أهمية إنشاء عاصمة، ومدن سودانية جديدة
الصادق عبدالله عبدالله
14 February, 2024
14 February, 2024
بقلم الصادق عبدالله أبوعيّاشة
1. مقدمة Introduction
كتبتُ منذ عقدين أو يزيد، عن أهمية إنشاء مدن (مستوطنات بشرية) جديدة (وحديثة)، حين قلتُ أن هناك حاجة لإنشاء مدنٍ في أماكن أشرت إليها حينئذٍ. أن تنشأ في أعالي البحر الأحمر، وفي البطانة، وفي جنوب وشمال النيل الأبيض، وفي أماكن مختلفة من ولاية سنار، وبين ولاية سنار وولاية القضارف في منطقة نهري الدندر والرهد. وبين كسلا وبورتسودان، وفي سهل البطانة، وفي شمال كردفان وجنوبها. والشرق والغرب.
2. أفكار و فرص Ideas and Opportunities
كتبت محررات عن تنمية البنيات التحتية لربط السودان بأفريقيا، وقد أشرت إلى أنّ هناك فرص لإنشاء مدنٍ سودانية على المعابر السودانية الافريقية ، لتخدم شبكة القطار والطرق الإفريقية، ومطارات لتخدم النقل الجوي السوداني والإفريقي. ومراكز حضرية حدودية للتجارة البينية الافريقية. فالسودان بمساحته الواسعة، في وسط القارة لا يمكن تخطيه إلا بالغفلة. وقد أشرت إلى أن دارفور مثلاً تحادد أربعة دول، تحتاج تحديداً لبنيات تحتية، بما فيها من مستوطنات، ترسم بعناية في خارطة الربط الأفريقي.
3. الطلب على المستوطنات: The Settlements Demand
الآن وبعد الحرب التي قد تكون أظهرت ما عنيته من قبل، أريد أن أجدد وأنبّه للفكرة من جديد، وصلاً لما كتبته من قبل، أذكّر به وأبيّن فيه أهمية مشروع إنشاء مدن (مستوطنات) جديدة في السودان، بما في ذلك عاصمة جديدة، قد تكون بورتسودان أو غير بورتسودان. فكلفة تعمير العاصمة قد تكفي لنشأة عاصمة جديدة ورشيقة.
ولا بد أنّ صلاحية الكتابة في موضوع السياسة السكانية والبنى التحتية الداعمة للتنمية صلاحية مفتوحة، لما حدث ويحدث من متغيرات كبيرة وجوهرية. إلى جانب عوامل أخرى، تتمثل في النمو السكاني العالي، والتغيرات التكنولوجيا، وتطور معايير وخبرات التخطيط والبناء الحديث.
المستجدات كثيرة Many New Chronicles
بل وللحاجة لتلبية متطلبات مستجدة في مناشط واقتصاديات السكان، في الزراعة، لمدن صناعية متفرقة تستضيف صناعة الحلج والغزل والنسيح وتعبئة البصل والخضر والفاكهة. الأن القطم من القضارف يرجع ليخلج في الجزيرة ثم يعود في طريقه للصادر. وأكبر من ذلك ما يمليه النمو السكاني المتصاعد، المدفوع بطموح الأجيال الجديدة، وحاجتهم لمعايير حديثة للعيش والنماء. وفي كل ذلك، لم تعد مشروعات إنشاء المدن والمستوطنات في العالم تحدث بالمصادفات، ولم تعد أدواتها ومدخلاتها بذات المواصفات والمعايير العتيقة.
3. التفكير والحاجة الماسة: Thinking and The Urgent Need
ولقد نبع هذا الإهتمام من جراء تجربة، عملتُ فيها منسقَ مشروعٍ شاركتْ في تنفيذه وكالة الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UNCHS) المعروفة بالـ هابيتات (Habitat) . الوكالة التي مع أهمية دورها، لم يسع السودان لاستقاطبها، ولا وجود لها إلا عرضاً، كمثل المشروع الذي أشرت إليه. وحضوري نشاط أو أكثر عن السياسات السكانية والهجرة وقضايا الشباب في السودان وفي افريقيا السودان، منها فترة قضيتها فاعلاً ضمن منتديات وفرق عمل افريقية، تعمل لتحقيق الرؤية الإفريقية. ولقد وقفتُ على تفصيل فكرة ومشروع مدينة حديثة، أنشئت من الصفر في أقل من ثلاثة عقود، والآن تلعب دورها الذي رسم لها.
4. ضرورة التفكير لما بعد الحرب: Importance to think for Postwar
لكن لا شك بأن ما حدث مؤخراً، من حرب وتخريب غير مسبوق طال العاصمة وغيرها من المدن، وما نتج عنه نزوح كبير امتصته حواضر وأرياف الولايات والمهاجر. ذلك لا شك يستوجب التفكير بطريقة مختلفة في تخطيط وإنشاء مستوطنات جديدة، بما فيها عاصمة جديدة، بمعايير وخطة مختلفة.
ولا شك بحساباتنا الآن، ربما يكون ذلك غير متاح، أو غير ميسور. لكن بمعايير وحسابات الإستراتيجيات، أن هذا ممكن، بل يتعيّن التفكير فيه والتخطيط له والعمل لتحقيقه.
ولا بد لمن يهتم استراتيجياً أن يضع فكره على خط الأفق، بل يتخطاه لما وراء الأفق المرئي من آفاق في الرؤية. حيث تولد وتنشأ أجيال جديدة. ولا بد أن يفكر المتابع، في كيفية نشوء وقيام المستوطنات البشرية في السودان. خاصة المدن الكبرى في السودان. وما المستوطنة البشرية ليس إلا البيت (المأوى) ومؤسسات الإنتاج، ومواقع العمل والتعليم والعلاج والانتقال والترفيه، أي هي مكان الحياة والعيش. فإن صلُحت صلُحت الحياة. وإن فسدت فسدت.
5. المستوطنات في مقدمة خطط التنمية: Settlements in Advance of Development Planning
إنّ التخطيط لإنشاء مستوطنة، سمها إن شئت قرية كانت أو مُجمّع سكني (حسب عُرف هذه الأيام) أو مدينة أو حتى مدينة عاصمة، لا بد أن يكون في مقدمة خطط واستراتيجيات التنمية في البلاد. وقد يتابع ويقف المهتم، بأن نشأة الكثير من المستوطنات البشرية في السودان، بما في ذلك العاصمة، أو غيرها، قد حدثت لظروف تاريخية أملتها ظروف ما، ليظل الكثير منها رهين للتاريخ.
