إضاءات خاطفة في حياة التيجاني الطيب … بقلم: حسن الجزولي

 


 

حسن الجزولي
11 January, 2012

 


* كتيبة نساء ورجال مجهولة  تغامر ذوداً عن حياته!.

(1)
الخرطوم صباح 18 نوفمبر 1981:-
في أمسية اليوم السابق للتاريخ أعلاه، وفي حي شعبي بالديوم الشرقية في الخرطوم، حدثت واقعة إغتيال سياسي لأحد الكوادر القيادية لتنظيم أرتري ضمن التنظيمات المتواجدة لهم بالسودان، ويبدو أن الحادثة لها علاقة بالخلافات السياسية التي وصل مداها حد التصفيات الجسدية بين التنظيمات الأرترية وبينها البعض.
جدت "أجهزة الأمن" المتعددة في تلك الفترة بحثاً – وضمنها بالطبع أجهزة نظام الرئيس الاثيوبي منقستو هيلي ميريام وقتها، إلى جانب كافة أجهزة مخابرات التنظيمات الأرترية المعادية لنظام هيلي ميريام والمختلفة فيما بينها - عن أي خيوط أساسية تصل بها لمنفذي جريمة الاغتيال، ويبدو أنه في بحث " أجهزة أمن النميري" تجمعت لديهم معلومات عن منزل بعينه في أرض الحجر بمنطقة الديوم الشرقية ويقطنه مواطن يعيش لوحده، وأفادت معلومات أخرى يبدو أنها اجتهدت في التحصل على المعلومات، بأن الساكن من المؤجرين في الحي فقط  ولا علاقة له به.
ولأن نظام النميري المايوي، كان يعيش دوامة مستدامة من عدم الاستقرار والتقاط الأنفاس، فقد تم اقتحام سكن ذلك المواطن دون سابق إعلام أو إنذار، وعندما لم يجدوه بالمنزل مكثوا به منتظرين، حين عودة طه أبو زيد، وجدهم منتظرين.
بعد التحقيق المكثف معه بمكاتب جهاز الأمن الذي أخذوه إليه، إتضح للمحققين أن المواطن "طه أبوزيد" وحسب ما أدلى به من معلومات عن نفسه، لا علاقة له، لا من قريب أو بعيد، بجريمة ذلك الاغتيال الذي حدث في ذلك الحي، وأنه ليس سوى تاجر سوداني الجنسية، ويسعى بتجارته بين الخرطوم ومدن السودان المختلفة، في الحبوب والبقوليات، فقط!.
رفع الضابط المناوب كل تقريره والذي يحتوي على كامل المعلومات المشار إليها، لقائده الأعلى، بينما أودع المواطن طه غرفة للانتظار، بدلاً عن الزنزانة الكئيبة التي كان محبوساً فيها، ريثما يتلقى من قائده الأعلى، تعليمات بإخلاء سبيله. وكان سيادة الضابط المناوب متأكداً من ذلك!. لسبب ما أجل قائده الأعلى الامضاء على الأوراق التي أمامه، والخاصة بما أسفر عنه التحقيق مع ذلك المواطن طه لساعات، على الرغم من أنه اطلع، على كامل الحيثيات التي وردت في التحقيق، وضمنها توصية الضابط المناوب، بإمكانية إطلاق سراحه من قبل القائد الأعلى، إلا إذا كان القائد الأعلى يرى غير ذلك!.
وربما هذا هو الذي حدث، كي تتلازم عجائب الصدف مع بعضها البعض وتكتمل، لم يرفع ذلك القائد الأمني بمكاتب أمن الدولة قلمه ليوقع على "تخليص" المواطن "طه أبوزيد" من تلك الأجواء الكئيبة!.
عند نهاية الدوام تناول القائد الأعلى أوراق المواطن طه أبزيد وقرأءها للمرة الثانية .. تناول القلم وهو يهم بالامضاء.. وضع طرف القلم على نهاية التقرير .. بدأ يحرك أطراف القلم بين أصابعه .. خطر له خاطر ما جعله يضع القلم وهو يحدق في فراغ أرضية مكتبه .. بدا وكأنه موزع ما بين التفكير على نحو ما والشرود إلى أمر ما! .. نهض على الفور مقرراً الذهاب  ليرى بنفسه، مجرد رؤية فقط، ذلك المواطن قبل أن يوقع للمرة الآخيرة على أوراق إطلاق سراحه!.
