يقول الروائي الروسي الكبير ليو تولستوي: (لا يوجد إنسان ضعيف، بل يوجد إنسان يجهل موطن قوته.) تذكرت هذه المقولة لكاتب رواية "الحرب والسلام" ذائعة الصيت، والقنوات التلفزيونية ووكالات الأنباء تبث خلال الأيام القليلة الماضية صوراً حية لميارم وفتيان وفتيات محلية (نجيرتي تي) وهم يمارسون حقهم المشروع في رفض الحرب والدمار بطريقة حضارية أدهشت القاصي والداني. ولعل ما أثار دهشتنا جميعاً أنّ السلمية التي كانت أقوى الأسلحة في ثورة ديسمبر السودانية ، أضحت ركناً هاماً في ثقافة وعي الجماهير، ليس في عاصمة البلاد والمدن الكبرى حيث دائرة الوعي والتعليم أكثر اتساعاً فحسب، بل تسربت بهدوء إلى الهامش العريض في كل أنحاء البلاد. وهنا يصبح دور الوعي مفصلياً ليس في تقرير مصير إنسان الهامش فحسب، بل في تقرير اللعبة السياسية ولغة الجدل السياسي الذي انفرد به المركز فوق الست وستين سنة من عمر الدولة السودانية الحديثة. ليس مصادفة إذن أن يأتي ثاني أكبر اعتصام من حيث التعداد البشري وتسليط الضوء - بعد اعتصام شعبنا أمام القيادة- ليس مصادفة أن يأتي ثاني أكبر اعتصام من إقليم دار فور ، حيث تناقلت وكالات الأنباء العالمية ولأول مرة في تاريخ السودان الحديث أخبار حروب الإبادة البشرية. ولئن كانت حروب الإبادة في رواندا قبل نيف وعشرين سنة مجازر بين إثنيتين: التوتسي والهوتو ، فإن ما يجعل حروب الإبادة في دار فور خارجة عن نمط الحرب بمفهومها التقليدي في السودان أنها حرب تشنها دولة استبدادية على شعب من شعوبها. بل تبلغ الوحشية بالنظام الحاكم إلى خلق مليشيات في دار فور عمدت في تدريبها إلى إذكاء سلبيات التباين العرقي والنفخ في تلك المليشيات لتكون ذراعها في أقذر حرب عرفها تاريخ السودان الحديث. ما يدعو للتأمل والإنبهار في اعتصام "نجيرتي تي" أنّ ضحايا حرب الإبادة في هذه البقعة وفي محلية كتم - وهما من أجمل بقاع السودان من حيث الطبيعة الساحرة إضافة إلى خصوبة التربة – ما يدعو للتأمل والدهشة ، أن إنسان هذه المنطقة والذي لاقى الأمرين في حرب الإبادة والإغتصاب والتشريد- عرف أن لغة البندقية والحرب في السودان في طريقها إلى زوال بعد أن هزمت سلمية ثورة ديسمبر السودانية غطرسة البندقية وخيلاء الدبابة الأجوف. وبالطبع فقد جاء جيل جديد ولد من صلب المعاناة ذاتها التي ولد منها جيل شباب الثورة في سودان الثلاثين عاماً القاسية - هذا الجيل الراكب راس- ليحتكم إلى قاعدة جديدة في حل المشكل، قاعدة سلمية الثورة، وسلمية المطالب. أليس من المدهش أن تحمل الميارم وبناتهن أشهى الطعام ، إلى ساحة الإعتصام لضيوف المنطقة من المعتصمين والعسكر الذين يحرسون الإعتصام؟ إن العارف بتاريخ دار فور وعظمة إنسانها لن يدهشه هذا التصرف الحضاري أبداً. ولأننا لم نحظ بدراسة تاريخ وجغرافيا وفنون وآداب بلادنا إلا بمقدار ضئيل جداً ، ولأن هذا المقدار الضئيل من الإلمام بتاريخ وجغرافيا وفنون إنسان بلادنا جاءنا مشوهاً وضعيف الحيل، فإن الكثيرين والكثيرات من أبناء وبنات السودان ما كانوا يعرفون حتى قبل أسبوعين ما هي "نجيرتي تي" ، ولا في أي قبلة من أركان السودان الأربعة تقع! يجهل الكثيرون من أبنائنا وبناتنا أهم ما ينبغي أن يعرفوه عن الجغرافية البشرية والطبيعية لبلادنا، وقد جاء الوقت لتكون المعرفة بإنسان وتراب الوطن كله في صلب المقررات الدراسية لحقبة سودان ما بعد ثورة ديسمبر العظيمة. إن الحديث عن أهمية وعي الجماهير بحقوقها لا يعني شيئاً ذا أهمية إن لم نقم بتقديم الوعي من خلال الكتاب المدرسي ومنابر الإعلام الحر . وأعود لما جعلته عنواناً لهذا المقال بلفت النظر إلى نقطتين صارتا في حكم الأمر الواقع: أولاهما: لعل أهم ما قاله اعتصام "نجيرتي تي" والإعتصامات التي سبقته إبان سنوات حكم الإنقاذ الأغبر مثل اعتصام لقاوة عام 2014 ، لعل أهم ما قالته وتقوله هذه الإعتصامات في الهامش العريض أن عصر ترويع الشعوب تحت فوهة البندقية وهدير الدبابة في طريقه إلى النهاية إن لم يكن قد صار في حكم الماضي. والهامش العريض ليس إسقاطات تمليها نعرة