أمين حسن عمر ومشروعه (الخيالي)
بابكر فيصل بابكر
13 October, 2011
13 October, 2011
boulkea@yahoo.com
في حوار بصحيفة آخر لحظة بتاريخ 28/9/2011 سُئل الدكتور أمين حسن عمر السؤال التالي :
إذا أخذنا الواقع الآن في السودان, هناك ضائقة معيشية وارتفاع في الأسعار وانفصال جزء من الوطن وتوترات أمنيِّة في النيل الأزرق وجنوب كردفان, الحديث المُتصِّل عن الفساد واختلاف الإسلاميين, كيف تقيِّم تجربة الحكم وفقاً لهذه المعطيات, مع الأخذ في الإعتبار عدم وجود مؤشر لتطبيق المشروع الحضاري الذي كان يتردَّد كثيراً ؟
أجاب الدكتور أمين قائلاً :
( كل هذه مجرَّد حزمة من إتهامات يسوقها خصومنا السياسيون, فالأمور لا تطرح بالمطلق وانما بالمقارنة للفرص والإمكانات المُتاحة في الواقع, وبالمقارنة لإنجازنا قياساً بما قام به الآخرون, ليست هناك فرصة لإنجاز مشرُوع حضاري. وهذا يُعدُّ جهلاً بمعنى المشروع الحضاري, فالمشروع الحضاري لن تنجزهُ دولة أو حكومة أو حزب, بل يتمثل في الإسلام الهويَّة, أى فعاليته التي كانت قبل أن تنسخ بواسطة الإستعمار, وهو ليس بمشروع قطري يقوم به قطر واحد, وإنما تيَّار عبر كل الأمَّة الإسلاميِّة, ثانياً إستعادة الدور الريادي للأمَّة, وهذا أمر يتعلق بحراك الأمة كلها وهى الآن مُتحرِّكة نحو هذا, ولأهل السودان قسطهم من هذا سواءٌ كان حزباً أو مُجتمعاً أو حكومة, فالمشروع الحضاري ليس عمارة تبنى فنقول إننا أقمنا القواعد أو طابقين, وإنما تغيير في المجتمعات وتطوير إمكاناتها ودعم لقدرتها لتكون في الريادة ). إنتهى
بداية نقول أنَّ الدكتور أمين يعيش حالة من الإنكار state of denial باتت تتلبَّس قيادة المؤتمر الوطني بعد الفشل الذريع الذي أصاب المشروع الحضاري. فالدكتور أمين - بباسطة شديدة - لا يرى في الضائقة المعيشية والغلاء وإنفصال الجنوب والتوتر في النيل الأزرق وجنوب كردفان إلا مُجرَّد إتهامات يسوقها "خصومنا السياسيين", بينما هى في الواقع "حقائق" ملموسة ومُعاشة. فالجنوب أصبح "دولة" لها علمٌ ونشيد وعُملة وعضوية في الأمم المتحدة, والضائقة المعيشية والغلاء دخلت كل بيت سوداني سوى بيوت قليلة, والتوتر في النيل الأزرق وجنوب كردفان واقع ٌ وشواهدهُ كثيرة : النزوح والموت ومعسكرات اللجوء.
من وجهة نظر الطب النفسي، يُشكّل الإنكار وسيلة العقل لحماية الجسم وحماية النفس من بعض الحقائق البغيضة, وهو أيضاً يمثل آلية دفاع تعطي الإنسان إحساساً كاذباً ينفي وجود تلك الحقائق. وتتمثل خطورة الإنكار في أنهُ يحول دون تشخيص المشكلات بصورة صحيحة من أجل إيجاد الحلول التي تتناسب معها, وبالتالي فهو يُعتبر الوصفة السحرية لتكريس الإخفاق وتعزيز الفشل ولعدم الرغبة في تصحيح الأوضاع.
