولة ومن خلال قراءاته في أدبيات الشعوب الأخرى، والثبات على المبدأ الذي كان يتحلى به في كثير من القضايا الخلافية كانت جميعها مؤشرات توضح عدم تناغمه مع معطيات العمل السياسي السوداني الذي كان محفوفاً بالمكايدات الحزبية والنزوات الشخصية، لذا فنجده قد اعتزل العمل السياسي العام في فترة مبكرة وعمره لم يتجاوز العقد السادس، وهجر الخرطوم عاصمة السودان القومية دون أن يملك فيها عقاراً أو قطعة أرض سكنية، ولسان حاله يقول: "مشيناها خطًى كُتبت علينا *** ومَنْ كُتبت عليه خطًى مشاها".
رابعاً: يجسد مشروع العودة إلى الجذور (أربجي) قيمة من قيم الوفاء الصادق، التي تجلَّت في سلوكيات صاحب السيرة، الذي اعتزل العمل السياسي على المستوى القومي، ولكنه ظل على قناعة تامة بضرورة العمل العام في فضاء قرية صغيرة من قرى الجزيرة، كانت تمثل بالنسبة له ذكريات الطفولة الحالمة وأيام الصبا العابثة، وتراث نفر طيبين خرج بين أصلابهم وترائبهم، وأضحى يشعر بأن لهم في عنقه يد سلفت ودين مستحق. وهنا أسهم عبد الرحمن علي طه في إصلاح قرية أربجي من غير جلبة ولا ضوضاء، تاركاً بصماته واضحةً في إعادة تخطيطها، وإنارتها، ورفدها بالمؤسسات الخدمية. وهذا الوفاء الشخصي الخيِّر قابله وفاء قروي مماثل، تبلورت معالمه في تكريم أهالي أربجي لأستاذ الأجيال قبل وفاته بقليل، وذلك بإعداد مهرجان ضخم، تقديراً لأفضاله، وعرفاناً لعطائه، واعترافاً بمجهوداته الإصلاحية. وعند هذا المنعطف تؤكد سيرة الأستاذ عبد الرحمن علي طه أن العمل السياسي العام ليس الحقل الأوحد للعطاء والإبداع، بل أن العطاء والإبداع يمكن أن يتجسدا في فكر الإنسان وتطلعاته نحو الأفضل، وتطبيق هذا الفكر وتلك التطلعات من خلال شبكة علاقات اجتماعيه تستمد شرعيتها من محيط الواقع المعيش، وفي أي حقل من حقول الحياة الإنسانية التي تهدف إلى تحقيق الفضيلة على أديم الأرض.
خامساً: التهنئة الصادقة للدكتورة فدوى عبد الرحمن علي طه على تقديم هذه السيرة النبراسية، التي تدعو إلى عدم فصل التعليم عن التربية وقيم المجتمع، وترى أن التوسع الأفقي والتصاعد الرأسي في التعليم مع ضمان ضبط الجودة يقتضيان توفر أمرين أساسيين هما: المباني الصالحة والمعلم الكفء. ولكن للأسف هذه النصيحة الغالية لم يأخذ بها منظرو السُلم التعليمي، ولا دعاة الثورة التعليمية المعاصرة، الذين لم يستبينوا النصح بمنعرج  اللوى.

__________________________
نُشر بصحيفة "الرأي العام"، العدد 2443/2444، 10/11/يونيو 2004.  

 

 

آراء