6. التجارب الإنسانية تشجع التغيير Human best Practices Inspire change
ولا شك أن التجارب الإنسانية تفيض بمشروعات تخطيط وإنشاء وإعادة تأهيل العواصم والمستوطنات البشرية الأصغر. وربما من أحدث نماذج إنشاء المستوطنات ذلك ما تنشئة المملكة العربية السعودية في شمالها الأقصى من مشروع عمراني بمعايير الحجم والأبعاد، ومعايير العلم والتخطيط الاستراتيجي. ولا شك أن كل منتجات منطقة الخليج العمرانية منذ عقود، لا بد أن يستفاد من دروسها المستفادة لصالح أي مشروع للبناء والعمران. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، هناك نماذج ل:
مدن صناعية، مدن علاجية، مدن تعليمية، مدن رياضية، مدن سياحية، مدن سكنية، مدن تحارية وموانئ ومطارات. مدن ومواقع عسكرية.
7. الإحتياجات الأساسية للمدن Basic Urban Requirements
وبالطبع قبل الشروع في السمات الصلبة للمشروعات The Hardware، من أراضي وإنشاءات، لابد من السمات والبنيات المرنة The softwareالتي تحوي الأفكار والقوانين، والخرائط والإحداثيات ثم خطط التنفيذ ونظم التشغيل والاستدامة.
المراجع لحال السودان يستطيع النظر أن يحدد الطلب على البناء والإنشاءات، خاصة الإسكان، فقد ظل عليه الطلب عالياً، ذلك بحسب الزيادة السكانية العالية، والهجرة والمشروعات التنموية. وبحسب التّغيُر السريع في الإنتقال إلى أنماط جديدة من المساكن والمباني عموماً، بل والتغيرات التكنولوجية التي فرضت وتفرض نفسها خلال العهود الاخيرة.
8. موجبات تنمية المستوطنات Need For Settlements Development
فأول وأهم المتغيرات في السودان، وفي كثير من دول العالم، التي تستوجب التخطيط الاستراتيجي للمستوطنات، هو الزيادة السكانية المباشرة، بل والزيادة السكانية العالية في السودان وفي دول المنطقة. أي أنها هي الزيادة المستمرة وتطور سبل العيش والطلب على مستوطنات بمعايير جديدة. إذ يتوقع بمعدل الزيادة الجارية للسكان في السودان (2.5% أو قريباً منها)، أن يتضاعف السكان لثلاث أضعاف كل نصف قرن.
9. التسارع في التمدن The scaling Urbanization
وفي الواقع أن المدن تتسع وتتمدد بوتيرة أعلى من المعدل الإحصائي للزيادة السكانية. حيث الزيادة العالية في الريف تستوعبها المدن. فالمستوطنات الريفية لم تعد تستوعب طموحات الأجيال الناشئة. ولا بد من الإشارة إلى أن معدل التمدن في العالم، حتى السنوات الأخيرة، قد تجاوز حاجز ال50%. وفي ذلك تتلاشى وتتحول الكثير من المجتمعات الرعوية والزراعية التقليدية. ومعلوم أن المنطقة العربية، التي اشتهرت بالمجتمعات الرعوية البادية، قد فقدت البلدان العربية معظم بواديها لصالح المستوطنات الحديثة، الندن تحديداً. وفي المنطقة الافريقية، لم يعد الريف، لأسباب كثيرة، مكاناً للعيش. وبالطبع تتلاشى بوادي السودان، التي كانت يوماً، وحتى مطلع الاستقلال تصل إلى 30%.
10. مشروعات الاستيطان والتوطين Settlements and Resettlements Projects
وقد تبنت دولة السودان يوماً مشروع توطين المجتمعات الرعوية، ولذلك أنشأت في فيافيها ومراعيها المشروعات الزراعية المروية وغير المروية، وفي بعض الأنحاء تم تخطيط قرى ومستوطنات، الأمر الذي ساهم في التسريع بزوال البادية. وفي كثير من الدول المتقدمة، منذ قرنين أو أكثر، قد تلاشت المجتمعات القروية، ليصبح المشتغلون في قطاع الزراعة أقل من 5% من جملة سكان تلك البلدان، ينطبق ذلك على البلدان الصناعية، كما الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا واليابان وغيرها.
11. المتغيرات السريعة والحاسمة Rapid and Critical Change :
قد نتفق أن أسباب عديدة تدعو إلى وتتسبب في نمو المدن. منها الثورة الصناعية التي أدت إلى تركيز وتوفير الخدمات في المدن أكثر منها في الريف. وثورة الإتصالات، والتطلع إلى فرص أفضل للتعليم والصحة ووفرة الطاقة النظيفة. فالوصول إلى مناطق شبكة الكهرباء، وشبكات الإتصال. كذلك وفرة فرص العمل، والتطلع إلى مستوى معيشة أعلى. ومن الأسباب الجديرة بالذكر هي الهجرة والفرار من مناطق الحروب الملتهبة إلى أماكن أكثر أمنّا واستقراراً.
12. البيئة والتغير المناخي Environmental & Climate change
مؤخراً يمثل المهدد الأمني البيئي الماحق بسبب الاحترار العالمي، وما يترتب عليه من تهديد لحياة البشر على ظهر الكوكب الأزرق، وما تفرضه استراتيجيات الصمود (تأهيل المنتجات والموجودات لمقابلة التّغيُر المناخي)، والمواءمة البيئية (إنتاج منتجات تقلل من مسببات التغّير المناخي)، من حاجة للتفكير المختلف لسياسات سكانية جديدة. ذلك على ضوء أسباب ديموغرافية (سكانية)، تتميز بارتفاع نسبة الشباب المتطلعين إلى حياة أفضل، في بلدانهم أو في بلدان المهجر، بحثاً عن الفرص لبناء مساكنهم ومتاجرهم ومصانعهم، وتأسيس حياتهم على العيش في مستوطنات تدرأ المخاطر وتستجيب لتطلعات. ملخص الأمر أن الحاجة لفرص وأنماط جديدة من مدن ومستوطنات ومرافق عامة يفرضه الواقع المتغير، بما فيه من فرص وتحديات والتطلعات البشرية للعيش في المستقبل بأدوات المستقبل.