وعندما دلف لغرفة الانتظار، هناك كانت بانتظار القائد الأعلى للضابط المناوب، وكافة  أجهزة أمن ودولة النميري، مفاجأة من العيار الثقيل!، حيث وما أن فتح الضابط ذو الرتبة العسكرية الرفيعة - والمتمرس على العمل الأمني منذ سنوات الحكم العسكري الأول، وله فيها دراية ومعرفة، خاصة فيما يتعلق بملف "النشاط الهدام" وقانونه الخاص بالشيوعيين وحزبهم - حتى ألجمته المفاجأة، عندما وقعت عيناه على الرجل الذي كانت أجهزة نظام مايو والنميري تجد في البحث عنه منذ إنقلاب 19 يوليو 1971!، ولا يهدأ لها بال وهي تواصل الليل بالنهار في سبيل القبض عليه بكل الوسائل، وتوزع مزيداً من تلك الصور الفتوغرافية التي تضمه مع رفاقه "نقد – الجزولي - سليمان" على ملصق يندر وأن تصدره أي من وزارات الداخلية العربية أو الافريقية - دون الأوروبية بالطبع، بما في ذلك  أوكامبو وجنائيته الدولية!- وبالتالي لا يمكن لمثل ذلك الملصق، أن يقع في عين أي مواطن من تلك الدول، اللهم إلا هواة السينما الذين يعشقون أفلام "الويسترن والكاوبوي الأمريكي"!، بحيث أن الملصق قد جاء على " نسق" الملصقات التي توزع في أفلام الكاوبوي وهي تحمل صورة خارج على القانون وتحتها وبالبنط العريض بنداء يقول" مطلوب القبض عليه حياً أو ميتاً"!.
إتكأ الضابط الرفيع على باب غرفة الانتظار وهو يستجمع ما تبقى من أنفاسه المتقطعة، من هول المفاجئة التي ألجمته، وهو يقول للمواطن البرئ  - براءة الذئب من دم ابن يعقوب - والذي جرت التوصية بإطلاق سراحه:
:-  معقولة بس؟! .. إنت بي جلالة قدرك؟! .. ومعانا هنا في الجهاز؟!.
في صباح اليوم الثاني كانت مانشيتات صحيفتي الأيام والصحافة، المملوكتين للاتحاد الاشتراكي، التنظيم الأوحد بالبلاد وقتها، وضمنها أغلب الصحف العربية والأجنبية، تتبارى في الاعلان عن الخبر الرئيس الذي ورد في مينشيتاتها العراض .. إعتقال التيجاني الطيب بابكر القيادي الأبرز في الحزب الشيوعي السوداني والذي ظل مختفياً منذ إنقلاب 19 يوليوعام 1971 بإسمه الحركي "طه أبو زيد"!.
(2)
الخرطوم صباح يوم 23 يوليو 1971:-
قبل تلك الواقعة بحوالي عشر سنوات، وفي  التاريخ المشار إليه أعلاه فجراً، وبعد يوم عصيب من تداعيات فشل الانقلاب العسكري الذي قاده الرائد هاشم العطا ضد نظام اللواء جعفر النميري في ظهيرة 19 يوليو، وما أن حلً وقت الانعتاق عن مواعيد حظر التجوال الذي كان قد تم فرضه في تلك الأيام، حتى كانت عربة ملاكي بعينها تحث السير نحو مدينة الفتيحاب جنوب أم درمان، وقد كان على متنها شخصان، السائق والراكب بجانبه، توقفت العربة أمام منزل بعينه، ليترجل منها الراكب المرافق لسائق العربة، وطرق الباب، ليخرج إليه صاحب المنزل، أحمد فضل المولى محمد أبو عاقلة، المعلم بوزارة التربية والتعليم وقتها، وعضو الحزب الشيوعي السوداني، والمستهدف هو الآخر من قبل أجهزة أمن النميري، فيفاجأ بأن الطارق هو التيجاني الطيب!، يحتضنه بشده مرحباً به، فيقوده التيجاني إلى سائق العربة الذي ترجل منها في ظلمة تلك الليلة، لتأتي لصاحب المنزل المفاجأة الثانية في تلك اللحظات، حيث أن السائق لم يكن سوى الجزولي سعيد الذي كان يعتمر جلباباً وعمامة، تماماً كالتيجاني، وقد كانا ضمن من كانت أجهزة نظام النميري، وهو العائد للسلطة والشرور تتطاير من عينيه، وسلطته تبحث عن قيادات الحزب الشيوعي، رغبة في الانتقام والتشفي، وتسعى جاهدة للقبض عليهما ضمن قيادات الحزب الشيوعي السوداني الذين أعلنت عن طلب المساعدة أو المشاركة في القبض عليهم!. والمذيع فى راديو أمدرمان، يطلب من كافة خلق الله فى أنحاء السودان، المساعدة أو المشاركة فى القبض عليهم، وكانا قد وصلا إلي منزل الأستاذ أحمد فضل المولى، الذى كان أيضا مطاردا من أمن نميرى.
