“إدمان الفشل” سببه الانخداع والهزيمة النفسية
كنت ومنذ أمد بعيد أفكر في ما هو سبب فشل كل الأنظمة المتعاقبة على السودان مدنية وعسكرية في الوصول لصيغة من الحلول الوسطى أو الشراكة الرابحة للطرفين مما يؤهلهما للعمل معا لتحقيق مصلحة السودان العليا كما يحدث في دول أخرى.
من ناحية ثانية أيضا، عندما ننظر لصراع الأحزاب العقائدية فيما بينها ووصول ذلك الصراع إلى مرحلة التصفيات أو القتل المتبادل، وصراعها كذلك مع الأحزاب الطائفية وصراع هذه الأخيرة فيما بينها، تجدنا نتسأل، لماذا وجود كفاءات مهنية و تكنوقراطية عالية التأهيل العلمي والأكاديمي في كل هذه الأحزاب المختلفة لم يساهم حتى في نشر الوعي وروح الشورى والديمقراطية داخل تلك الأحزاب؟ بدليل عدم انعقاد مؤتمرات وطنية داخلية فيها خلال عشرات السنين!!!
بجانب تلك الصراعات الحزبية، يبرز أيضا الصراع القبلي والجهوي بين ما سمي أبناء البحر وأبناء الغرب، ثم بين القبائل بعضها البعض كما حدث في دارفور بل في مدن حضرية مثل بور تسودان والقضارف. ولعلي أعدد هنا بعض تلك الصراعات الشهيرة التي شغلت السودانيين وأضاعت عليهم كثير من الموارد والإمكانيات والطاقات والزمن.
على سبيل المثال لا الحصر، فتنة 1955م بين شمال السودان وجنوبه، ،انقلاب عبود بدعم حزب الأمة في 1958م، حل الحزب الشيوعي في 15/11/1965م بعدة تهم من بينها الإلحاد، انقلاب نميري 1969م بدعم الحزب الشيوعي، أحداث الجزيرة أبا في27/03/ 1970م- انتقام نميري من معارضيه وضربهم بالطائرات التي يقال أنها كانت بقيادة الضابط المصري حسني مبارك-، انقلاب هاشم العطا في 19/07/1971م، مجزرة بيت الضيافة في 22/07/1971م التي أتهم فيها الحزب الشيوعي بإعدام 19 ضابط من القوات المسلحة السودانية، عودة حروب جنوب السودان في 1983م بعد إعلان تطبيق قوانين سبتمبر 1983م، انقلاب الإنقاذ في 1989م بواسطة الأخوان المسلمون، الحروب الجهادية بين قوات جيش تحرير السودان وحكومة الخرطوم ما بين 1991م -2003م، أحداث دارفور منذ 2003م ووقوع صراعات قبلية عديدة وأحيانا داخل القبيلة الواحدة بين بطونها المتعددة!!!
يبقى السؤال، لماذا لم يفهم كل هؤلاء السودانيون انه قد تمّ "استغبائهم" لاستغلالهم وتمّ الضحك عليهم خلال مئات السنين من قبل المستعمر - لجنة1920 Milner م- و وكلائه من خلال إيجاد فتن وبور صراع قابلة للانفجار عندما يراد لها ذلك، وأن هناك قوى إقليمية وعالمية لاتهمها إلا خيرات السودان، ولن تستطيع هذه القوى الخارجية وضع يدها على تلك الخيرات إذا لم تجد وسائل مختلفة لإلهاء الشعب وإغراقه في صراعات حزبية و جهوية و قبلية من جهة، ومن جهة ثانية "تشبيك" و"تسبيك" ذلك الصراع من خلال صراع أخر أوهموا به فئتين محددتين تملكان المعرفة والسلاح وهما المدنيين والعسكريين فأصبح العداء بينهما مستحكم و طبيعي كعداء الكلب والهر!!!. وهكذا سقط الجميع بصورة مباشرة أو غير مباشرة في شرك الصراعات المانعة لأي نوع من الوحدة الوطنية.
في حين، إننا نجد دول مثل الهند بها عدد سكان فوق المليار مواطن وبها الآلاف اللهجات والآلاف القوميات
بل بها نظام عنصرية وتمييز طبقي ضد "الداليت" أو المنبوذين. ولكنها رغم ذلك غلب فيها الحس الوطني والشعور القومي ولم تحدث حروب أو صراعات قبلية أو حزبية أو دينية، بل تطورت الدولة وأصبحت من الدول الأكثر نمو في العالم حيث بلغ "حجم الاقتصاد الهندي بلغ 2.94 تريليون دولار مما يضعها في المركز الخامس على مستوى العالم من حيث قوة الاقتصاد". و لنا في دولة تركيا مثلا أكثر وضوحاً ، فالحس الوطني "القومية التركية" ظل لديهم أقوى من أي انقسام أخر، فجمع بين المتناقضين كعلمانية الدولة بمؤسساتها المختلفة و"إسلامية" الحزب الفائز في الانتخابات بل إسلامية كل مظاهر الحياة اليومية للمواطن التركي. إذن يمكن القول بأن تركيا نهضت وتطورت ووصلت مصاف كثير من دول غرب أوربا لأنها تجاوزت ذلك شرك الصراعات الجهنمي الذي حاول المستعمر ووكلائه سجنها فيه فلم تنشغل بحروب وصراعات داخلية قبلية أو جهورية أو حزبية بل لعلها وحدت الخلافات والاختلافات عبر نشر الحس الوطني الصادق.
أما الذين ليس لهم الجراءة للاجتهاد لإنجاز شيئا يذكر وليس لهم القدرة على الإبداع فهؤلاء أدمنوا الفشل بسبب انخداعهم وهزيمتهم النفسية، وهي مرحلة تلي القابلية للانهزام فهم يصرون على الانغلاق في صراعات جانبية داخلية تتناسب مع مقدراتهم ويجدون متعة في الاستعلاء بعضلاتهم الفكرية والخطابية والعلمية والمهنية الهشة على الأخريين، هذه الهشاشة أو الضحالة تقودهم إلى التعيش واكتساب مصالح مادية أو سلطوية من خلال افتعال الصراعات الحزبية والجهوية والقبلية، بل قد يصل بهم جنون الهزيمة النفسية فينصبون من أنفسهم أوصياء على الدين وعلى المجتمع وإنهم دون غيرهم "المهديين" الذين أوتوا شيء من علم الكتاب!!!
يبقى الحل هو أن ينعتق المواطن ورجل الشارع ويتحرر من ربقة تلك الفئات العاطلة عن الموهبة من قادة الأحزاب والعمل السياسي ورجال الأعمال ورجال الدين الذين يدفعون به كوقود في صراعات دينية وحزبية وجهوية وقبلية وغيرها حتى يصلوا هم إلى دست الحكم وعالم المال.
أنشد الشاعر محجوب شريف
"اسمع مني ياكابوس
شن بتسوي في تاريخنا يامدسوس
وشن بتكوس
شيشك ها البلد محروس
ونحن سقفنا مابتاكل مروقو السوس
ولما الثوره يومها تقوم
تهدك شكه الدبوس".
wadrawda@hotmail.fr