13. التاريخ للاعتبار Lesson Learning
مع قراءة التاريخ، يستطيع المتابع أن يقف على كيف نشأت وتطورت المدن من مجرد نقاط خدمة تجارية على البراري أو شواطئ البحار، أو قرار حاكم ما لإنشاء مركز للحكم أو مستوطنة للجند، إلى المدن الحديثة، والتي لها ميزة نسبية أو أكثر. وتتراوح المدن من مجمعات سكنية وخدمية محدودة، كالمدن الصناعية أو الجامعية أو حتى معسكر لغرض ما بملحقاته الخدمية والسكنية، إلى مستوطنات تضم الملايين من البشر لكافة الأغراض.
14. أنظمة حديثة لإمداد المدن Modern Urban Sustenance Systems
ولعمري، لم تتطور المدن تاريخياً، هكذا، عبر التوسع في رقعة الأرض المأهولة. لكن قد تعرضت المستوطنات البشرية، على مدى العصور، للمتغيرات التكنولوجية، بما شمل تطور خطط وأنظمة إنشاءات المباني وشبكات المياه والطاقة، والمرافق والخدمات ونظم التجارة والأسواق (بما من الأسواق المركزية والهيبرماركت، حتى نقاط تقديم خدمة القهوة والشاي) والنقل البري والجوي. وبناء الإتصالات والعمل والتعليم والطبابة، صناعة التبريد، تكنولوجيا المياه والهيدرو، النقل بالأنابيب. ونشر أنظمة السياحة والمرافق السياحية والثقافية. ونمو الحاجة لخدمات المستوطنات في الانتقال والاتصال وأنظمة الطرق والجسور والأنفاق، بل ومرافق الرفاهية ودواليك ودواليك.
15. أهمية النموذج والتفكير الكلي Holistic Thinking for Model
قبل أيام قليلة اتصل علي أحد الشباب الذي رأي انتعاش قطاع المشافي والعيادات بولاية سنار، ليذكر أن لديهم منظمة طوعية، وأن لهم مساحة عشرة ألف متر يمكن أن تخصص لمستشفى تخصصي ولائي. فقلت له دعنا نراجع مطلوبات المستشفى التخصصي. فوجدنا في بروتوكولات وزارة الصحة أنّ حاجة المستشفى التخصصي الولائية من الحد الأدنى (تخصصين مثلاً: نساء وتوليد، وطوارئ مثلاً)، لا تقل عن مئتين وستين كادر بشري من المتخصصين حتى الخدمات العامة المساعدة. فقلت له هذا بدءا حاجة مئتين وستين أسرة للسكن والتعليم والأسواق وغيرها. قلت له هذه مدينة لا تستوعبها مجرد فدانين من الأرض، الفدانين قد لا تكفي لمجرد مواقف للسيارات وأماكن الإنتظار. هذا على سبيل المثال.
16. الاستراتيجيات والرؤي الحديثة Modern Visionary Strategies
هذا، وقد شمل التطور، أيضاً نظم التفكير الاستراتيجي في إنشاء وتطوير المستوطنات عبر التخطيط والتصميم والتنفيذ، الذي ارتكز على علوم وممارسات دقيقة، فيها ميزات نسبية ومناخية وسمات حضرية وثقافية. ولا بد أنّه ما من مستوطنة إلا ولها وظائف، وسمات وقسمات. فالمطارات والسكك الحديد وملحقاتها، والمدن الجامعية والمدن الإدارية والأسواق والمرافق السياحية والمدن الرياضية ومضماراتها والمدن العلاجية. والمناطق الصناعية وطبيعة مدخلاتها ومخرجاتها.
17. المعايير الحديثة للمدن Modern Urban Standards
إن طبيعة وسعات الربط بين كافة أرجاء المستوطنة (المدينة)، إن كان ذلك الربط لغرض الإنتقال أو الإتصال أو نقل الطاقة والوقود وأنابيب المياه الحلوة والصرف الصحي. أكثر من ذلك الابراج المحسوبة بعناية لكافة أغراض التطور والإتصال. بل والاعتبارات والمعايير البيئية والمساحات الخضراء. هذا ليس كل ما في موضوع بناء المستوطنات. فكل لها ميزات نسبية معتبرة، وخصائص وأغراض، فلا بد أن يحسب لها حساب، صناعية كانت أو تعليمية أو تجارية أو لخدمة الزراعة أو بساتين الفاكهة أو صناعات الزراعة والإنتاج الحيواني والسمكي أو الموانئ أو غير ذلك.
ولا تقوم أي مستوطنة، كبرت أم صغرت، إلا وفيها قطاع سكني تقوم عليه، تحسب مرافقه وطرائق نقله وأمنه من غوائل البشر أو الطبيعة أو البيئة وطقسها. وملحقات خاصة بأنشطة القطاع السكاني. فكل ما في محتوى السكن أن يكون الناس سعداء في ديارهم. والمدن تفخر بجمالها وأهلها يفخرون. وأسوأ المدن تلكم التي تسئ إلى سكانها ويسيئون إليها.
18. التقادم يفرض التغيير Expiration Imposes Change
وقد يقول الكاتب بأن كل المدن في السودان، مؤخراً، قد فقدت وتفقد صلاحيتها، وكثير من بريقها. وعلى رأسها العاصمة بأبعادها الثلاثية. وفقدان الصلاحية له أسباب. منها زوال أسباب النشأة الأولى. وفي غياب أو ضعف خطط التحديث المدروسة، بما يتجاوز قدرة المستوطنة للوفاء بمتطلبات العيش الكريم. وبعض فقد أهميته بعنصر التقادم، وفقد الكثير من مستوطنات مبرر وجوده. فكثير من المدن كانت قد نشأت على ضفاف الأنهار وموارد المياه، بسبب وجود نهر يتناول منه الناس مياه شربهم بواسطة الدواب. وبعض قد تمدد بسبب مد خطوط النقل الحديثة، وبعض آخر ظهر كأسواق محاصيل في مناطق إنتاج محصولات أو مواشي أو موانئ.
