مدخل شرفني منتدى "حتى نعود" الثقافي بغرب أستراليا للمشاركة في إلقاء كلمة في ندوة إسفيرية بعنوان " إدارة التنوع ومستقبل الديمقراطية" يوم السبت أول مايو، ورغم أن تقديراتنا كانت أن تستغرق الندوة بكلمتها ومداخلات المشاركين ساعة أو ساعتين كأقصى حد، إلا أنها أخذت ضعف الزمن المقرر لها، حيث تميز النقاش بالحيوية والجدية المسؤولة والموضوعية في طرح المتداخلين. ونظراً لأهمية ما طرح فيها من قضايا، رأيت أن أشرك القراء بمقتطفات من محاورها، وباللغة التي طرحت بها.
(1) لا يختلف اثنان في واقع أن السودان بلد يتميز بتنوع الأعراق والثقافات بل وتنوع المناخات والموارد الطبيعية. إضافة لموقعه الجيوسياسي في قلب القارة. وما في اتنين بختلفوا إنه دا مصدر غنى وثراء يؤهل السودان ليكون في مقدمة أقوى دول العالم. والسؤال دائما من الجميع لماذا هذا هو حالنا دائماً؟. والإجابة من الجميع دائما هي : لعدم قدرتنا على إدارة هذا الثراء وهذه الثروة الطبيعية والبشرية؟. طيب : ليه دائما هذا الفشل رغم حيوية هذا الشعب اللي بيقدر في أقل من نصف قرن يغير نظام الحكم بثلاث ثورات شعبية باهرة ..(مقارنة بكل الشعوب والدول الأخرى)؟.
(2) الإجابة بالنسبة لي تكمن في غياب السؤال الأهم : سؤال الدولة. ودا بيرجع إلى أن العقل السياسي، وخصوصاً عند النخبة، لا زال يشتغل في منطقة أو فضاء ما قبل الحداثة. ما قادر يفتك من حبل الانتماءات ما قبل الدولة. عشان كدا جدالات المثقفين كلها ما قادرة تتجاوز صراع الهويات الأصغر، ما قبل الدولة. ومع كامل الاحترام الشخصي للأخوين الدكتورين، عبد الله علي إبراهيم ومحمد جلال، ومع احترام حقهما في الاجتهاد، إلا أن الجدال بينهما إنما هو في منطقة ما قبل الدولة، هو صراع إثنيات وإثنيات مضادة. هما يتجادلان ويختصمان على "هوية" الدولة. ويغيبان معاً الدولة نفسها. مع أن الإجابة على سؤال المليون هذا قريبة أمام أعيننا. الدولة المدنية الحديثة هي الحل الوحيد الذي لا حل غيره لسودان حر ومستقل ومستقر مستدام. به تحقق شعارات الثورة حرية سلام وعدالة. وتنتفي بتحقيق هذه المبادئ والأهداف الحاجة لحمل السلاح، ويتفرغ الناس للعمل المثمر المفيد. أظنه دي كانت دائما أحلام محجوب الشريف إبن الشعب البار. مش كان بغني: حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي وطن شامخ وطن عاتى وطن خيّر ديمقراطى وطن مالك زمام أمرو ومتوهج لهب جمرو وطن غالى نجومو تلالى فى العالى إراده سياده حريّه مكان الفرد تتقدم.. قيادتنا الجماعيّه مكان السجنِ مستشفى مكان المنفى كليّه مكان الأسرى ورديّه مكان الحسره أغنيّه ودا لو سميناهو حلم، لكنه حلم ممكن التحقيق .. وفي ثوراتنا تظهر منه مشاهد ولقطات يطفئ وهجها تلاعب النخب السياسية والعسكرية. الغريبة الشياب كانوا بيرددوا وراهو الغنا وهو في قبره الشريف في مظاهراتهم ومواكبهم السلمية بصدور مفتوحة للرصاص ورئات تتكرف البمبان. ودا هو الوجدان السوداني الحقيقي. الجوهر الما قدرت عصابة المافيا الإسلاموية بكل ما تملك من قوة الدولة وبطش مؤسساتها أن تهبشه أو تضعفه أو تمحوه من جواهم.