جهة أو عشيرة وإنما هو واقع ملموس. وطبعا لسنا بحاجة للتنبيه بأنّ التهميش ليس مرتبظاً بموقع جغرافي بعينه ، فقد عانت كل شعوب السودان خارج المركز من تهميش جاء مع ميلاد ما عرف بالدولة الوطنية بعد الإستقلال جراء السياسات العرجاء لحلف النخبة المركزية والطائفة. نعلم أن كل أركان السودان طالها التهميش.. لكن التهميش نفسه (خشوم بيوت) كما نقول في دارجاتنا السودانية. فالشخص الذي كان حتى وقت قريب يسير عرياناً أو بأسمال تستر عورته فقط، ولم يسمع بمستوصف صحي أو قابلة قانونية، مثل هذا الشخص لا يمكن أن تضعه في نفس الخانة من التهميش مع شخص تم تهميشه لكنه على الأقل في حالة أفضل من حيث البنية التحتية: مدرسة وشفخانة ودكان إلخ.... النقطة الثانية : وهي في مكان المناصحة مع الإخوة حاملي السلاح أو الحركات المسلحة، وجلهم في غرب السودان (كردفان ودار فور ) وجنوب النيل الأزرق وشرق السودان. لا ينكر المرارة والمظالم التي دعتكم لحمل السلاح دفاعاً عن قضاياكم العادلة إلا جاهل بما يجري في السودان أو مريض ذو غرض. إذ ليس من طبيعة أي إنسان أن يحمل السلاح ليحارب حباً في الحرب وتعريض نفسه وعشيرته للموت. نعرف أنّ حمل السلاح كان آخر الخيارات التي دفعكم إليها نظام مستبد يقف رئيسه الأرعن مزهواً ببذلته العسكرية ليتحدى شعب السودان كله في صلف وجنون عظمة وهو يصيح: ( الحكم دا نحن جبناه بالسلاح ، والعايز يشيلو مننا ينازلنا بالسلاح)!! وجدنا لكم العذر آنذاك. لكن ....تغيرت المعادلة التي من الإنصاف أن نقول بأنكم ساهمتم فيها بنضالكم وتضحياتكم حتى ميلاد ثورة ديسمبر. ساهم الكفاح المسلح بلا شك في كسر غطرسة الآلة العسكرية للنظام في أكثر من جولة. بيد أنّ الواجب يملي علينا أن نسدي النصح. نقول لكم إن التاريخ يأخذ منعطفاً كبيراً ليس في بلادنا فحسب بل في قارتنا البكر أفريقيا وربما في العالم كله. حيث صار حسم الأمور بقوة السلاح أو نيل المطالب عبر حرب الغوريلا والمليشيات في طريقه إلى نهاية. نحن كما تعلمون جيداً في عصر الشعوب. ولعلنا جميعاً نعرف تماماً أن المجزرة التي طالت إعتصام أبناء وبنات السودان أمام قيادة الجيش السوداني قبل عام بقصد إطفاء لهب الثورة أضحت هي الترياق الذي أحيا جذوة الثورة بعد أن ظن من قاموا بالمجزرة ومن حرضوا عليها أنهم قضوا على ثورة شعبنا .. فإذا بسلمية مليونية 30 يونيو 2019 تربك حسابات القتلة وتدهش العالم. وإذ تنتقل شعلة الوعي إلى موقع جغرافي كان قبل أعوام قليلة مضت مسرحاً للإبادة وحرق القرى والإغتصاب - إذ تنتقل دائرة الوعي إلى ذات المكان : "نجيرتي تي" و"فتّا برنو" وغيرهما في اعتصامات حضارية نرى كيف تضامن معها أبناء وبنات السودان في الشمال والشرق والوسط في وقفات احتجاجية. وإذ يحدث كل هذا بتلك الروح الحضارية المدهشة فإننا ندعوكم لمراجعة خطاب التشدد والتوجّه بأقصى ما يمكن نحو جعل ملف السلام في بلادنا أولوية قصوى. فأنتم – وإن اختلفت الرؤى والأفكار مع حكومة الفترة الإنتقالية - إلا إنكم بصورة مباشرة وغير مباشرة شركاء لهم في الهم الوطني الكبير. دعونا نتخذ قرار الشجعان في إرساء دعائم السلام، فالسلام لا يبنيه إلا الشجعان. ولتكن لغة البندقية خارج حساباتنا ونحن نتحدث عن سودان جديد. تحضرني تجربة الإتحاد السويسري. نعم .. سويسرا التي تهرع بلدان العالم كله إلى عاصمتها الدبلوماسية (جنيف) لا تملك جيشاً. وتقوم إدارة البلاد فيها على نظام حكم كونفيدرالي ، تظله ديمقراطية برلمانية وتعايش وانسجام بين إثنيات متعددة، تتحدث أربع لغات، هي الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانش- والأخيرة هي لغة سكان سويسرا الأصليين، لكنهم الأقلية. لكن أبناء وبنات هذه الإثنيات جميعاً فخورون بأنهم سويسريون". وكل سويسري على استعداد للموت ذوداً عن تربة وعلم بلاده سويسرا إن حاق ببلاده الخطر. إنّ اقتسام السلطة والثروة حق . ولكنّ شعبنا ينتظر مفاوضاتكم غريبة الوجه واليد واللسان في جوبا لترسو على بر. فهلا أحسنتم قراءة المشهد بما يجعل إبحار السفينة أيسر مما نحن فيه الآن ؟