رحب بهما صاحب المنزل وقادهما لداخل المنزل. وخلال ذلك أجرى فضل المولى بعض الاتصالات التي أسفرت عن التحرك الفوري بهما من منزله إلى مكان "أقل هشاشة" من ناحية التأمين عن وضع منزله في تلك الظروف!.
إنتقل بهما أحمد فضل المولى إلى منطقة الصحافة، إلى منزل معارف له، هما كل من "م. ك" المجند برتبة الرقيب بالقوات المسلحة وزوجته، ثم "ع ك" وزوجته أيضاً والذين تجمعهم صلة قربى مع بعضهم البعض.
دلف أحمد فضل المولى بضيوفه إلى صالون المنزل، ثم ذهب إلى حيث أقرباءه وأتى بهم مع زوجاتهم إلى داخل الصالون والذي به كل من تيجاني والجزولي، قائلاً لهم جميعاً وكمن يود أن يزيح عن صدره  لمرة واحدة سراً متعباً:-
:- ديل تيجاني الطيب والجزولي سعيد وإنتو عارفين هم منو والسلطات بتبحث عنهم، حا يقعدوا هنا معانا يومين تلاتة!.
لحظتها تقدم وعلى الفور الرقيب "م.ك" وهو يمد يده نحوهما بالتحية والترحاب قائلاً بكل طيبة وشهامة أولاد البلد:
: حبابكم عشرة!.
كذلك تقدم "ع ك" مرحباً بهما وهو يقول مبتسماً:
: حمدالله على السلامة!.
وهكذا مكث كل من تيجاني والجزولي بضعة أيام في ذلك المنزل، لينتقلا منه بعد فترة وجيزة إلى مكان آخر!.
يقول التيجاني الطيب وهو يوثق لتلك الأيام بأن" الحالة التنظيمية للحزب قد بلغت أدنى مستوياتها في تلك الأيام الصعبة. كان بالفعل قوة معنوية هائلة تلهم الذين بقوا أحياءً وخارج الاعتقال، ولكن بلا تنظيم، كنا معاً، الزولي سعيد وأنا ومعنا بعض الزملاء، ثلاثة أو أربعة، من مواقع متفرقة. كان الهم الأول هو المحافظة على كل من يعثر عليه، ومواصلة البحث عمن يكون قد فلت من بين مخالب الردة، كانت عملية البحث شاقة ومحفوفة بالمخاطرفي كل لحظة. ولكن بالتدريج، وإن كان ببطء شديد ، أخذت عملية البحث تؤتى ثمارها. ظهر فاروق زكريا وسليمان حامد ويوسف حسين ونقد وأنور زاهر ومحمد محمود السنجك وغيرهم. واتضح هم أنفسهم كانوا، من جهتهم، يبحثون عنا ".
كان المنزل الذي أشار إليه التيجاني هو منزل الراحل جلال الحافظ، المواطن الشهم الشجاع الذي استقبل إلى جانب تيجاني والجزولي عدداً آخر من الكوادر القيادية للحزب الشيوعي والمتوارية عن الأنظار- وهو ليس عضواً بالحزب الشيوعي - ومكثوا جميعهم في ذلك المنزل. ووقفت في خدمتهم الزوجة الراحلة أيضاً والتي وإمعاناً في صد الشكوك عن المنزل وتبديد المخاوف، لم تتوانى في الانضمام لوحدة الاتحاد الاشتراكي وتنظيم ما كان يسمى باتحاد نساء السودان بالحي الذي كانت تقطن به، وهي التي تمقت نظام مايو وكل ما يمت بصلة له وللنميري!، كما لم يتوانى زوجها في الانضمام للوحدة الأساسية للاتحاد الاشتراكي بحيه، وهو الذي يمقت نظام مايو وكل ما يمت بصلة له وللنميري!.
