إستراحة مع أبى عثمان: الجاحظ الحصيف وبقايا المداد والحسرات!
الخضر هارون
26 March, 2014
26 March, 2014
maqamaat@hotmail.com
فى لحظة من لحظات السقوط المريع إلى قاع الإحباط السحيق حيث يتطلع المرء من قلب الحفائر الخربة إلى عل فلا يبصر سوى الظلمة الحالكة والأحلام الهالكة والزمن البئيس يراقب بعين الشماتة صروح أمانينا وهى تتهدم ونبيل أشواقنا التواقة إلى الخير والمروءة والعرفان وهى تتبدد, حملت عصا الترحال السحرية العابرة للأزمنة والأمكنة والأجيال كراً إلى الوراء باحثاً فى أزقة بغداد القديمة عن شيخ الكتاب أبى عثمان الجاحظ ملتمساً عنده بعض العزاء. وسرعان ما اهتديت فى قلب المدينة الكبيرة إلى صبية كاللؤلؤ ليدلونى على مكانه فاستجابوا فرحين ومضوا أمامى وقد انقسموا إلى فريقين يرددون رائعة أبى الخطاب , عمر بن أبى ربيعة, تلكم القصيدة السيدة فى ميدان الغزل والإلفة التى – ويا للمفارقة- صبت الزيت على نار الغضب التى تأججت فى صدر الخليفة العباسى هارون الرشيد على البرامكة فأغمد سيوف زبانيته فى صدورهم فأسال دماءهم وأزهق أرواحهم:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد وشفت أنفسنا مما نجد
وكان أحد الفريقين يرددشطراً للبيت ويدع الشطرالآخر لترديد الفريق الثانى:
واستبدت مرة واحدة إنما العاجزمن لا يستبد
زعموها سألت جاراتها وتعرت ذات يوم تبترد
أكما ينعتننى تبصرنى عمركن الله! أم لا يقتصد
فتضاحكن وقلن لها حسن فى كل عين من تود
حسدا حملنه من شأنها وقديماً كان فى الناس الحسد
وعندما بلغوا هذا القدر من قصيدة أبى الخطاب كانت رحلتى إلى دار الجاحظ توشك أن تبلغ مداها فأشاروا إليها فى أدب جم وتواروا راكضين وقد تباعدت عن مسامعى أصواتهم الغضة الندية وهى تردد آخر ما أخذ طريقه إلى سمعى من تلك القصيدة:
غادة تفترعن أشنبها حين تجلوه أقاحى وبرد.
بددت براءة الصبية وأبيات أبى الخطاب بعض سحائب الغم والهم التى أخرجتنى من زمانى كله إلى زمان الجاحظ إلا أن مصير البرامكة الذى ارتبط بهذه الأبيات أثار حيرتى وقلت لنفسى كيف خرج سيف الفناء والموت من أكمام هذه الأزاهير الرقيقة المفعمة بالحياة والحب والأمل. وكيف عرفت سيرة البرامكة طريقها إلى السودان حتى أصبحوا فيه عنواناً للكرم والمرؤة. ترى هل تسلل بعض من نجا منهم إلى بلادنا وحلو ضيوفاً على مملكة علوة هذه التى كانت عاصمتها سوبا التى هى اليوم بعض الخرطوم؟ فاكرم كبيرنا وفادتهم فأقاموا ؟ علم ذلك عند ربى! قال شاعر الجزيرة الفذ (بابا) يمدح وجيهها الذى أشتهر بالكرم والعطاء, النعيم ودحمد:
يال أحييت سنن البرامكة عاجبنى طول أيدو سامقة
يا بابا قول
ورحم الله مغنى التراث الحاذق خلف الله حمد.