19. صناعة البناء الحديثة Modern Building Industry
ذلك يضاف له التغيير الذي طال أساليب وأدوات ومواد البناء. وتغيرت أسس تخطيط وتصميم ومعايير المدن. بالطبع قد تغيرت تكنولوجيا الحياة التي قلبت موازين السكنى والصناعة والخدمات، رأساً على عقب، كما ورد من مسببات. وقد قامت معايير جديدة وحديثة للسكن والعيش المستدام. طبعاً كل ذلك يريد فيه الساكن الناشيء المتطلع للمستقبل، أن يلحق بركب التغيير، من خيمة البادية، ومن الأكواخ إلى بيت متعدد الغرفات، إلى سرايا، إلى قصر. لكن يظل التحدي الذي لم يلحق، ولن يلحق به هو وفرة واستدامة الخدمات وحقوق السكان المشتركة (ماء، طاقة، نقل، إصحاح بيئة، أمن)، فضلاً عن التطلع للسياحة والترفيه.
20. ضرورة التفكير الاستراتيجي Importance of Strategic Thinking
ترتكز فكرة قيام مدن أو مستوطنات جديدة، كبرت أو صغرت على خطة كبرى Masterplan إقليم أو ولاية ما وسياسة سكانية وتنموية. وحتى الخارطة الكبرى للبلدة أو المدينة، بما في ذلك العواصم الولائية، والتي وحسب الخطط الحديثة أن ينشأ لها مشروع، ليس إعادة إعمار فحسب، لكن بناء جديد بمعايير جديدة. ورقعة السودان، بنظرة عامة، تحتاج لنشأة مدن عديدة لم تولد بعد. فينبغي أن لا تترك للمصادفات. وفي منظور الكاتب مشاريع عديدة، في كل الأنحاء لمدن عديدة. قد تنشأ بمعزل عن القديم. مدن تضع خارطة البلاد ومتطلبات التكامل الإقليمي، ومتطلبات البيئة والاستدامة. متطلبات الصناعة، ومتطلبات التعليم. متطلبات الأسواق والخدمات. فلابد من مشاريع مدن في الوسط والشرق والغرب والشمال والجنوب. أوّلها مدن صناعية واستثمارية. فالثورة التقنية وتكنولوجيا خطوط الأنابيب والعلوم الهيدرولوجية، وخطوط نقل الطاقة وغيرها، لا يصعب معها أين تضع مدينتك الفاضلة.
21. مدن حديثة Modern Cities
نقلت الأخبار، بل يتابع المتابعون، أن خطة حديثة لمدينة سعودية، تحت التخطيط، تتمثل في خطة تمتد لمسافة مائة وسبعين كيلومتر، حول طريق عام وسكة حديد وشبكة طاقة. والمستوطنة الجديدة تبدأ من تحت الأرض، إن لم تكن أنفاق لنقل الركاب بين نواحيها، فلا بد أن تكون هناك شبكة للصرف، وشبكة للمياه. وشبكة كهرباء وشبكة الألياف الضوئية وشبكة للغاز. وتلك الشبكات تصمم بمسافات وأعماق محسوبة تحت الأرض وعلى جنبات الطريق. وعلى سطح المدينة خضرة محسوبة الجمال.
22. سمات المدن الحديثة Modern City Features
المستوطنات (المدن) التي تفخر بجمالها لا تعرف أعمدة لتوزيع الكهرباء والاتصالات. وشكل الطرق في المدينة الحديثة كثير منه دائري، أو حتى ممتد وتتركز حوله الخدمات. المدينة الحديثة تحتاج إلى قمة أو بعض قمم طبيعية، إن وجدت ليبدأ منها انسياب الماء والهوائيات العملاقة. أكثر من ذلك تحتاج إلى مساحات خضراء وفيرة.
كثير من مخططي المجمعات السكنية لا يتدخلون في كنتور الأرض مطلقا. بل يحددونه بدقة ويصممون كل الإنشاءات الهندسية عليه. المدن الحديثة تحسب حاجة الإنسان الفرد من الطعام، الماء والهواء والمساحة الخضراء ومقاعد الدراسة ومقاعد النقل ومقاعد المسرح والنادى وأسرة المشافي وميدان الرياضة. وما يلقيه من نفايات سائلة وصلبة وغازية وملاعب أطفال ومسابح ومرافق اجتماعية، ومرافق كثيرة خاصة وعامة. والمدينة الحديثة هي عبارة عن نسق code، يحسب له حتى لون وملمس المباني ونوع وتوزيع الأشجار والنبات حولها، وزاوية الشمس وزاوية وطبيعة الرياح.. وغير ذلك.
23. مدن الكتالوج Catalogue Cities
التجارب العملية في العالم جعلت من تخطيط وتصميم المدن والمجمعات السكنية والصناعية والمدن التعليمية، جعلت منها كتاب وكتالوج مفتوح، لمن يريد ولمن يرغب ولمن يستطيع. العملية التخطيطية تبدا مسبقا بحساب الزمن وحساب المناخ وحساب المتغيرات. وحركة الشمس الظاهرية، وحركة واتجاه الرياح، وأنماط الاشجار والغابات السائدة. وفيها حتى حساب غوائل البيئة والمناخ وغضبات الأرض. وتنفيذها هندسة وفن وإبداع. ولكل مدينة تفاصيل دقيقة وشفرة (كود).
24. الخلاصة Conclusion
خلاصة، رغم ما هو كائن الآن، إن مشروع التخطيط لإنشاء مستوطنات جديدة، في فضاءات جغرافية وطبوغرافية جديدة في السودان، أمر تمليه ضرورة التفكير الإستراتيجي، وما الاستراتيجية إلا البحث عن من نحن وماذا نريد؟. قارئي العزيز، هذه رسالة للتفكير كيف يمكن أن يكون مستقبل الإسكان في السودان.
الصادق عبدالله أبوعياشة
saddigabdala@gmail.com
زينوبة، 21082023
ملخص سيرة ذاتية:
الصادق عبد الله أبوعيّاشة. رئيس منظمة طوعية. مدير اقليمي سابق للتعاون الاقتصادي والتنمية الإجتماعية، بمنظمة اقليمية، أدار خطة إقليمية للبنيات التحتية. شارك وقاد لجان لتخطيط الموارد البشرية وهيكلة المنظمات، شارك في خطط واستراتيجية التكامل الإفريقي. وفي منتديات الخبراء الحكوميين في افريقيا، شارك في صياغة أهداف التنمية المستدامة 2016-2003. عمل في مشروعات التنمية الريفية والحضرية، وتخفيف حدة الفقر والبيئة. صحفي معتمد، كاتب وناشر، ومؤلف لعدة كتب في العلم الثقافة، البيئة. حاصل على ماجستير في دراسات التنمية، جامعة كرانفيلد، المملكة المتحدة، بكالوريوس شرف، زراعة. جامعة الخرطوم. درس مراحله بدريبو، كركوج، سنجة وحنتوب. +249912303136،
sadigabdala@gmail.com
1. مقدمة Introduction
كتبتُ منذ عقدين أو يزيد، عن أهمية إنشاء مدن (مستوطنات بشرية) جديدة (وحديثة)، حين قلتُ أن هناك حاجة لإنشاء مدنٍ في أماكن أشرت إليها حينئذٍ. أن تنشأ في أعالي البحر الأحمر، وفي البطانة، وفي جنوب وشمال النيل الأبيض، وفي أماكن مختلفة من ولاية سنار، وبين ولاية سنار وولاية القضارف في منطقة نهري الدندر والرهد. وبين كسلا وبورتسودان، وفي سهل البطانة، وفي شمال كردفان وجنوبها. والشرق والغرب.