لم يكن ذلك المنزل بأحسن حالاً من سابقه، حيث كان لا يوفر – إلا بالكاد -  حتى الحدود الدنيا من الأمان لاولئك الذين لجأوا إليه، ولكنه مع كل ذلك كان المكان الوحيد بالنسبة لهم الذي توفرت فيه إمكانية اللجوء، حتى ولو لبضع ساعات " حتى تمر العاصفة"!، وقد شهد الراحل الخاتم عدلان بهذا عند حديثه عن تلك الظروف، فقد أشار إلى" أن قادة الحزب الآخرين، وتحديداً الأساتذه محمد إبراهيم نقد والتيجاني الطيب بابكر والجزولي سعيد وسليمان حامد، إختفى كل منهم بطريقته الخاصة، واجتمعوا فيما بعد، من فرط ضيق الامكانيات، في غرفة واحدة أقاموا فيها عدة أشهر، في منزل لايمكن أن يقال عنه بأية حال من الأحوال أنه منزل "سري"، وفي وضع بالغ الهشاشة كان يرشهحم فرادى ومجتمعين للوقوع في يد السلطة، وربما الانتهاء إلى نفس المصير الذي انتهى إليه عبد الخالق محجوب".
يوضح التيجاني الطيب بأن الجهود في وجهة تجميع قيادة الحزب، قد بذلت من داخل المنزل المشار إليه، حتى تكللت الجهود ما بين " أواخر أغسطس وأوائل سبتمبر 1971م كي يتوفر لنا الحد الأدنى من إمكانية التنظيم. وفي سبتمبر، بالتحديد، أمكن للجنة المركزية عقد أول اجتماع أعطى العمل المنظم دفعة كبيرة ".
ما أشار إليه الراحل تيجاني أعلاه شكل الظروف التي صدر فيها ما سمي لاحقاً في أدبيات الحزب الشيوعي بـ "بيان الاستقلال"، وهو البيان الذي صدر في أعقاب دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في سبتمبر- نوفمبر 1971، والذي تصدت فيه القيادة لـ"مهمة بقاء الحزب"!، وقد الهم ذلك البيان بالتحديد آلاف الشيوعيين والقوى الديمقراطية والصديقة للحزب وأعطتهم ولأول مرة قوة معنوية وطاقة من الطمأنينة، ببقاء الحزب رغم حمامات الدم الكثيفة التي طالت قياداته المدنية والعسكرية معاً، خاصة تلك الفقرة التي ما يزال كثير من الشيوعيين يحفظونها عن ظهر قلب:-" برغم الانتكاسة الانقلابية الدموية، وانتصار الثورة المضادة، برغم حمامات الدم والارهاب الأسود، برغم ما فقدنا من قادة قلً أن يجود بهم الزمن، برغم صيد الوحوش الذي تمارسه عصابة الردة لاعتقال الشيوعيين والتقدميين والديمقراطيين من كل مدن السودان وقراه – نواصل نحن الذين بقينا على قيد الحياة حتى الآن على الأقل – مهمة الحفاظ على بقاء الحزب الشيوعي السوداني وحمايته، والحفاظ على راية الثورة الوطنية الديمقراطية، الحفاظ على أعلام الديمقراطية والاشتراكية". والذي تمت فيه الاشارة بوضوح وتحدي بليغ إلى أن:-" الحزب الشيوعي السودان لن يباد، وأن الحاكم الذي يحلم بإبادة الحزب الشيوعي السوداني، لم تلده أمه بعد!".
حينها كتب شاعر الشعب محجوب شريف قصيدته التي تسللت من داخل أسوار المعتقلات، مهللاً فيها ومبشراً، بآفاق النصر وصعوبة مهمة سحق الحزب الشيوعي السوداني من الوجود في أوساط الشعب السوداني:-
" سجل انحنا برغم جرحنا اجتزنا المحنة .. ونحنا الليلة أشد ثبات"!.