(3) لما أقول مشكلة الدولة والفشل في إدارة ثروة التنوع والتعدد هذه ترجع لقصور العقل السياسوي عند النخب. عندكم الشاهد. لاحظوا في لحظة الفعل الثوري في عامي 18 و19 كان الشباب يرددون (يا العسكري المغرور كل البلد دارفور) .. كانت دارفور بكل مكوناتها الإثنية والثقافية هي السودان، والسودان عندهم كان دارفور، رغم تعدد إثنياتهم وثقافاتهم وألسنتهم، ما كانوا نوبة وجعليين وزغاوة ونوير وهدندوة ودناقلة وقِمز ..كانوا سوانيين أولاً وأخيراً في اللحظة ديك.
المفارقة وين؟ لما وقعت النخب العسكرية الحاكمة اتفاقية جوبا مع الحركات المسلحة، والكان سبب تأسيسها تهميش المناطق الجايين منها (وبعد ما انتصرت الثورة) وحقق الشباب العُزَّل الهدف اللي من أجلو حملوا السلاح ضد النظام الإسلاموي وما قدرو عليه) جاء القادة الأشاوس للخرطوم ليعلنوا بأنهم دخلوها ببندقيتهم وأنه جاء وقت الحساب مع "المركز" المركز دا منو؟ سكان الخرطوم المدنيين؟. حميدتي الشريك في سلطة الثورة وجنوده شاركوا في فض الاعتصام ومجزرته قال : لو الحصل في فض الاعتصام استمر يومين كان العمارات بقت خرابات ما فيها الكدايس. الكلام دا صدر من مليشيات تحرير السودان (لاحظوا اللافتة دي وكبرها) بعد زوال النظام الكان واضع الجميع تحت بوت العسكر وخانق الجميع بشال الكيزان اللي حول رقبتهم. المشهدين ديل بيكشفوا بطريقة واضحة جداً الفارق النوعي بين وعي الشعب والشباب والناس العاديين البسطاء، وبين النخب البتتصدر المشهد السياسي والاجتماعي والسياسي. والواحد هنا لا يستطيع إلا وأن يتذكر كلمة كبير المعلمين محمود محمد طه بأنه الشعب السوداني (عملاق يتصدى لقيادته أقزم). نعم هناك فجوة في الوعي بين الناس والنخب السياسية والاجتماعية والثقافية. وأظن الحال، والحاصل الآن بعد الثورة، وفي ظل السلطة القائمة بكل أحزابها ومكوناتها المدنية والعسكرية والمليشياوية يؤكد هذا بوضوح فاضح أكبر ورقة توت وزيف ما بتقدر تغطيهو.
(4) طيب. نرجع لمسألة إدارة التنوع. إدارة تنوع المكونات السودانية، بما يضمن عدالة تقاسم السلطة والثروة بشكل فاعل يحقق دولة الحرية والعدالة المأمولة لا يمكن تحقيقه إلا عبر، ومن خلال تأسيسنا لقواعد الدولة ذاتها. هي عملية جدلية تبادلية: - تحت ضُل شجرة الدولة الكبير تتم إدارة التنوع السلمي بفعالية ونجاح. هذا من ناحية. - ومن ناحية أخرى بإدارة التنوع بين المكونات السودانية بوعي وبطريقة سلمية ومسؤولة تتأسس الدول القوية المستقرة المستدامة. كيف ممكن العملية المزدوجة دي تتم؟. الطريق الوحيد لتحقيق ذلك يتم بتعاقد اجتماعي بين جميع أصحاب المصلحة، وديل بنعني بيهم جميع مكونات الكيان السوداني وطيف ألوانه المتنوعة. دي نقطة أحب نركز في فهمنا ليها كويس. لأن جميع الذين يتجادلون حول الدولة العايزين نأسسها وهويتها، بيفترضوا أن هوية الدولة يجب أن تعبِّر عن هويتهم الدينية أو الجهوية أو القبلية والإثنية ..الخ. وإلا فإنها دولة استعمار ينبغي مقاومتها ولو بحمل السلاح والتحرر منها ومن حكمها.