2. أفكار و فرص Ideas and Opportunities
كتبت محررات عن تنمية البنيات التحتية لربط السودان بأفريقيا، وقد أشرت إلى أنّ هناك فرص لإنشاء مدنٍ سودانية على المعابر السودانية الافريقية ، لتخدم شبكة القطار والطرق الإفريقية، ومطارات لتخدم النقل الجوي السوداني والإفريقي. ومراكز حضرية حدودية للتجارة البينية الافريقية. فالسودان بمساحته الواسعة، في وسط القارة لا يمكن تخطيه إلا بالغفلة. وقد أشرت إلى أن دارفور مثلاً تحادد أربعة دول، تحتاج تحديداً لبنيات تحتية، بما فيها من مستوطنات، ترسم بعناية في خارطة الربط الأفريقي.
3. الطلب على المستوطنات: The Settlements Demand
الآن وبعد الحرب التي قد تكون أظهرت ما عنيته من قبل، أريد أن أجدد وأنبّه للفكرة من جديد، وصلاً لما كتبته من قبل، أذكّر به وأبيّن فيه أهمية مشروع إنشاء مدن (مستوطنات) جديدة في السودان، بما في ذلك عاصمة جديدة، قد تكون بورتسودان أو غير بورتسودان. فكلفة تعمير العاصمة قد تكفي لنشأة عاصمة جديدة ورشيقة.
ولا بد أنّ صلاحية الكتابة في موضوع السياسة السكانية والبنى التحتية الداعمة للتنمية صلاحية مفتوحة، لما حدث ويحدث من متغيرات كبيرة وجوهرية. إلى جانب عوامل أخرى، تتمثل في النمو السكاني العالي، والتغيرات التكنولوجيا، وتطور معايير وخبرات التخطيط والبناء الحديث.
المستجدات كثيرة Many New Chronicles
بل وللحاجة لتلبية متطلبات مستجدة في مناشط واقتصاديات السكان، في الزراعة، لمدن صناعية متفرقة تستضيف صناعة الحلج والغزل والنسيح وتعبئة البصل والخضر والفاكهة. الأن القطم من القضارف يرجع ليخلج في الجزيرة ثم يعود في طريقه للصادر. وأكبر من ذلك ما يمليه النمو السكاني المتصاعد، المدفوع بطموح الأجيال الجديدة، وحاجتهم لمعايير حديثة للعيش والنماء. وفي كل ذلك، لم تعد مشروعات إنشاء المدن والمستوطنات في العالم تحدث بالمصادفات، ولم تعد أدواتها ومدخلاتها بذات المواصفات والمعايير العتيقة.
3. التفكير والحاجة الماسة: Thinking and The Urgent Need
ولقد نبع هذا الإهتمام من جراء تجربة، عملتُ فيها منسقَ مشروعٍ شاركتْ في تنفيذه وكالة الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UNCHS) المعروفة بالـ هابيتات (Habitat) . الوكالة التي مع أهمية دورها، لم يسع السودان لاستقاطبها، ولا وجود لها إلا عرضاً، كمثل المشروع الذي أشرت إليه. وحضوري نشاط أو أكثر عن السياسات السكانية والهجرة وقضايا الشباب في السودان وفي افريقيا السودان، منها فترة قضيتها فاعلاً ضمن منتديات وفرق عمل افريقية، تعمل لتحقيق الرؤية الإفريقية. ولقد وقفتُ على تفصيل فكرة ومشروع مدينة حديثة، أنشئت من الصفر في أقل من ثلاثة عقود، والآن تلعب دورها الذي رسم لها.
4. ضرورة التفكير لما بعد الحرب: Importance to think for Postwar
لكن لا شك بأن ما حدث مؤخراً، من حرب وتخريب غير مسبوق طال العاصمة وغيرها من المدن، وما نتج عنه نزوح كبير امتصته حواضر وأرياف الولايات والمهاجر. ذلك لا شك يستوجب التفكير بطريقة مختلفة في تخطيط وإنشاء مستوطنات جديدة، بما فيها عاصمة جديدة، بمعايير وخطة مختلفة.
ولا شك بحساباتنا الآن، ربما يكون ذلك غير متاح، أو غير ميسور. لكن بمعايير وحسابات الإستراتيجيات، أن هذا ممكن، بل يتعيّن التفكير فيه والتخطيط له والعمل لتحقيقه.
ولا بد لمن يهتم استراتيجياً أن يضع فكره على خط الأفق، بل يتخطاه لما وراء الأفق المرئي من آفاق في الرؤية. حيث تولد وتنشأ أجيال جديدة. ولا بد أن يفكر المتابع، في كيفية نشوء وقيام المستوطنات البشرية في السودان. خاصة المدن الكبرى في السودان. وما المستوطنة البشرية ليس إلا البيت (المأوى) ومؤسسات الإنتاج، ومواقع العمل والتعليم والعلاج والانتقال والترفيه، أي هي مكان الحياة والعيش. فإن صلُحت صلُحت الحياة. وإن فسدت فسدت.
5. المستوطنات في مقدمة خطط التنمية: Settlements in Advance of Development Planning
إنّ التخطيط لإنشاء مستوطنة، سمها إن شئت قرية كانت أو مُجمّع سكني (حسب عُرف هذه الأيام) أو مدينة أو حتى مدينة عاصمة، لا بد أن يكون في مقدمة خطط واستراتيجيات التنمية في البلاد. وقد يتابع ويقف المهتم، بأن نشأة الكثير من المستوطنات البشرية في السودان، بما في ذلك العاصمة، أو غيرها، قد حدثت لظروف تاريخية أملتها ظروف ما، ليظل الكثير منها رهين للتاريخ.