علماً بأن الشاعر محجوب وهو ينفعل بتلك الأجواء والظروف من داخل سجن كوبر وحتى ذلك الوقت، لم يكن عضواً بالحزب الشيوعي ولم ينضم له بعد، إلا لاحقاً أثناء فترة إعتقالات يوليو تلك!.
كرت السنوات كرً المسبحة، لتصل بنا إلى العام 1981، وفيه يأتي ذلك المساء الذي تعرضنا فيه لاعتقال التيجاني الطيب من منزله الذي كان مختفياً فيه من حي الديم الشعبي بأرض الحجر، بعد شكوك حامت حول منزله في أعقاب إغتيال أحد القادة الأرتريين في ذلك الحي، لا أكثر ولا أقل، وحين عودة التيجاني للمنزل، وجد مجموعة من رجال الأمن في انتظاره وهم داخل منزله!.
تداعت أحداث إعتقاله كما سبق وأن فصلنا أعلاه، وبعد أن تعرفوا عليه، تم حجزه بالحبس الانفرادي بزنازين جهاز أمن الدولة، ثم قدموه لمحاكمة تاريخية، تمنوا فيما بعد لو أنهم ما أقدموا على عقدها!.
أثار إعتقاله ومحاكمته حملة تضامن عالمية واسعة إقليمياً ودولياً، وبُعثت عشرات برقيات الاحتجاج على ذلك العسف والمطالبة بأطلاق سرحه الفوري، والتي حملت سلطة النميري الدموية، المسئولية الكاملة إن جرى له أي مكروه من قبلها، وقد وفدت من معظم أرجاء العالم من قبل شخصيات معروفة وبارزة، إضافة لصحفيين وكتاب وفنانين ورجال ثقافة وسياسة!.
وقف في ساحة المحكمة التي عقدت له مجلس مؤلف من عشرات المحامين الوطنيين من كافة الاتجاهات السياسة للدفاع عنه. تصدى التيجاني الطيب في مرافعته أمام محكمة أمن الدولة التي مشت - بشأنها الركبان في كل مكان وزمان- بالفضح الشامل للسلطة، " متحدثاً عن التاريخ الوطني للشيوعيين ودافع عن الحريات الديمقراطية وحق تكوين الأحزاب وحرية التعبير ". ومما جاء في مرافعته تلك:-
" بهذه المحاكمة أقف مرة أخرى في الصف الطويل من الوطنيين والديمقراطيين السودانيين الذين قادتهم أفكارهم ومواقفهم إلى المحاكم منذ عهد الاستعمار بموجب قوانيين تصادر الديمقراطية وتجعل من ممارسة حقوق طبيعية، كحق التنظيم والتعبير، جرائم تستحق العقاب. ولقد ناضل شعبنا طويلاً ضد الاستعمار وقوانينة الخانقة وقدم تضحيات جمة في سبيل سودان حر ديمقراطي. وبعد الاستقلال وهو يناضل في سبيل التغيير الاجتماعي، لم يتوقف شعبنا قط عن النضال في سبيل الديمقراطية. و الواقع أن تاريخ حركة شعبنا السياسية والاجتماعية عبر عشرات السنين هو تاريخ نضاله من أجل حقوقه وحرياته، وثورته في أكتوبر وهي أكبر حدث في تاريخه المعاصر كانت ثورة للديمقراطية. هذه هي الارادة الحقيقية لشعبنا. إن النظام الراهن يعمل بكل السبل والوسائل لقهر هذه الارادة بحكم الفرد ونظام الحزب الواحد، و قانون أمن الدولة وقوانيين النقابات والصحافة وبأجهزة مختلفة للقمع. ومن أبرز سبل ووسائل القهر قانون أمن الدولة وجهاز أمن الدولة الذين بهما تمارس السلطة اضطهاداً لا مثيل له بالمواطن، و تسعى إلى تجريده من انسانيته وتقتحم حرمة شخصه وسكنه، تحاربه في رزقه و تعتقله أمداً غير محدود و تستخدم العنف ضده إلى حد اطلاق الرصاص عليه بقصد قتله إذا اشترك في اعتصامات أو مظاهرات مهما كانت سلمية. وهى مطلقة اليد آزاءه كمتهم ، فهو محروم من حق الافراج بالكفالة أياً كانت التهمة، و يعامل حتى قبل بداية التحقيق معه بأسوأ مما يعامل السجناء المدانون، و كثيراً