ودا هو المنطق السائد بين الجميع مع أن المنطق بيقول: لا ينبغي أن لا تأخذ الدولة المدنية الحديثة صبغة هوية واحدة من مكوناتها المتعددة والمتنوعة، وإلا كانت بالفعل كذلك، أي دولة استعمار، وهذا ما قاله الجنوبيين لما إسماعيل الأزهري أعلن قبل الاستقلال بأن السودان جمهورية عربية إسلامية
(5) إذن ما الذي كان يحول سابقاً ويحول اليوم دون تحقيق هذه الدولة، رغم وضوح هذه القاعدة التي أقررناها للتو؟.. إنه كما سميته في بعض كتاباتي: فأر الأيديولوجيا الذي يحاول أن يبتلع فيل الدولة. وقد تساءلت يومذاك: وإذا نجح الفأر في ذلك بمعجزة ما، فهل سيصبح فيلاً ؟. أو سنسميه فيلٌ نحن ؟!. لسنا وحدنا في هذا الداء، فكل منظومة ما يسمى بالدول العربية والإسلامية تتشارك هذا الداء، وتعاني من نفس أعراضه من عدم تماسك نسيجها الداخلي وتفككها، وعدم استقرارها وتخلفها. ويظن الحكام أن قمعهم لشعوبهم وحبس أنفاسهم يعني الاستقرار واستتباب الأمن لتنفيذ المشاريع التنموية. متغافلون عن المراجل التي تغلي تحت الأرض والتناقضات الداخلية المهيأة للانفجار. وما يثير الدهشة أنهم أول من سيتفاجأ بالانفجار. وكل الرؤساء الذين أطاحت بهم ثورات الربيع العربي بلا استثناء بوغتوا بها، ولن ينسى التاريخ آخر كلماتهم المعبرة بضعف واستخذاء عن هول المفاجأة. إن الاستقرار الذي يفرضه الحاكم بقوة القبضة الأمنية وبطشها لا يمكن أن يسمى استقراراً.
(6) تأسيس الدولة الذي نتحدث عنه هنا لا يمكن أن يتم بدون الديمقراطية.. وإدارة التنوع بين المكونات السودانية المختلفة لا يمكن أن يتم بدون ديمقراطية تساوي بين الجميع في الفرص والحقوق والواجبات والديمقراطية ثقافة تُكتسب وتربية وممارسة. لا يكفي لتحققها أن ينام المرء بنيّة أن يصبح ديمقراطياً، ويصحو وقد أصبح ديمقراطياً. نحن نولد ونشبّ ونعيش في محيط سلطوي. والسلطة من طبيعتها السيطرة، السلطة تميل بطبيعتها لأن تضع الأمور تحت سيطرتها، لا تطيق الاختلاف ولا تعترف به. لذا علينا أن نربي أطفالنا على قيم الاعتراف بالاختلاف، والاعتراف بحق الآخر في الاختلاف. وهذا لن يؤتي ثماره في أطفالنا ما لم نعترف لهم بإنسانيتهم، ونُشعرهم بكينونتهم. أن نحترمهم لنغرس فيهم الاحترام لأنفسهم. وإلا فكيف لهم أن يحترموا الآخر، وهم يفتقرون الاحترام لأنفسهم ؟. فالأصل في الإنسان إنه يولد حراً، كما قال الفاروق عمر بن الخطاب. لذا فإن الإنسان الذي يقبل الاستعباد ويتعايش مع الظلم والاضطهاد والاهانة، ولا يقاوم السيطرة والهيمنة والحط من كرامته، ليس إنساناً سويَاً. هو إنسان مريض، وأخطر ما يفعله أنه ينقل عدوى مرضه بين الناس.