6. التجارب الإنسانية تشجع التغيير Human best Practices Inspire change
ولا شك أن التجارب الإنسانية تفيض بمشروعات تخطيط وإنشاء وإعادة تأهيل العواصم والمستوطنات البشرية الأصغر. وربما من أحدث نماذج إنشاء المستوطنات ذلك ما تنشئة المملكة العربية السعودية في شمالها الأقصى من مشروع عمراني بمعايير الحجم والأبعاد، ومعايير العلم والتخطيط الاستراتيجي. ولا شك أن كل منتجات منطقة الخليج العمرانية منذ عقود، لا بد أن يستفاد من دروسها المستفادة لصالح أي مشروع للبناء والعمران. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، هناك نماذج ل:
مدن صناعية، مدن علاجية، مدن تعليمية، مدن رياضية، مدن سياحية، مدن سكنية، مدن تحارية وموانئ ومطارات. مدن ومواقع عسكرية.
7. الإحتياجات الأساسية للمدن Basic Urban Requirements
وبالطبع قبل الشروع في السمات الصلبة للمشروعات The Hardware، من أراضي وإنشاءات، لابد من السمات والبنيات المرنة The softwareالتي تحوي الأفكار والقوانين، والخرائط والإحداثيات ثم خطط التنفيذ ونظم التشغيل والاستدامة.
المراجع لحال السودان يستطيع النظر أن يحدد الطلب على البناء والإنشاءات، خاصة الإسكان، فقد ظل عليه الطلب عالياً، ذلك بحسب الزيادة السكانية العالية، والهجرة والمشروعات التنموية. وبحسب التّغيُر السريع في الإنتقال إلى أنماط جديدة من المساكن والمباني عموماً، بل والتغيرات التكنولوجية التي فرضت وتفرض نفسها خلال العهود الاخيرة.
8. موجبات تنمية المستوطنات Need For Settlements Development
فأول وأهم المتغيرات في السودان، وفي كثير من دول العالم، التي تستوجب التخطيط الاستراتيجي للمستوطنات، هو الزيادة السكانية المباشرة، بل والزيادة السكانية العالية في السودان وفي دول المنطقة. أي أنها هي الزيادة المستمرة وتطور سبل العيش والطلب على مستوطنات بمعايير جديدة. إذ يتوقع بمعدل الزيادة الجارية للسكان في السودان (2.5% أو قريباً منها)، أن يتضاعف السكان لثلاث أضعاف كل نصف قرن.
9. التسارع في التمدن The scaling Urbanization
وفي الواقع أن المدن تتسع وتتمدد بوتيرة أعلى من المعدل الإحصائي للزيادة السكانية. حيث الزيادة العالية في الريف تستوعبها المدن. فالمستوطنات الريفية لم تعد تستوعب طموحات الأجيال الناشئة. ولا بد من الإشارة إلى أن معدل التمدن في العالم، حتى السنوات الأخيرة، قد تجاوز حاجز ال50%. وفي ذلك تتلاشى وتتحول الكثير من المجتمعات الرعوية والزراعية التقليدية. ومعلوم أن المنطقة العربية، التي اشتهرت بالمجتمعات الرعوية البادية، قد فقدت البلدان العربية معظم بواديها لصالح المستوطنات الحديثة، الندن تحديداً. وفي المنطقة الافريقية، لم يعد الريف، لأسباب كثيرة، مكاناً للعيش. وبالطبع تتلاشى بوادي السودان، التي كانت يوماً، وحتى مطلع الاستقلال تصل إلى 30%.
10. مشروعات الاستيطان والتوطين Settlements and Resettlements Projects
وقد تبنت دولة السودان يوماً مشروع توطين المجتمعات الرعوية، ولذلك أنشأت في فيافيها ومراعيها المشروعات الزراعية المروية وغير المروية، وفي بعض الأنحاء تم تخطيط قرى ومستوطنات، الأمر الذي ساهم في التسريع بزوال البادية. وفي كثير من الدول المتقدمة، منذ قرنين أو أكثر، قد تلاشت المجتمعات القروية، ليصبح المشتغلون في قطاع الزراعة أقل من 5% من جملة سكان تلك البلدان، ينطبق ذلك على البلدان الصناعية، كما الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا واليابان وغيرها.
11. المتغيرات السريعة والحاسمة Rapid and Critical Change :
قد نتفق أن أسباب عديدة تدعو إلى وتتسبب في نمو المدن. منها الثورة الصناعية التي أدت إلى تركيز وتوفير الخدمات في المدن أكثر منها في الريف. وثورة الإتصالات، والتطلع إلى فرص أفضل للتعليم والصحة ووفرة الطاقة النظيفة. فالوصول إلى مناطق شبكة الكهرباء، وشبكات الإتصال. كذلك وفرة فرص العمل، والتطلع إلى مستوى معيشة أعلى. ومن الأسباب الجديرة بالذكر هي الهجرة والفرار من مناطق الحروب الملتهبة إلى أماكن أكثر أمنّا واستقراراً.
12. البيئة والتغير المناخي Environmental & Climate change
مؤخراً يمثل المهدد الأمني البيئي الماحق بسبب الاحترار العالمي، وما يترتب عليه من تهديد لحياة البشر على ظهر الكوكب الأزرق، وما تفرضه استراتيجيات الصمود (تأهيل المنتجات والموجودات لمقابلة التّغيُر المناخي)، والمواءمة البيئية (إنتاج منتجات تقلل من مسببات التغّير المناخي)، من حاجة للتفكير المختلف لسياسات سكانية جديدة. ذلك على ضوء أسباب ديموغرافية (سكانية)، تتميز بارتفاع نسبة الشباب المتطلعين إلى حياة أفضل، في بلدانهم أو في بلدان المهجر، بحثاً عن الفرص لبناء مساكنهم ومتاجرهم ومصانعهم، وتأسيس حياتهم على العيش في مستوطنات تدرأ المخاطر وتستجيب لتطلعات. ملخص الأمر أن الحاجة لفرص وأنماط جديدة من مدن ومستوطنات ومرافق عامة يفرضه الواقع المتغير، بما فيه من فرص وتحديات والتطلعات البشرية للعيش في المستقبل بأدوات المستقبل.
