أقرَع الواقفات (إن كانَ ثَمّةَ)

 


 

 

لواء شرطه م محمد عبدالله الصايغ

آمَنتُ إيماناً لا يتطرَّقُ إليهِ شكٌ أنّ مَواقع القيادَة في الإنتقال قد إفتَقَدَت كل الشُّرَفاء الّذينَ شرّدَتهم وعذبتهم الإنقاذ. فجأةً وجدنا أنّهُ تَمّ الإختيار لنا ونحن في خِضَمّ الإعتصام والمواكب .. وجدنا أنّ هنالك رئيس وزراء وشلّة مزرعه ومناصب وزاريه شَوَّهها الإختيار غير المُوَفّق الذي ظلّ إمتداداً مُستحقّاً لفترة الإنقاذ الظلاميّه ومُرتّبات للطاقم تأتي من الخارج وأحزاب في السُلطه تتصارَع من أجل المزيد من المقاعد وهي تتحدث عن ( حجمِها ) دونَ خَجلَه ناسيةً مشاركتها الإنقاذ على مستوى القياده حتى لحظة سقوطه.

تأتي كتاباتي بُكاءً على الّلبَن المَسكوب… ولو ظَلَلتُ أبكي بقية حياتي لما كفيتُ ذلك اللبن حَقّهُ من البُكاء .. ( طَيّب ) ولماذا البكاء وقد إنقضى الأمر وذهب كُلُّ ذلك الزمانُ الى حالِ سبيلِه؟ ولكن هل مضى إلى حال سبيلِه فعلا؟

كتاباتي ليسَت للنَيلِ مِن آخَرين لمَصلَحَةٍ أُصيبُها ولكنني أكتُبُ بِقَلَمٍ مَصدوم .. بقَلَمٍ ناضِجٍ يُعَبِّرُ عَن صاحِبٍ لَهُ إقتُلِعَ مِن مَوقِعِهِ ظُلماً كما الكثيرون في اكتوبر ١٩٨٩ وعرِفَ كيف يكونُ الظلم وعاشَ حياتَهُ للآخَرين ولِوَطَنِهِ وسط إستدعاءات وتحقيقات ومُراقَبات جهاز الأمن وزنازينِ النّظام لثلاثين عاماً مَثّلَت شرخ الصّبا وحلاوة الحياه وأزهى سنوات العُمر.
قَلَمٌ فَقَدَ صاحِبُهُ معنى الحياه الأُسَريّه والاجتماعيه إبتعَدَ عن أقرب الأقربين وأعَزّ الأصدقاء رفقاً بِهِم لكيلا تُصيبُهُم من خلال اتصالاتِهِ بهم بهيميّة وشراسة الأجهزه الأمنيه وسوء تقديراتِها. قلمٌ عانى صاحبُهُ الأمَرّين في حَق الرغيف والمُلاح وطُرِدَ أبناؤهُ من المدارس لعدم دفع المصاريف ورسوم الكتب. .. قَلَمٌ ينحاز دوماً لوطنٍ يُقَدّمُ كرامَةَ أبنائهِ وعيشِهِم الكريم على ما عَداهُما.. قَلَمٌ لا يطمَعُ صاحبُهُ في مالٍ ولا جاهٍ ولا سُلطان.

عند نقطة النجاح المحدود للثوره كُنّا الأكثَرُ تنظيماً وكانت دراساتنا جاهزه فيما يخص الشرطه والاجهزه الأمنيه وكنا في قلب المواكب والاعتصام. لم نُصَدّق ما كانت أعيننا ترى.. أمْرَين : الأول أنّ النّظام ، بكُلّ جَبَروتِهِ يَتَرَنّح وأنّ منسوبوهُ يرتجِفونَ فَرَقاً وقد بدأت رِحلة تَواري ( ذلك الجبَروت ) عن الأنظار أمّا ثانيهُما وهوَ الأفدَح فقد كانَ تفاجؤنا بأنّ الجهاز المدني الوليد بِرأسِهِ ومستشاريه وحاضِنَتِهِ بدوا على قَلبِ رَجُلٍ واحِدٍ إتّفاقاً وتوافُقاً فيما لم يكُن لهُ أيّ علاقه من قريبٍ أو بعيد بثورة ديسمبر .. قَولاً واحِداً.