ما يتعرض للتعذيب البدني والنفسي لقسره على الادلاء بمعلومات أو اعترافات. والسلطة تطلق لسانها ضد المواطن كمتهم أو معتقل أو معارض بافتراءات يعاقب عليها في بلد يسوده حكم القانون، كما تحاكمه بأجهزة اعلامها وتدينه، وهذه كلها حقائق يعرفها الرأي العام وقد عشتها كتجربة ذاتية خلال الشهور العشرين الماضية. وعقب اعتقالي مباشرة نشرت الصحف تصريحات أسنتدها لمسؤولين في جهاز أمن الدولة تتهمني والحزب الشيوعي بالعمالة لجهات أجنبية ويوم عشرين يونيو الماضي نشرت جريدة الصحافة حديثاً ادلى به رئيس الجهاز لصحيفة مصرية قال فيه كان الشيوعيون يتلقون تعليماتهم دوماً من جهات أجنبية. كمواطن نذر حياته بتجرد لوطنه و شعبه، لا أجد ما أصف به هذة الافتراءات سوى أنها رخيصة وجبانة. و لقد عرضت علي لجنة التحقيق مئات الوثائق التى تخص الحزب الشيوعي في سياساته الداخلية والخارجية. وقدم المتحري نماذج منها كمستندات أمامكم، و لكنها لم توجه لي سؤالاً واحداً ولو بطريقة غير مباشرة عن تعليمات تاتي من الخارج أو اتهاماً بالعمالة ولم تبد صحيفة الادعاءات شيئاً من ذلك. أما الحزب الشيوعي، فإن له تاريخه المعروف في نضال شعبنا، وفي أغسطس هذا يكمل عامه السادس والثلاثين، وقد صادم الشيوعيون حكومات مختلفة ووقفوا كثيراً قياديين وقاعديين أمام المحاكم، ولكن لم يحدث قط أن قدموا للقضاء بتهمة العمالة، لا لانه لم يوجد دليل وحسب، بل وببساطة لانه لا يوجد ولا يمكن أن يوجد مثل هذا الدليل".
وقبل تقديمه لتلك المحاكمة وفي سبيل دمغه بالعمالة قام جهاز الأمن بتلفيق صورة فوتوغرافية لـ "جهاز تلفزيون" تم تصوير خلفيته لحظة اعتقاله ، ونشر تلك الصورة مع خبر الاعتقال في الصفحات الأولى لصحف الاتحاد الاشتراكي حينها وقد كتب بالبنط العريض تحت الصورة”  جهاز إتصال للحزب الشيوعي تم ضبته مع المتهم لحظة إعتقاله!”، وبالطبع  لم ينتبه نظام مايو إلى أن كل ذلك قد زاد من الشكوك حول مصداقيته وعدم نزاهته، فبائت محاولات دمغ الضحايا بما ليس فيهم بالفشل والخذلان!.
(3)
أم درمان مساء 6 أبريل 1985
قضى في معتقلات النظام المايوي منذ تلك المحاكمة، أكثر من خمس سنوات بسجن كوبر، وأطلقت سراحه الجماهير التي هدرت في انتفاضة أبريل وزحفت نحو سجن كوبر فأزاحت القضبان وأطلقت سرح المعتقلين، فشمخ تيجاني بروحه النافذة للشمس والحياة وسط الجموع التي دكت ثواقل الحديد وهدرت!، وفي المنحى حكى أحد قفشاته المتعددة .. قال أنه عندما عاد لمنزله بحي العرب بأم درمان، إنتظر حتى يخف الضيوف عن باحة المنزل، وعندها راقت له فكرة طالما اختمرها وهو بالمعتقل، أن يخرج ويطوف راجلاً لوحده بأنحاء أم درمان وهو يمنى النفس بأن يلتقي وجوهاً من المدينة تعرفه ويعرفها، ليقالدها ويسالمها!، وبالفعل خرج وطاف أرجاء بعض الأماكن التي استطاع الطواف حولها، فلم يصادفه أي وجه مألوف ليقالده ويسالمه حسب رغبته التي ادخرها طيلة سنوات اعتقاله!، وعندما يئس قال أنه عاد أدراجه بخفي حنين، وعند اقترابه من المنزل في طريق العودة قال أنه – وللغرابة- التقى آخيراً بأحد المعارف، ولكنه كان أحد المعتقلين من زملاءة من الذين قضى معهم بالسجن سنوات طويلة وأطلق سراحه معه في صبيحة نفس يوم إطلاق سراحه!.