عند هذا الحد تبددت أكثر غيوم الكآبة الحالكة وأبت نفسى أن تعود إلى ما كانت عليه من كدر وألفيتنى أعود مجدداً متأملاً ابيات ابن أبى ربيعة فى رقتها وحسن سبكها بعيداً عن نكبة البرامكة وساقتنى إلى مثيلاتها من أبيات الموشحة المشهورة عندما استرخى الوجدان العربى وقد فرغ من رهج السنابك وصليل السيوف فى المعارك واستراح يحصد الفئ على شواطئ دجلة والنيل وبردى وفى سهوب أسبانيا الممتدة التى كان اسمها يومذاك بلاد الأندلس:
ساحر المقلة معسول اللمى جال فى النفس مجال النَفَس
سدد السهم وسمى ورمى ففؤادى نهبة المفترس
ولله در أبو عبد الله الخطيب.
وانزلقت الذاكرة من زمان الوصل بالأندلس إلى كسلا (الوريفة الشاربة من الطيبة ديمة..) حيا الله الحلنقى واللحو.وذكرت عندئذ قصيدة شارك فى نظمها أفذاذ ثلاثة الدكتور جعفر ميرغنى,الدكتور عبد الله الطيب والأستاذ الشاعر سيد الخطيب:
رشا أدار بخصره زنارا ترك الفؤاد بلحظه أعشارا
شاقتك قسمات البداوة والصبا والحسن أُلبس حلة وخمارا
بالله ياعم.. استهل بنغمة أخذت إلى القلب الشفوف مسارا
أضاف سيد:
وعلى طريح الهاشمى حمائم تسبيك طلعتهن أن تشتارا
وقيل إن عبد الله الطيب عندما علمأن تلميذه يحسن مثل هذا القريض, أضاف إليه بيتاً:
رشا أدار بخصره فأدارا رئيس (الفقير) فنغم الأشعارا
أزاحت هذه الذكرى شيئاً آخرمن كدر الأحزان وأنعشت ذكريات الصبا الباكر فى ستينيات القرن الذى مضى الروح والفؤاد. كيف صفا الود يومها وطاب العيش ونحن يومئذ صبية قليلو تجربة وزاد لا نملك من الدنيا سوى قلوب ما لامس شغافها إلا الطهر الخالص والنبل الرصين.
كنت عند هذا الحد من حديث النفس قد بلغت باب الدار فطرقته فجاءنى غلام الجاحظ محيياً ثم اصطحبنى إلى حيث يجلس أبو عثمان الذى قام لتحيتى فلما رأى أن سمرتى تضاهى سمرته الداكنة بادرنى بالتحية مداعباً: مرحباً بابن العم!
تأملت الجاحظ وحجبت عنىروحه الفكهة الراضية ما قيل عن دمامة خلقته وجحوظ عينيه.وآنسنى أكثر لونه الذى يحكى لون (الشوكلاتة) وبدا لى وكأنه من أهلنا المحس فى جزيرة (صاى) أو (عبرى) أو (بدين) وخلته يقلقل حرف الدال مثلهم عندما ينطقون (بدين) أو نحوها.
قال لى: كيف تجشمت مشاق السفر عبر القرون والأزمان والأمكنة وفيم ذلك كله وقد بلغنا أن العامة فى زمانكم بل المتسكعين بلا أهل ودار يرفلون فى حلل النعيم وينعمون بنوع من العيش الرغيد وبتقانات تحيل برد الشتاء القارس فى دوركم وأماكن عملكم إلى دفء حبيب وحر القائظ إلى زمهرير لطيف والسفر عندكم غدا على أجنحة طير من الحديد تطوي بكم الفلوات... وهذه صنوف من النعماء لم تدر على سلاطيننا وأمرائنا بخلد دع عنك السوقة والدهماء ورغام الناس.... فم الذى جاء بك برب الثقلين , وعزاء ماذا هذا الذى تلتمسه فى زمان ليس بينه وبين زمانكم من سبب؟!
