أمريكا وغضب الوالدين

 


 

 



boulkea@gmail.com
في حديث لي ذات مرَّة مع طيَّار سوداني يعمل بإحدى شركات الطيران الوطنيَّة, أخبرني بأنَّهم يُعانون أشدَّ المعاناة في الحصول على قطع غيار الطائرات بسبب الحظر الأمريكي المفروض على السودان, و ذكر لي أنهم كلما بدأوا مفاوضات مع إحدى الشركات في مختلف قارات العالم لشراء قطع الغيار أطلَّ عليهم الحظر الأمريكي واعتذرت الشركة المعنية عن عدم قدرتها على تلبية طلبهم, ممَّا دفع أحد زملائهم أن يقول من فرط يأسه وحسرته : " أمريكا دي زي غضب الوالدين محل ما تقبِّل يلحقك".
تذكرت هذا الحديث وبين يدىَّ تصريحٌ في غاية الأهميَّة أدلى به نائب محافظ بنك السودان السابق ووزير المالية الحالي, الأستاذ بدرالدين محمود, في الملتقى الإقتصادي الثاني الذي عقد مؤخراً بالخرطوم, حيث نسبت الصحف إليه الإعتراف ( بمسؤليته ومسؤولية الحكومة فيما وصل إليه الإقتصاد السوداني، وصعوبة معالجة أوضاعه الراهنة بدون مساعدات دولية ) وأنَّ ( صعوبة أوضاع الاقتصاد تستوجب ليس إقالتهم فقط بل إعطائهم إجازة مدى الحياة).
لا تنبع أهميَّة التصريح أعلاهُ فقط من الإعتراف النادر جداً بفشل السياسات الإقتصادية, ولكنها كذلك تتبدى في الإقرار بالأهميَّة القصوى للعامل الخارجي في إصلاح أوضاع الإقتصاد, وهو الأمر الذي يدخل مُباشرة في صلب العلاقة الجدلية بين السياسة والإقتصاد, و أنَّ الأخير لن يتعافى إلا بوقوع إصلاح سياسي كبير.
وكان رئيس الملتقى الإقتصادي الثاني, الدكتور التجاني السيسي, قد أقرَّ كذلك في فاتحة جلسات الملتقى بأنَّ ( رفع الدعم وحده لن يعالج ما يعانيه الإقتصاد من اختلال ). وهو الأمر الذي كان قد تناوله كاتب هذه السطور في مقال قبل أسبوعين بعنوان ( الإجراءات الأخيرة لن تعالج الأزمة الإقتصادية ).
قلت في ختام مقالي المشار إليه أعلاه ( إذا لم ينكسر طوق العزلة والحصار عن الإقتصاد السوداني وهو شأنٌ مرتبط بالسياسة أكثر من إرتباطه بالإقتصاد, ولم يتحقق نجاح كبير في تطوير القطاعات الإنتاجيَّة "الزراعة والصناعة" وهو أمرٌ غير وارد في المدى القصير و المتوسط بسبب مشاكل هيكلية مرتبطة بالقطاعين إضافة لتعقيدات كثيرة مُتعلقة ببيئة الإستثمار, ستظلُّ مشكلة الموارد المالية قائمة ).
وأضفت كذلك أنَّ ( هذه المشكلة – أى الموارد المالية - ستقصمُ ظهر الإقتصاد لأنَّ قيمة الجنيه ستستمرُّ في الإنخفاض, وستظلُّ الحكومة تلاحق أسعار الدولار دون جدوى, وستقود إجراءات رفع الدعم وزيادة الضرائب والجمارك الأخيرة لإرتفاع معدلات التضخم, وسيستمر العجز في الحساب الخارجي ).
قد بلغت أزمة الموارد المالية وضعف الإنتاج حداً جعل الحكومة تلجأ لحلول في غاية الخطورة لتمويل إنفاقها على رأسها  طباعة العملة, وفي هذا الإطار إعترف وزير المالية بأن الكتلة النقدية قد زادت في عام 2012 وحده من 41 مليار إلى 58 مليار جنيه, وهو الأمر الذي أدى للإرتفاع الجنوني للأسعار و معدلات التضخم حتى بلغت %45 في الشهر الماضي بحسب إحصائيات الحكومة وهى في حقيقة الأمر أكثر من ذلك بكثير. 
المُساعدات الدولية التي يطلبها وزير المالية لن تتوفر إلا بحدوث تغيير سياسي شامل يرضى عنهُ المجتمع الدولي وينتج عنه وقف الحروب الدائرة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق, ووقوع تحوُّل ديموقراطي حقيقي يضع البلاد في مسار يفضي لنظام يتيح الحريات ويسمح بالتداول السلمي للسلطة.
وعندما نتحدث عن المُجتمع الدولي فإننا نعني على وجه الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية, وهى الفاعل الأقوى الذي يستطيع التاثير على مختلف القوى الإقليمية والدولية, وقد إتضَّح ذلك جلياً للحكومة بفشل كافة محاولات إعفاء الديون نتيجة للحصار الأمريكي المضروب على الإقتصاد السوداني منذ عام 1997.
صحيح أنَّ الحكومة نجحت في تفادي آثار العقوبات الأمريكية واستطاعت إستخراج البترول عبر الشركات الصينية, ولكن الصحيح أيضاً أنَّ آثار المقاطعة بعيدة المدى بدأت منذ عام 2011 في الإنعكاس الجدي على الإقتصاد السوداني, وهى حالة شبيهة بما حدث في جمهورية إيران مما جعلها تسعى لإبرام إتفاق نووي مع أمريكا والغرب.