(4)
أم درمان صباح 30 يونيو 1989
تداعت الأحدث ثم حدث الانقلاب الذي دبرته الجبهة الاسلامية، ومرة أخرى يتعرض التيجاني الطيب لمواقف تراجيدية مع ذلك الوضع، خاصة فيما يتعلق باعتقاله!.
ففي أول ساعات استلام السلطه بواسطة الانقاذ انطلق طبيب موتور من "السلاح الطبي يدفعه الحقد واعتقل الزعيم التجاني من منزله، وبدلا من أخذه إلى المعتقل أخذه للمستشفى العسكري و من المؤكد انه كان ينوي السوء به!، ولسوء حظ ذلك الضابط أنه نسي كلمة سر الليل المتعارف عليها في أوساط الجيش، فيرديه الحراس قتيلاً "، لتكتب حياة جديدة للتيجاني!.
وليس آخراً يضطر لركوب الصعاب مرة أخرى، عندما يقرر الهروب من السودان لمصر بقرار حزبي!، وذلك عندما تأكد بأن النظام وقد وضع القادة الأساسيين للحزب الشيوعي في الاقامة الجبرية، ظل يحاصرهم حصار السوار بالمعصم!، ليسافر التيجاني سراً ضمن قافلة من الجمال إلى مصر، وفي الطريق يبلغ به الألم من بقائه على رسوة الجمل مدة طويلة، حداً جعله يجأر بالشكوي من تلك الآلام، فيضطر الجمالة إلى لفه على بطانيه و حمله كرحل بجانب صفحة الجمل حتى بلغوا به مشارف القاهرة!.
(5)
مستشفى الخرطوم يوم 29 ديسمبر عام 1973
يتوفى الزميل أحمد فضل المولي، بعد إعتقاله فى منتصف عام 1972، حيث بقي بالسجن تحت وطأة المرض وظروف اعتقال سئ لمدة سنة، وأطلق سراحه فى العام 73 بعد تمكن المرض منه ثم إصابته بامراض شتى. يتردد على المستشفيات أغلب أوقاته، وهو لم يكمل بعد عامه الأربعين، وجاء فى شهادة الوفاة " هبوط فى الكلى والقلب معاً "!.
(6)
لندن في يوم ما ..في عام ما!
يرحل إثر عملية جراحية نجحت لفترة المواطن الشهم جلال الحافظ
(7)
الخرطوم أواخر يونيو عام 2007
تنشر صحيفة الميدان على صفحتها الآخيرة نعياً بإسم رئيس التحرير الأستاذ التيجاني الطيب يعدد فيه مآثر الجندي الراحل "م.ك" وجمايله التي قدمها للشيوعيين وللحزب كمواطن صميم  رغم وظيفته الحساسة بالقوات المسلحة!.
(8)
أم درمان عصر الأربعاء 23 نوفمبر  2011
يتوقف قلب "طه أبوزيد" عن الخفقان بمنزله الشعبي المتواضع بالثورة الحارة الثامنة بأم درمان، وسط أسرته المتواضعة المكونة من زوجته السيدة فتحية بدوي، التي حملت معه عبء "الوعي والحلم والأمل" وابنته الوحيدة "عزة" وحفيداته الزهرات ثم صهره محمد خالد، "الابن الأكبر" له!. مع آلاف من بناته وأولاده في  دنيا وأرجاء السودان والسودانيين!.
وبعد ..
هذه بمثابة إضاءات خاطفة، على ضفاف مسيرة التيجاني الطيب بابكر، المفعمة بالاحسان للشعب.. وكذا بمثابة شريحة فقط من حياة رجل طيب، حي الشعور، بقسمات صارمة لطالما دوخ بها بوليس أمن الأنظمة الديكتاتورية المتعاقبة.. السري منها والعلني! .. له المجد والخلود.
__________
* عن صحيفة الميدان


hassan elgizuli [elgizuli@hotmail.com]

 

آراء