قلت جئت استقصى الأسباب فى بؤس كلماتنا العاطلة عن التعبير لأعرف السر فى الحياة والحيوية التى ميزت كلماتكم وكلمات المتقدمين فى الشعر والنثر معاً فإنه يخيل إلينا أن كلماتكمكانت تتدافع عجلى من أسنة الأقلام وهى تحمل دفء مشاعركم إلى سطح القراطيس فتستريح عليها : إماراقصة أو باكية ثاكلة تتأوه من الألم وجور الزمان أوربما ضاحكة غارقة فى بحور المرح والحبور والسرور فتثير فى قرائها كل ذلك ويزيد مما لا يخطر على بال ولا يجول فى مضمار فالناس تسقط على كلماتكم وعلى كلام كثير من المتقدمين المجيدين من وجدانها وتجاربها ما تشاء , فيبكى الحزين المحروم من بكاء الكلمات هجر الحبيب وتنكر القريب ونسيان الصديق وقد يضحك وهو يريد البكاء من فعل أولئك جميعاً وهو يرتد عن إيمان راسخ فى خيرية الآخرين إلى قنوط من وجدان الخير جملة واحدة متمثلاً قول أبى الطيب:
والظلم من شيم النفوس وإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
وربما سلك الرجل مسالك القانطين العيابين ومثل هذا النفر من القراء والمتلقين قد تشتد به وطاة الأزمة فينتهى إلى ظلمات العبثية فينكر المعروف ويحتفى بالمنكر وقد يتجاوز ذلك فتصبح عنده الحياة والموت سيانوالفرح والأحزان من قبيل المترادفات وهو إذا بلغ هذه الدرجة قد تستفزه مواقف المأساة والتراجيديا عندنا فيغرق فى الضحكوقد يأسى لأفراحنا ومظاهر حبورنا فيذرف سخين الدمع على غفلتناوسخافة مشاعرنا وسذاجة أحاسيسنا. ومثل هذا التعيس إن حالفه الحظ وحسن الطالع ومديد الفال, عددناه من أهل الحكمة العارفين, أهل الباطن والأسرار يرى بحديد النظر الثاقب ما لا نراه نحن أهل (الثخانة) الظاهرية التى تثير غثيان جان بول سارتر. وربما بوأناه من أنفسنا منازل القديسين فجعلناه يسرى بيننا سريان النسيم العليل فى الصيف الحارق لا يعكر صفو غربته الروحية معكر. أما إن كتب عليه الشقاء وصادف يومه يوما عبوساً من ايام النعمان, دفعنا به إلى شيخ ليخرق إهابه بالضرب وروحه بالإهانة توطئة لطردشيطانه اللعين!
أطرق الجاحظ ملياً ثم رفع راسه قائلاً: أحسب انكم تجيدون الكتابة نثراً وشعراً إذا بكيتم حالكم الماثل أو ماضيكم الوضئ الذى هو حاضرنا نحن ولعلكم تحسنون البكاء أيضاً إذا أستشرفتم بعين الخيال مستقبل أيامكم فلم ترو فيه إلا مصارع أيامكم وغلبة عدوكم ودوران الأيام عليكم لا لكم.