13. التاريخ للاعتبار Lesson Learning
مع قراءة التاريخ، يستطيع المتابع أن يقف على كيف نشأت وتطورت المدن من مجرد نقاط خدمة تجارية على البراري أو شواطئ البحار، أو قرار حاكم ما لإنشاء مركز للحكم أو مستوطنة للجند، إلى المدن الحديثة، والتي لها ميزة نسبية أو أكثر. وتتراوح المدن من مجمعات سكنية وخدمية محدودة، كالمدن الصناعية أو الجامعية أو حتى معسكر لغرض ما بملحقاته الخدمية والسكنية، إلى مستوطنات تضم الملايين من البشر لكافة الأغراض.
14. أنظمة حديثة لإمداد المدن Modern Urban Sustenance Systems
ولعمري، لم تتطور المدن تاريخياً، هكذا، عبر التوسع في رقعة الأرض المأهولة. لكن قد تعرضت المستوطنات البشرية، على مدى العصور، للمتغيرات التكنولوجية، بما شمل تطور خطط وأنظمة إنشاءات المباني وشبكات المياه والطاقة، والمرافق والخدمات ونظم التجارة والأسواق (بما من الأسواق المركزية والهيبرماركت، حتى نقاط تقديم خدمة القهوة والشاي) والنقل البري والجوي. وبناء الإتصالات والعمل والتعليم والطبابة، صناعة التبريد، تكنولوجيا المياه والهيدرو، النقل بالأنابيب. ونشر أنظمة السياحة والمرافق السياحية والثقافية. ونمو الحاجة لخدمات المستوطنات في الانتقال والاتصال وأنظمة الطرق والجسور والأنفاق، بل ومرافق الرفاهية ودواليك ودواليك.
15. أهمية النموذج والتفكير الكلي Holistic Thinking for Model
قبل أيام قليلة اتصل علي أحد الشباب الذي رأي انتعاش قطاع المشافي والعيادات بولاية سنار، ليذكر أن لديهم منظمة طوعية، وأن لهم مساحة عشرة ألف متر يمكن أن تخصص لمستشفى تخصصي ولائي. فقلت له دعنا نراجع مطلوبات المستشفى التخصصي. فوجدنا في بروتوكولات وزارة الصحة أنّ حاجة المستشفى التخصصي الولائية من الحد الأدنى (تخصصين مثلاً: نساء وتوليد، وطوارئ مثلاً)، لا تقل عن مئتين وستين كادر بشري من المتخصصين حتى الخدمات العامة المساعدة. فقلت له هذا بدءا حاجة مئتين وستين أسرة للسكن والتعليم والأسواق وغيرها. قلت له هذه مدينة لا تستوعبها مجرد فدانين من الأرض، الفدانين قد لا تكفي لمجرد مواقف للسيارات وأماكن الإنتظار. هذا على سبيل المثال.
16. الاستراتيجيات والرؤي الحديثة Modern Visionary Strategies
هذا، وقد شمل التطور، أيضاً نظم التفكير الاستراتيجي في إنشاء وتطوير المستوطنات عبر التخطيط والتصميم والتنفيذ، الذي ارتكز على علوم وممارسات دقيقة، فيها ميزات نسبية ومناخية وسمات حضرية وثقافية. ولا بد أنّه ما من مستوطنة إلا ولها وظائف، وسمات وقسمات. فالمطارات والسكك الحديد وملحقاتها، والمدن الجامعية والمدن الإدارية والأسواق والمرافق السياحية والمدن الرياضية ومضماراتها والمدن العلاجية. والمناطق الصناعية وطبيعة مدخلاتها ومخرجاتها.
17. المعايير الحديثة للمدن Modern Urban Standards
إن طبيعة وسعات الربط بين كافة أرجاء المستوطنة (المدينة)، إن كان ذلك الربط لغرض الإنتقال أو الإتصال أو نقل الطاقة والوقود وأنابيب المياه الحلوة والصرف الصحي. أكثر من ذلك الابراج المحسوبة بعناية لكافة أغراض التطور والإتصال. بل والاعتبارات والمعايير البيئية والمساحات الخضراء. هذا ليس كل ما في موضوع بناء المستوطنات. فكل لها ميزات نسبية معتبرة، وخصائص وأغراض، فلا بد أن يحسب لها حساب، صناعية كانت أو تعليمية أو تجارية أو لخدمة الزراعة أو بساتين الفاكهة أو صناعات الزراعة والإنتاج الحيواني والسمكي أو الموانئ أو غير ذلك.
ولا تقوم أي مستوطنة، كبرت أم صغرت، إلا وفيها قطاع سكني تقوم عليه، تحسب مرافقه وطرائق نقله وأمنه من غوائل البشر أو الطبيعة أو البيئة وطقسها. وملحقات خاصة بأنشطة القطاع السكاني. فكل ما في محتوى السكن أن يكون الناس سعداء في ديارهم. والمدن تفخر بجمالها وأهلها يفخرون. وأسوأ المدن تلكم التي تسئ إلى سكانها ويسيئون إليها.
18. التقادم يفرض التغيير Expiration Imposes Change
وقد يقول الكاتب بأن كل المدن في السودان، مؤخراً، قد فقدت وتفقد صلاحيتها، وكثير من بريقها. وعلى رأسها العاصمة بأبعادها الثلاثية. وفقدان الصلاحية له أسباب. منها زوال أسباب النشأة الأولى. وفي غياب أو ضعف خطط التحديث المدروسة، بما يتجاوز قدرة المستوطنة للوفاء بمتطلبات العيش الكريم. وبعض فقد أهميته بعنصر التقادم، وفقد الكثير من مستوطنات مبرر وجوده. فكثير من المدن كانت قد نشأت على ضفاف الأنهار وموارد المياه، بسبب وجود نهر يتناول منه الناس مياه شربهم بواسطة الدواب. وبعض قد تمدد بسبب مد خطوط النقل الحديثة، وبعض آخر ظهر كأسواق محاصيل في مناطق إنتاج محصولات أو مواشي أو موانئ.
19. صناعة البناء الحديثة Modern Building Industry
ذلك يضاف له التغيير الذي طال أساليب وأدوات ومواد البناء. وتغيرت أسس تخطيط وتصميم ومعايير المدن. بالطبع قد تغيرت تكنولوجيا الحياة التي قلبت موازين السكنى والصناعة والخدمات، رأساً على عقب، كما ورد من مسببات. وقد قامت معايير جديدة وحديثة للسكن والعيش المستدام. طبعاً كل ذلك يريد فيه الساكن الناشيء المتطلع للمستقبل، أن يلحق بركب التغيير، من خيمة البادية، ومن الأكواخ إلى بيت متعدد الغرفات، إلى سرايا، إلى قصر. لكن يظل التحدي الذي لم يلحق، ولن يلحق به هو وفرة واستدامة الخدمات وحقوق السكان المشتركة (ماء، طاقة، نقل، إصحاح بيئة، أمن)، فضلاً عن التطلع للسياحة والترفيه.
