أهلنا زمان قالوا: (ثلاثة من المستحيلات : خراب الخرطوم، عمار المسلمية وتمدن رفاعة) !!

 


 

 

هذا الشيخ المسن الذي التقيته في الابيض في نهاية ستينات القرن الماضي كان كتابا مفتوحا له مقدرة علي السرد تسعفه ذاكرة حديدية اختزنت تاريخ الغرب الكبير ويقصد به دارفور وكردفان وقد كانتا تحت إدارة واحدة وقس علي ذلك إدارة سجون المديريتين اللتين كانتا تحت إدارة أحد أبناء المسلمية يلقب ( بود الشاويش ) وقد كان أبوه ( شاويش ) في سلك البوليس !!..
عمل جدنا هذا في تجارة البقر لأخيه الأكبر وكانت المهمة تتطلب التسفار في كافة الأجواء وتقلبات الطقس انطلاقاً من ( الأبيض ) محل إقامة أخيه وبقية أفراد الأسرة وكان سوقها رائجا بالمحاصيل والانعام والخير الكثير وكانت الابيض المركز الرئيسي لتجارة المواشي الخاصة ب ( قرشي اخوان ) ولهم فروع عابرة للغرب الافريقي مروراً بدارفور وكان قائد الركب وربان السفينة الاخ الأصغر ولم يكن وقتها توجد حافلات أو شاحنات وبالطبع ليس هنالك قطارات أو طائرات !!..
كانت القافلة من الأبقار تسير مشيا علي الاقدام والقائد ومعه الدليل والرعاة علي صهوات الثيران في أجواء متقلبة قاصدين ذهابا مناطق الإنتاج حيث يجلبون بضاعتهم الغالية من العجول الشابة المفعمة بالحياة من تشاد ، افريقيا الوسطى ، مالي ، النيجر والسنغال وهذا العنقود من الدول كان يسمي بالسودان الفرنسي !!..
الرحلة كانت جد شاقة محفوفة بالغبار والحصي الصغار والرهق ونقص المياه وقلة الزاد ولكن هؤلاء الرجال ومنهم ( جدنا البطل ) كانوا لها ولم تلن لهم قناة وختم هذا الفارس المغوار حياته وقد فقد بصره في آخر المشوار بسبب وعثاء الطريق والسهر في كثير من الأحيان لأن اجتياز هذه الفيافي تتطلب اليقظة والحذر والاستعداد !!..
وجاء الإنجليز وادخلوا السكة الحديدية لنقل عتادهم الحربي وليس حبا في سواد عيوننا ولم تكن من غير فائدة فقد رحلت البضائع وربطت بلادنا الشاسعة بحبال الود واراحت ( الشايب ) وقد نزل الي المعاش وفقد ( كريمتيه ) فصار يسافر في عربة الكماسرة في قطارات البضاعة مع ابقاره حيث مراكز البيع في العاصمة وغيرها من المدن بالداخل أما السفر البعيد فقد توقف عنه بسبب الشيخوخة وتفرغ للحكاوي والذكريات ينثرها باحترافية للاحفاد وفي غالب الأحيان كان يحكي القصص المروية مكررة لكن من غير ملل فالاحفاد قد تعودوا علي وضوح صوته ونصاعة بيانه وملكة التمثيل التي كانت عنده موهبة وسجية !!..
نعود للمقولة الواردة في العنوان وقد كان جدنا يرددها لدرجة الإدمان لانه كان يعرف بحكم المعايشة والتجربة إن المسلمية زمان كان لها شأن وكيان وكانت مركزا ايام الإنجليز ولها تجارة مع مصر فى غاية من الأهمية وكان بها تجارا بلغوا شاؤا عظيماً في الغني والمكانة الاجتماعية !!..
وجاء زمان علي المسلمية ذات المكانة الوسطية في قلب المشروع وكان بها قسم من اقسام هذا المشروع العملاق واستفادت من خدمات الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية وكان أول وزير للمعارف قد درس بمدرستها الاولية وهو كما تعرفون السيد عبدالرحمن علي طه وفي مجال الإعلام عقد لأحد أبناءها في هذا المجال الخطير والهام قصب السبق في التخصصية والعالمية ومن غير البروف شمو الذي رفع راس السودان عاليا في المحافل الدولية وغيرهم من ذوي الشأن في كافة الميادين ... نعم جاء زمان علي المسلمية خمد فيه ذكرها واعتلت قري أقل منها شأنا علي كتفها لأن طريق مدني الخرطوم وضعوه بعيدا عنها مما أثر في تجارتها واقتصادها وسوقها الذي تعدت شهرته الي بوادي دارفور وكردفان بل الي مصر البلد الشقيق وتشهد علي ذلك تجارة الإبل !!..
وقامت حرب الجنرالين وهجر المواطنون الخرطوم لخطورة الوضع وهذا العبث الصبياني من الجانبين وكانت الهجرة العكسية لاهل السودان وكان منهم أهل المسلمية الذين عادوا لقواعدهم سالمين بعد ان هجروا أرضهم بالسنين وسكنوا الخرطوم التي تصخمت وصارت تسمي بكرش الفيل!!
هنيئا لاهل المسلمية بالعودة للجذور ولخور ( ودنوة ) المشهور ولفريق ( الخلوات ) وزراعة ( البلدات ) والخير كل الخير في اهلنا الطيبين المضيافين !!..
وبهذا ياجدنا تكون مقولتك عن المسلمية قد بطل مفعولها وعادت تشرق من جديد وقد احتضنت أبناءها العائدين من حرب الجنرالين العبثية !!..
وكم قلبنا يتقطع ياجدنا علي الخرطوم وأم درمان وبحري وكل الامتدادات في العاصمة المثلثة وقد عم كل هذه الربوع الخراب ونعق فيها البوم والغراب والمقولة أيضا بطل مفعولها وطويت صفحة عاصمة سنظل نبكي عليها وعلي سحرها وجمالها مابقي في العمر بقية !!..
أما بخصوص رفاعة فلا تحتاج إلى تمدن ويكفي انها رائدة في التعليم وخاصة تعليم البنات ومنها الكثير من سفراء السودان مشاركة القطنية في هذا المجال الدبلوماسي الهام !!..
رحم الله تعالى جدنا الراحل وانزل علي قبره الطاهر سحايب المغفرة والرحمة والرضوان ، أنه سميع مجيب الدعوات وصلي الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين امين يا رب العالمين.

حمد النيل فضل المولي عبد الرحمن قرشي .
لاجيء بمصر .

ghamedalneil@gmail.com

 

آراء