قلت :ربما ولكن لِم؟
قال: لأن الكلام صفة المتكلم كما يقولون. وأنتم معشر أهل الضاد لا تملكون فى زمانكم هذا سوى البكاء. إذا بكيتم بكيتم بصدق لأنكم تبكون مجداً غابراً وذيلية فى مؤخرة الركب لا يصلكم فيها سوى غبار القوم وفتات طعامهم والساقط من أدبهم وفنونهم. ما أيسر يا صاحبى أن تبكى اليتامى! والشعراء والناثرون فى مثل هذه الظروف يفقدون كلوظيفة نبيلة ويغدون كالثاكلات وأغربة البين لا يحيون فى مجتمعاتهم إلا الجراحات والمآتم. تأمل قول القائل:
غراب البين حلبدارنا فبكى لصوت بكائه باكينا
قلت حانقاً: لا افهمك ابداً فكأنك تقول إن أجل الفنون ماحاكى الواقع. والفنون فى أصلها محاولات تحليق ومفارقة للواقع, محاولة خلق عالم مسحور غير العالم المعمور, ألم تقولوا لنا إن اصدق الشعر أكذبه! ثم أليس أعظم ما فى أشعار زمانكم ومنثورها ما هوم بعيداً باجنحة الخيال؟
قال الجاحظ وهو يربت على كتفى: التهويم باجنحة الخيال يا بنى ينطلق دوماً من قاعدة للواقع صلبة وعريضة, فيوم أنطارت أجيالنا بأجنحة الخيال فى شتى ضروب الفنون والآداب كنا نرتكز على تلكم القاعدة الصلبة العريضة. ففى السياسة كان يجلس أميرنا فى فناء قصره على أريكة يتحدى السحابة الماطرة: ( أمطرى حيث شئت يأتينا خراجك!) وكان خراجها يأتيه صاغراً يجرجر أذياله. وفى حواضرنا كانت الجامعات تستقبل طلاب العالم من أقاصى الأرض يفدون إلى بلادنا يغرفون من بحور المعارف وأنهار الحكمة العذبة ثم يعودون من حيث أتوا يحملون بعض بصماتنا وشيئاً من أمزجتنا. وكنا نحن فى المقابل نتصيد كل حكمة ومعرفة فترجمنا جل فلسفة اليونان ونظم الإدارة والمال من مواريث الفرس والهند وبحثنا عن الطبوالأعشاب فى كل مكان بلغته السفن والدواب. وما لبثت العلوم أن تلفحت بردائنا وتزينت بزينا وتحدثت بلساننا العربى المبين.
واستطرد الشيخ الأديب الفقيه العالم: كنا يابنى نملك ناصية الزمان فى كل شئ فطلعت على الدنيا حروفنا مرتاحة على هذا الرصيد الضخم من الريادة فجاءت فنوننا فى الإضحاك والمؤانسة والتطريب لا تحاكى الواقع الصلد الثخين كما توهمت أنت مقاصدى لكنها جاءت تحاكى حياة الوادعين الواثقين الذين يأخذون بخطام الحياة كلها على جادة الطريق لا يخيفهم عدو ولا ترهبهم مسغبة ولا يعانون فى دواخلهم وجع الهزيمة يطلقون الأعنة كلها لأخيلتهم تذهب حيث شاءت لا يبالون.
قلت: لقد زدتنى كدرا على أكدار فكأن الحياة لا تدب فى كلماتنا وفنوننا حتى نبلغ فى الرقى والريادة مصاف أمريكا.
قال: ليس كذلك تماماً فالفنون تصدق بمقدار ما تملكون من أقداركم فالظل يستقيم بإستقامة العود. والمعارف العديدة والتقانات الرائدة فى زمانكم تعود عليكم بالنفع بقدر تمثلكم وترويضكم لها عبر سياقاتكم وحاجاتكم وبالقدر الذى تضرب غراسها فى أرضكم.
عند هذا الحد أيقنت بأنى قد أكثرت على الشيخ فاستأذنت منصرفاً عنه عائداً إلى عالم الألفية الثالثة وفى النفس بقية من أكدار يخالطها شئ من أمل بثته كلمات الشيخ فى الروح والوجدان وشئ من السعادة برؤية بغداد وجامعتها,( هارفارد) ذلك الزمان.وبغداد القرن التاسع الميلادى لمن لم يتشرف بزيارتها بعد, عليه السفر إلى فاس القديمة فى المملكة المغربية فتلك مدينة فرطها قطار الأزمنة فقبعت حيث هى فى العالم القديم ببساطتها وطيبة أهلها فهى بعض بغداد القديمة. فزوروها إن شئتم!
(نشرت هذه المقالة لأول مرة فى العدد الثالث من مجلة فضاءات دولية العدد الثالث يونيو-يوليو 1999)
////////////