في معيةِ نُخبةٍ من خيار ابناء الوطن العلماء وفي ظروفٍ أمنيه بالغة الدقه والتعقيد إنتظمنا في إجتماعاتٍ تحت عنوان ( البرنامج الإسعافي للفتره الانتقاليه ) قدمت كل مجموعه في تخصصها ورقه تمت مناقشتها شمل ذلك كل التخصصات ( الصحه - صحة البيئه - الاقتصاد-تنميةالريف - الأمن-الزراعه-الري- التكنلوجيا الخ) لم يكن هنالكَ مُقابل ولا دافِع سوى حُبّ هذا الوطن والولاء لهُ. كان مستوى الطرح أن يضع كل وزير الورقه المعنيه بوزارته أمامَهُ ويتّبع ما جاء فيها… لكُم ان تتخيلوا كم كانت الصدمه عنيفه بعد تجاوز تلك الدراسات ومنها ورقتنا الأمنيه التي لم تغفل شارده او وارده فيما يخُص الشرطه وجهاز الامن والأمن الداخلي ومليشيا الجنجويد وتسليم الجيش لمفصوليه ..لكم ان تتخيلوا ، بعد ذلك ، كم بذلنا من جهود مع كل المجموعات المدنيه لعدم ترك وزارة الداخليه للعسكر. تحدثنا اليهم فُرادى وجماعات. إقتحمنا كل ما يخص ( الصحفيين ) من اجتماعات واجتماعيات وكنا ( نستجديهِم ) الوقوف معنا في أمر وزارة الداخليه وأن يتبنّوا ترشيح الوزير من مفصولي الشرطه. غلبت على الجميع ( العلاقات الشخصيه ) وغلب عليهم ( الزَّهو والإنتفاخ الطاؤوسي ) بالمواقع الجديده .. تحَدّثنا لأقرب ( مستشارَي ) الأخ رئيس الوزراء في إنتقادات ( حيّه ) ومفصَليه تمس الوطن وأمنِهِ بصورةٍ مباشره وكان ملخصُ الردود أنهم لن يتراجعوا و بالحَرف ( ما شُغلَكُم .. وياها ديك وسائل التواصُل اكتبو فيها ).

أتى لقاؤنا الأول مع ألأخ رئيس الوزراء بمجلس الوزراء وكانَ لقاءً مُشتَرَكاً من الضباط مفصولي الشرطه والجيش. بالحاسّةِ الأمنيّه وعَبرَ أجراءاتِ دُخولِنا لمجلِسِ الوزراء تبيّنَ لنا الكثير من الثغرات الأمنيّه نقلناها لعلم الأخ رئيس الوزراء بِمِهَنيّه لا تُخطئ وبعد سماعِ رَدّه تَحَسّسَ كُلٌ مِنّا الوطنَ بِقَلبِه.. طافت بنا الذاكِره إلى ثلاثين عاماً من قهر الإنقاذ وذهبت بنا إلى ميدان الإعتصام والشهداء والمواكب وتَسَوُّر البيوت وفَضّ الإعتصام. كان يقيني أن كل ذلك لم يعدو أن كان حُلماً ووهماً جميلَين والآن ها هُوَ يَتَكَسّر أمَامَ صُخُورٍ من نَوعٍ جديد.. لم يُخالجُني أدنى شك في أنّ هذه الصخور أتت من مكانٍ ( لا ) علاقةَ لهُ بثورةِ ديسمبر من قريبٍ ولا من بعيد. .. أتت وقَد حُمِّلَت برامج جاهزه لتقوم بتنفيذِها وبَعدَ لقاءاتٍ مُتتاليه بسيادَته ووقفاتٍ احتجاجيه وسلوكٍ مِن كُلّ طاقمِه تأكّد لنا أن لا علاقةَ لثورة ديسمبر بما يحدُث حينَها .. وذلِكَ كان هوَ اللبنَ المسكوبَ.

وفي سابِقَةٍ يُعيدُ فيها التاريخُ نفسَهُ ومن عَجَبٍ رأيتُ ( الآن ) إصطفافاً جديداً يَسيرُ خلفَ نفس الفكره قَوامُهُ والداعونَ لَهُ هُم نَفس مَن حضروا معنا من النظاميين ( جيش وشرطه ) ممّن رأوا وسَمِعوا وشَهِدوا لماذا انهارت الفتره الإنتقاليه ومن ثمّ انهار الوطن… رأيتُهُم يتداعون خلف نفس الفكره الوَهَم ويحتفون بمقابلتهم لنفس رئيس الوزراء .. نفس الرجل الذي شدّ الرحال وأقام في نفس الدوله التي أشعلت الحرب.. ونفس الطاقَم الذي ذَبَح الفتره الأنتقاليه بسكينِهِ الصَدِئه آمَنتُ حينَها أنّ خراب الإنقاذ لم يكن وقفاً على مَن هُم بالخدمه وآمَنت بصعوبَة العثور على الكادر البشري المناسب في كل المجالات وهذا قد يكون أول العَقَبات في طريق الوطن وثورةِ أبنائه.

وَجَعٌ يملأُ الروح على هؤلاء الشباب الذين رووا بدمائهِم تراب الوطن وبلا ( خجله ) سطا هؤلاءِ على مراقِدِهِم الكريمه.. وما زال السطوُّ مُستَمِراً.

melsayigh@gmail.com

 

آراء