وعندما يقول الدكتور أمين إنَّ الأمور " تطرح بالمقارنة مع الفرص والإمكانات المُتاحة في الواقع ", فإنهُ يُناقض نفسهُ ويُناقض المشروع الحضاري الذي هبطت به جماعته على السودان. فالمشروع الرِّسالي Messianic بطبيعته الآيدولوجية لا يكترثُ للواقع بل يتعالى عليه. وقد كتبت في السابق مُحللاً طبيعة هذا المشروع والتفويض الذي ينطلق منه :
مجال التفويض – في المشروع الرسالي – ينتقل من الأرض (البشر) الي السماء (الله), ومعهُ
تتحوَّل الدولة من دولة واقعية إلي دولة رسالية ذات أهداف كونية . وعي الدولة الرسالية في جوهره وعي آيديولوجي زائف لكونه يتفتق عن وهم, وهمٌ يُغيِّب العقل وما هو ممكن لصالح العاطفة و ما هو مرغوبٌ فيه, وتكمن خطورة هذا الوهم في عدم إكتراثه بالتفكيرالإستراتيجي وفي رفعه سقف الطموحات لدى القائمين على أمر الدولة الرسالية وبما لا يتناسب مع الإمكانات المتاحة والظروف الأقليمية والدولية المحيطة بتلك الدولة. وهو في محصلته الأخيرة – في مثل حال بلدنا - مشروع دائم ومفتوح للتوريط وخلق الأزمات.
أين كانت مراعاة الواقع يا دكتور أمين عندما رفعتم شعارات الحرب على أمريكا وروسيا, وعندما قمتم بفتح البلاد لكل الحركات المتطرفة في العالم ؟ وأين كانت مراعاة الواقع عندما قرَّرتم إنَّ السودان سيقود العالم الإسلامي في معركته ضد الغرب ؟ وماذا كان حصاد كل ذلك ؟ أزمات سياسية يأخذ بعضها بتلابيب بعض, و ضياعُ ثلث الأرض والسكان, وعزلة دولية ما زال نظامكم يسعى للفكاك منها دون جدوى.
وما كنتم تستمعون – يا دكتور أمين - للرأي الآخر المخالف ومنهُ ما قلناهُ لكم في هذا الصدد :
نحن بلدٌ مُتعدِّد الهامشية – وليس مزدوج الهامشية فقط كما يقول المزروعي – فبالإضافة لهامشيتنا بالنسبة للعالم العربي والعالم الأفريقي, نحن كذلك هامشيون بالنسبة للعالم الإسلامي. إنَّ بلدنا لم يكن في يومٍ من الأيام مركزاً للحضارة و للدولة الإسلاميَّة. نحن لسنا "دمشق" الأمويين ولا "بغداد" العباسيين ولا "قاهرة" الفاطميين ولا حتى "إسطنبول" العثمانيين. وكل هذا يجعلنا في حِل عن تلبُّس الحالة المركزية وتبعاتها. لقد قدَّمت لنا "الجُغرافيا" هدية قيِّمة بإعفائنا من عبء "التاريخ" فما بالنا نتطلعُ لما هو أكبر من قدراتنا ؟
إنَّ الحقيقة المؤكدة و المؤلمة - يا دكتور أمين- هى أنَّ بلدنا يُعتبر واحداً من أفقر دول العالم, وأنَّ بنية مجتمعنا في غاية الهشاشة, ونظامنا السياسي متخلف, و حال شعبنا تعيس, فهل راعيتم هذا الواقع عندما أطلقتم مشروعكم الحضاري ؟
وعندما يقول الدكتور أمين أنَّ الحديث عن إخفاقات المشروع الحضاري يجب أن يتم بالمقارنة " لإنجازنا قياساً بما قام به الآخرون ", فسنفاجئهُ بالحقائق المؤلمة التي تمخَّض عنها ذلك المشروع :
هل يعلم الدكتور أمين أنَّ نسبة الأميِّة في السودان إرتفعت من 37 % الى 57 %, مع ارتفاع نسبة الأمية وسط المرأة الى 72 %، وأنَّ عدد اليافعين واليافعات الذين يُعانون من الأمِّية في سن المدرسة ارتفع الي ثلاثة ملايين ومائة وخمسة وعشرين الف بحسب إحصاءات المجلس القومي لمحو الامية ؟
وهل يعلم الدكتور أمين أنَّ دولة المشروع الحضاري تنفق 2 % فقط من ميزانيتها على التعليم الذي هو رأس الرمح في أي عملية نهوض حضاري ؟
وهل يعلم الدكتور أمين أنَّ مشروعهُ الحضاري الذي يُفترض أن يكون جوهرهُ الإعتماد على الذات كانت محصلتهُ النهائية هى إنهيار الزراعة وغياب الصناعة , وتحوُّل شعار " نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع" الي نأكل ونلبس مما تزرع وتصنع الصين ؟!