مرَّت العقوبات الأمريكية على إيران بالعديد من المراحل, وكان أشدها وطأة هى العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأميركية ومنعت بموجبها أي معاملات مالية مع الشركات والبنوك الإيرانية, ثم كانت قاصمة الظهر هى منع شركات النفط العالمية من التعامل مع البنك المركزي الإيراني المسؤول عن استلام أموال النفط من تلك الشركات.
شكلت قرارات المقاطعة النفطية والمالية ضربة قاصمة للاقتصاد الإيراني حيث فقدت إيران غالبية المشترين للنفط وأضحى عسيراً عليها القيام بعمليات تأمين ناقلات النفط وهو الأمر الذي أدى لصعوبات كبيرة وتأخير في عمليات الشحن, وكذلك كان على إيران إيجاد عملة بديلة للدولار لإستلام ثمن بترولها.
أدَّت هذه العقوبات إلى إنخفاض حجم صادرات إيران النفطيَّة إلى أدنى مستوى لها خلال ست وعشرين سنة, كما أدَّت في محصلتها النهائية إلى ضعضعة الإقتصاد الإيراني وإرتفاع الإسعار وتدهور قيمة الريال, وهو الأمر الذي إنعكس بصورة كبيرة في عدم قدرة الحكومة على توفير السلع والخدمات الأساسية وإزدياد معاناة المواطنين بصورة غير مسبوقة.
في هذا السياق جاء فوز الرئيس حسن روحاني في الإنتخابات الأخيرة, وهو الفوز الذي يُعزي بالدرجة الأولى إلى الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تسببَّت فيها قرارات المقاطعة, ومن ثمَّ كانت الأولوية القصوى للرئيس الجديد هى التوصل إلى إتفاق مع أمريكا و الدول الغربية بخصوص الملف النووي.
وهو الإتفاق الذي تم إبرامه مؤخراً و تعهدت بموجبه إيران بعدم تطوير أسلحة نووية واخضاع مفاعلاتها للتفتيش الدولي والالتزام بمستوى منخفض من تخصيب اليورانيوم بحيث لا يخدم سوى الأغراض السلمية والتنازل عن كمية من اليورانيوم المُخصَّب بنسبة 20% في مفاعل بوشهر.
فإذا كانت إيران وهى دولة غنيَّة بالنفط وتمتلك ترسانة عسكرية ضخمة, و قاعدة صناعية عملاقة وأخرى زراعيَّة كبيرة عجزت عن الصمود أمام سلاح المقاطعة الأمريكي, فما بال السودان وهو بلد هامشي فقير منهك بالحروب والفساد و يعيش على القروض والهبات, ولا يملك بنية تقنية أو صناعية, وتدهورت زراعته للحضيض مما جعله يستورد غذائه من الخارج يسعى لمناطحة هذه الدولة العظمى القاهرة ؟
أقول هذا وفي ذهني أحاديث الخُرافة التي يُلقيها قادة الحكومة جُزافاً على مسامع البُسطاء من أهل الريف, ومنها على سبيل المثال كلام مساعد رئيس الجمهورية السابق, نافع على نافع, الإسبوع الماضي في خطابه لأهالي محليَّة المتمَّة حيث قال : ( إنَّ كثيراً ممن كانوا يجاهرون بالعداء للسودان بدأوا يتوددون لفتح صفحة جديدة للعلاقات مع السودان بما فيهم أوروبا وأميركا ) !!
لا يمكن لإنسان عاقل أن يصدّق القول بأنًّ أمريكا "تتودَّد" لتحسين علاقتها مع السودان, فهو أمرٌ مستبعد بكل المعايير, ومن الأفضل للسودان إن أراد تدفق المساعدات الخارجية التي نادى بها وزير المالية أن يعمل بجدية لإصلاح علاقته مع أمريكا وهو الأمر الذي لن يتأتى كما ذكرنا دون إحداث عملية إصلاح سياسي شامل.
إشتكى وزير الصحة بحر إدريس أبو قردة يوم الإثنين الماضي في خطابه أمام مجلس الولايات مُر الشكوى من أثر العقوبات الأمريكية وقال إنَّ أزمة شح الأدوية  التى تواجهها البلاد تعود لعدم توافر النقد الاجنبى بالبنوك التجارية وتعثر استكمال الاجراءات من قبل السلطات الأمريكية لبعض الأدوية, ثم دعا صراحة :
( وزارتى الخارجية والصحة  لمخاطبة الجهات الأمريكية المختصة لإستثناء الادوية والمستهلكات والاجهزة الطبية من الحظر الامريكى والسماح لهيئة  الامدادات الطبية بفتح حساب فى بنوك تجارية ليس لها حظر لتتمكن من التحويلات لبعض البنوك الاقليمية والعالمية التى لا تقبل التحويل عبر بنك السودان المركزى ).
حديث الوزير أعلاه يُعطينا فكرة صحيحة عن "تودُّد" أمريكا للسودان حتى يُحسِّن علاقته معها, فتأمل !
التغيير الحكومي الذي وقع مؤخراً في الأشخاص والوجوه لا يكفي لإحداث النقلة المطلوبة لتجاوز الأوضاع الحالية طالما كانت ذات السياسات التي أدخلت البلاد في هذه المحنة الإقتصادية مستمرَّة, ومهما فعلت الحكومة فليس أمامها خيار إلا التصالح مع العالم و في مقدمته أمريكا.

 

آراء