إبك يا بلدى الحبيب
الفاضل حسن عوض الله
10 July, 2011
10 July, 2011
Cry the Beloved Country!
قد نفلح فى إبتلاع الاحزان المضنية لهذا اليوم والخارطة الجديدة للوطن امام أعيننا كأنها بقايا ذبيحة معلقة ، لكن ما أثقل الحزن حين ينكره ويستغربه ويستهجنه شذاذ الافاق ، الذين تباروا فى قرع الطبول والرقص والإحتفاء بجرمهم وهم يرفعون نصالاً يقطر منها دم الوطن . لا يريدون لعين أن تدمع ولا لقلب أن يحزن وهم يطأون وجهاً هجيناً جميلاً فيه من سحر الجنوب قسماته ... ومن طيب زهر الشمال نسماته .
عندما أُبرم الإتفاق الشهير راحوا يملأون الدنيا ويتصايحون فى صخب : ( إنا جئناكم بالاستقلال الثانى ) ... أىُّ إستقلال هذا الذى نحر الوطن بسكين صدئة ؟ أما أرتوى القوم من الويلات والمصائب والنكبات التى حاقت بالوطن والمواطن جراء سياسات ( التجريب والخطأ ) ؟ أما كفانا الإنقلاب على الديمقراطية ؟ أما كفانا التمكين الذى جعل دولةً بأكملها غنيمة فى يد من تعوذهم الكفاءة ويرفعهم الولاء ؟ كيف لفقراء وشرفاء هذا الوطن أن ينسوا نصال الصالح العام التى أُعملت فى الرقاب فشردت مئات الالاف من الأسر وقهرت الرجال والنساء والاطفال ؟ ماذا يقال اليوم للثكلى من الامهات وللاباء المفجوعين الذين التهمت الحرب الشباب الغض النضير من أبنائهم وهم يرون فردوس الجنان يُطوى وتوصد أبوابه ؟ أما كفانا جرح الجنوب الذى تركوه يمضى بمقايضة خاسرة ؟ مقايضة أضاعت الجنوب يوم أن جعلته مسرحاً جهادياً فخسرنا وحدة البلاد ولم نربح السلام ، وها هى دارفور وجنوب كردفان والنيل الازرق ترعد سماواتها بجراح وأحزان قادمة .
كيف لا يتراكم الحزن والدمع والأسى والناس مكروبون ومتعبون يخوضون كل يوم نزالاً قاسياً مع لقمة العيش وجرعة الدواء وتجبّر الحكومة ؟ باتوا يعقدون رهانهم في العيش الكريم على ضربة حظ .. تجئ أو لا تجئ . لم يعد الكد والمثابرة والإخلاص في العمل يفضي إلى رخاء العيش أو حتى كفافه . التاجر الذي أنفق عمره كله في الأسواق أصبح يمضي في الصباحات الباكرة إلى عمله وهو لا يأمن أن يبيع ما يكفي لسد أدنى احتياجات أسرته المعيشية .. يمشي وهو مفزوع من هواجس الجبايات المتعددة والكساد الماحق وأشباح السجون والحراسات تؤرق صحوه ومنامه. والموظف الذي نجا عنقه من مقصلة الصالح العام يحار كل صباح في إدراك المعادلة السحرية التي توفق ما بين دخله المتناقص واحتياجه المتواضع والمتزايد . وطالب الجامعة يمضي إلى كليته وهو حائر ما بين المثابرة والاجتهاد في دروسه وما بين الأبواب الموصدة التي تنتظره في آخر النفق الأكاديمي . والمزارع والراعي في فيافي السودان الشاسعة يجاهدان للفكاك من قبضة السماء التي أمسكت ، والأرض التي أجدبت ، وقبضة الحكومة التي لا ترى فيهما إلا مورد جبائي يجب اعتصاره عصراً.
ماتت كل الآمال المعقودة وما عادت السواعد تقوى على عمل يفضي في آخر الأمر إلى مزيد من الإخفاق... فتر العزم ووهنت العزائم وتلاشى الطموح على واقع النهايات الخاسرة . أطباء ومهندسون وأكاديميون جربوا الهجرة في الزمن الضائع إلى شطئان النفط العربية .. إنتحلوا مهن الرعاة و(الحلابين) وشدوا الرحال إلى بلاد ضاقت بأهلها فعادوا بالغبار، آخرون تطاولت آمالهم إلى منافي الصقيع البارد فلم يدركوها لأن جوازات سفرهم بات حاملوها في هذا الزمن يصنفون بأنهم إرهابيون محتملون، وثمة آخرين لم يجدوا سوى إسرائيل فانتهى بهم الأمر إلى جثث عالقة كما تعلق أكياس النفايات على الأسلاك الشائكة .
تسامعوا بالذهب المخبؤ تحت رمال وطنهم الحارقة فراحوا يركضون نحو المفازات الموحشة يساكنون الوحوش والضواري...يقتاتون الجوع ويشربون الظمأ وصدّقوا أن تتركهم الحكومة ما تركوها . ما دروا أن سحاب كدهم أينما أمطر فخراجه سيصب في خزائنها ، وأن تلك الأرض الموحشة ليست أرض الله كما يعتقدون ، ولكنها أرض الحكومة.
اليوم تراجعت على استحياء اسطوانة ( الاستقلال الثانى ) وراحوا يمضغون ويلوكون اسطوانة جديدة أسموها ( الجمهورية الثانية ). أية جمهورية ينشدون ؟ جمهورية المحاق والعدم والآمال الوطنية التى طويت ... أم جمهورية أشلاء وطن معاق يكابد احتياجاته الخاصة ؟ !