وهل يعلم الدكتور أمين أنَّ السودان الذي يستهلك سنوياً 2.2 مليون طن من القمح قام بإستيراد 84 % منها العام الماضي ؟
وهل يعلم الدكتور أمين أنَّ بلدنا يُعتبر من أكثر البلاد فساداً في العالم وانهُ لا يفوقنا في الفساد سوى الصومال, وميانمار, وأفغانستان ؟
وعندما يقول الدكتور أمين انَّ " المشروع الحضاري لن تنجزهُ دولة أو حكومة أو حزب, بل يتمثل في الإسلام الهويَّة, أى فعاليته التي كانت قبل أن تنسخ بواسطة الإستعمار". فإننا نقول له ومن قال لك أنَّ الإسلام الهوَّية قد كان في خطر قبل مجىء الإنقاذ ؟
إنَّ الخطر الذي يتهدَّد الهويَّة الإسلامية في السودان اليوم خطرٌ غير مسبوق, حيث مُسخت هذه الهوية بنزعة عروبية تمَّ توظيفها سياسياً مما أدَّى لنزاعات دامية في إقليم مثل دارفور عُرف عن أهله أنهم حملة مشاعل القرآن, ولكنهم الآن يلجئون بالآلآف إلى دولة إسرائيل !
إنَّ إستعادة الدور الحضاري للأمة – يا دكتور أمين – لا يكون بفرض الوصاية على الناس, وإهدار كرامة المواطن, وهى ملامح الإستبداد بمختلف مسمياته القومية والدينية والأممية, وإنما يتم بتأسيس النظام الديموقراطي الذي يوفر الحريَّة والشفافية وحقوق الإنسان, وهى الأمور التي إفتقدها مشروع الإنقاذ الحضاري.
إنَّ مطلب الحرِّية و الديموقراطية المرغوب فيه والمنشود مطلبٌ كامل غير قابل للتجزئة والترقيع, ولن يُجدي أن يكون على طريقة الهوامش ( هامش الحرية السياسية, وهامش الحرية الإعلامية, الخ ) وهذا هو الدرس الأهم من دروس ربيع الثورات العربيَّة.
الخطوة الأولى – يا دكتور أمين - في سبيل الوصول للهدف الذي ننشدهُ جميعاً هى إدراك الحقائق كما هى, وإجتياز عقبة الإنكار, والإعتراف بالإخفاق, وكلها فضائل يحُثُّ عليها ديننا الحنيف. ودون ذلك سنظلُّ ندورُ في ذات الحلقة المُفرغة ولن يُجدي الكلام العاطفي عن مشروع حضاري غير قابل للتحقق في إقالة عثرة الوطن.
ملحوظة :
صدر قبل ثلاثة أيام دليل إبراهيم للحكم الأفريقي لعام 2011, وهو دليلٌ يُنشر بواسطة مؤسسة مو إبراهيم، وهي منظمة تدعم وتساند الحكم الجيِّد والقيادة الرشيدة في افريقيا. يقدم دليل إبراهيم تفاصيل كاملة عن أداء الدول عبر فئات الحكم الأربعة وفقاً لتقييم الدليل : السلامة وحكم القانون؛ والمشاركة وحقوق الإنسان؛ والفرص الإقتصادية المستدامة؛ والتنمية البشرية.
و يمثل دليل إبراهيم، الذي تأسس عام 2007، أكبر حشد للبيانات الكميِّة الشاملة التي تقدم تقييماً سنويا لأداء الحكم في كل دولة افريقية. وقد سجَّل السودان 33 نقطة (من مجموع 100 نقطة) في مستوى جودة الحكم وحصل على المركز الـ48 من بين 53 دولة.
ولا حول ولا قوة الا بالله