20. ضرورة التفكير الاستراتيجي Importance of Strategic Thinking
ترتكز فكرة قيام مدن أو مستوطنات جديدة، كبرت أو صغرت على خطة كبرى Masterplan إقليم أو ولاية ما وسياسة سكانية وتنموية. وحتى الخارطة الكبرى للبلدة أو المدينة، بما في ذلك العواصم الولائية، والتي وحسب الخطط الحديثة أن ينشأ لها مشروع، ليس إعادة إعمار فحسب، لكن بناء جديد بمعايير جديدة. ورقعة السودان، بنظرة عامة، تحتاج لنشأة مدن عديدة لم تولد بعد. فينبغي أن لا تترك للمصادفات. وفي منظور الكاتب مشاريع عديدة، في كل الأنحاء لمدن عديدة. قد تنشأ بمعزل عن القديم. مدن تضع خارطة البلاد ومتطلبات التكامل الإقليمي، ومتطلبات البيئة والاستدامة. متطلبات الصناعة، ومتطلبات التعليم. متطلبات الأسواق والخدمات. فلابد من مشاريع مدن في الوسط والشرق والغرب والشمال والجنوب. أوّلها مدن صناعية واستثمارية. فالثورة التقنية وتكنولوجيا خطوط الأنابيب والعلوم الهيدرولوجية، وخطوط نقل الطاقة وغيرها، لا يصعب معها أين تضع مدينتك الفاضلة.
21. مدن حديثة Modern Cities
نقلت الأخبار، بل يتابع المتابعون، أن خطة حديثة لمدينة سعودية، تحت التخطيط، تتمثل في خطة تمتد لمسافة مائة وسبعين كيلومتر، حول طريق عام وسكة حديد وشبكة طاقة. والمستوطنة الجديدة تبدأ من تحت الأرض، إن لم تكن أنفاق لنقل الركاب بين نواحيها، فلا بد أن تكون هناك شبكة للصرف، وشبكة للمياه. وشبكة كهرباء وشبكة الألياف الضوئية وشبكة للغاز. وتلك الشبكات تصمم بمسافات وأعماق محسوبة تحت الأرض وعلى جنبات الطريق. وعلى سطح المدينة خضرة محسوبة الجمال.
22. سمات المدن الحديثة Modern City Features
المستوطنات (المدن) التي تفخر بجمالها لا تعرف أعمدة لتوزيع الكهرباء والاتصالات. وشكل الطرق في المدينة الحديثة كثير منه دائري، أو حتى ممتد وتتركز حوله الخدمات. المدينة الحديثة تحتاج إلى قمة أو بعض قمم طبيعية، إن وجدت ليبدأ منها انسياب الماء والهوائيات العملاقة. أكثر من ذلك تحتاج إلى مساحات خضراء وفيرة.
كثير من مخططي المجمعات السكنية لا يتدخلون في كنتور الأرض مطلقا. بل يحددونه بدقة ويصممون كل الإنشاءات الهندسية عليه. المدن الحديثة تحسب حاجة الإنسان الفرد من الطعام، الماء والهواء والمساحة الخضراء ومقاعد الدراسة ومقاعد النقل ومقاعد المسرح والنادى وأسرة المشافي وميدان الرياضة. وما يلقيه من نفايات سائلة وصلبة وغازية وملاعب أطفال ومسابح ومرافق اجتماعية، ومرافق كثيرة خاصة وعامة. والمدينة الحديثة هي عبارة عن نسق code، يحسب له حتى لون وملمس المباني ونوع وتوزيع الأشجار والنبات حولها، وزاوية الشمس وزاوية وطبيعة الرياح.. وغير ذلك.
23. مدن الكتالوج Catalogue Cities
التجارب العملية في العالم جعلت من تخطيط وتصميم المدن والمجمعات السكنية والصناعية والمدن التعليمية، جعلت منها كتاب وكتالوج مفتوح، لمن يريد ولمن يرغب ولمن يستطيع. العملية التخطيطية تبدا مسبقا بحساب الزمن وحساب المناخ وحساب المتغيرات. وحركة الشمس الظاهرية، وحركة واتجاه الرياح، وأنماط الاشجار والغابات السائدة. وفيها حتى حساب غوائل البيئة والمناخ وغضبات الأرض. وتنفيذها هندسة وفن وإبداع. ولكل مدينة تفاصيل دقيقة وشفرة (كود).
24. الخلاصة Conclusion
خلاصة، رغم ما هو كائن الآن، إن مشروع التخطيط لإنشاء مستوطنات جديدة، في فضاءات جغرافية وطبوغرافية جديدة في السودان، أمر تمليه ضرورة التفكير الإستراتيجي، وما الاستراتيجية إلا البحث عن من نحن وماذا نريد؟. قارئي العزيز، هذه رسالة للتفكير كيف يمكن أن يكون مستقبل الإسكان في السودان.
الصادق عبدالله أبوعياشة
saddigabdala@gmail.com
زينوبة، 21082023
ملخص سيرة ذاتية:
الصادق عبد الله أبوعيّاشة. رئيس منظمة طوعية. مدير اقليمي سابق للتعاون الاقتصادي والتنمية الإجتماعية، بمنظمة اقليمية، أدار خطة إقليمية للبنيات التحتية. شارك وقاد لجان لتخطيط الموارد البشرية وهيكلة المنظمات، شارك في خطط واستراتيجية التكامل الإفريقي. وفي منتديات الخبراء الحكوميين في افريقيا، شارك في صياغة أهداف التنمية المستدامة 2016-2003. عمل في مشروعات التنمية الريفية والحضرية، وتخفيف حدة الفقر والبيئة. صحفي معتمد، كاتب وناشر، ومؤلف لعدة كتب في العلم الثقافة، البيئة. حاصل على ماجستير في دراسات التنمية، جامعة كرانفيلد، المملكة المتحدة، بكالوريوس شرف، زراعة. جامعة الخرطوم. درس مراحله بدريبو، كركوج، سنجة وحنتوب. +249912303136،
sadigabdala@gmail.com