إعفاء الدين الخارجي وتحسن سعر الصرف : الواقع والأحلام
boulkea@gmail.com
في البدء أهنىء الأستاذ طارق الجزولي رئيس تحرير سودانايل الغراء بعودة الموقع في ثوب قشيب بعد الهجمات المتكررة من "القراصنة" الذين إختطفوا بلادنا منذ ربع قرن من الزمان وعجزوا حتى عن تحمل صحيفة إلكترونية تجتهد في بث التنوير والتثقيف وترسيخ قيم الحوار والديموقراطية بحياد وموضوعية.
أوردت صحف الأسبوع الماضي خبراً مفاده أنَّ وزير المالية بدر الدين محمود توجَّه إلى واشنطون على رأس وفد رفيع المستوى للمشاركة في إجتماعات الربيع الخاصة بصندوق النقد والبنك الدوليين.
وأضاف الخبر أنَّ الوزير سيعقد لقاءات لمناقشة الدين الخارجي مع الدول ذات المديونية الكبيرة للسودان، ووزارة الخزانة الأمريكية ومكتب الأصول الأمريكية (أوفاك) واليابان والنرويج وفرنسا وإيطاليا والنمسا، وذلك في إطار سعي السودان للاستفادة من مبادرة الدول المثقلة بالديون (الهيبكس).
كلما قرأتُ خبراً في الصحف عن سفر وفد حُكومي "ضخم" لنيويورك وواشنطون لمُناقشة قضية إعفاء ديون السودان الخارجية تأكد لي أنَّ نهج الحُكم في بلادنا ينبني على الأحلام و "الأوهام" ولا يستندُ على أُساس يعتمدُ على القراءة "العقلانية" و الموضوعية لحقائق الأمور على الأرض.
كتبتُ سابقاً عن مسألة إعفاء الديون وقلتُ أنها ليست مسألة إقتصادية "فنيَّة" فحسب ولكنها موضوع سياسي مرتبط بقضايا الحُكم والحرب والحُريَّات والعلاقات الخارجية, وأنَّ الحكومة تُخطىء إذا كانت تعتقد أنَّ بإمكانها إقناع الجهات الدائنة بإلغاء الديون بمُجرَّد الإيفاء بالشروط المتعلقة بالسياسات المالية والإقتصادية.
وعلى الرغم من أنني أعدتُ الحديث في هذا الأمر مراراً إلا أنهُ لا بأس من تكراره مرَّة أخرى حتى يعلم القائمون على أمر الحكم أنَّ مثل هذه القضايا لا تعالج "بالأوهام" وإنما بالسياسات الواضحة, فمن المعلوم أن ديون السودان الخارجية تبلغ حوالى 45 مليار دولار, ثلاثة أرباعها تخصُّ دول نادي باريس.
ولا شك أن أية شخص مهتم بقضية الإقتصاد قد إستمع لتصريحات رئيس بعثة صندوق النقد الدولي للسودان إدوارد جميل التي أدلى بها في أبريل 2013 و قال فيها بوضوح أنه : ( سيكون من شبه المستحيل بالنسبة للسودان إعفاء ديونه حتى إذا أوفى بكافة المتطلبات الفنية والإقتصادية, والسبب في ذلك هو أنَّ الأمر مرتبط بقضايا سياسية تتطلبُ جهوداً في العلاقات العامة مع الدول الأعضاء في نادي باريس).
وأكد جميل في تصريحاته تلك أنَّ : ( أية صفقة لإعفاء ديون السودان تتطلب الموافقة بالإجماع من قبل ال 55 بلداً الأعضاء في نادي باريس وهو أمر غير وارد الحدوث ).
و كنتُ قد ذكرت في مقال سابق أنه حتى إذا نجح السُّودان في إقناع 54 دولة من دول نادي باريس – وهو أمرٌ يُقاربُ المستحيل - فإنَّ وجود أمريكا ضمن تلك الدول سيحول دون إعفاء تلك الديون وهو أمرٌ مرتبطٌ بعلاقتها مع السودان.
حيث أنَّ هناك قراراً صادراً من الكونغرس بمنع ممثلي أمريكا لدى المؤسسات المالية الدولية من التصويت لصالح أية دولة مُدرجة في قائمة الدول الراعية للإرهاب, وهى العقبة الكؤود التي سيظلُّ يصطدمُ بها السودان في محاولاته المتكررة لإعادة جدولة الديون أو إعفائها في المؤسسات التي تتمتع فيها أمريكا بأصوات راجحة أو بحق النقض, أو يتطلب إتخاذ القرار فيها إجماعاً مثل نادي باريس.
ويعلمُ كل من لديه إلمامٌ بسيط بآليات إتخاذ القرار في أمريكا أنَّ قرارات الكونغرس – بعكس قرارات الخارجية التي يتم تجديدها سنوياً – لا تستطيع الحكومة أن تفعل شيئاً تجاهها, و لا تتمُّ مراجعتها إلا بقرار صادر من الكونغرس نفسه.
خلاصة هذا القول أنَّ تطبيع العلاقة مع أمريكا هو مفتاح إعادة جدولة أو إعفاء الديون, وهو قرار سياسي وليس إقتصادياً, وما عدا ذلك مما تقوم به الحكومة من تكوين لجان و إرسال وفود وعقد إجتماعات لا يمثل إلا تضييعاً للوقت والجهود والأموال وتضليلاً للرأي العام.
الحقائق على الأرض تقول أنَّ العقوبات الإقتصادية الأمريكية التي تم تطبيقها في العام 1997 ما تزال سارية حتى اليوم, وأنَّ إسم السودان مازال ضمن القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب, وأنَّ أمريكا تربط تحسين العلاقات بقيام حوار وطني شامل يؤدي لوقف الحرب وإتاحة الحُريات ووقوع إصلاح سياسي.
هذا الموقف الأمريكي تم التعبير عنهُ في الكثير من المُناسبات, كان آخرها البيان الذي أصدرتهُ دول الترويكا ( أمريكا, النرويج, المملكة المتحدة ) يوم الإثنين الماضي حول الإنتخابات الأخيرة.
عبَّرت الترويكا بوضوح عن ( أسفها لفشل الحكومة السودانية في خلق أجواء مواتية لعقد إنتخابات حرة ونزيهة ) وقالت أنَّ الأسباب التي أدت لضعف المشاركة في الإنتخابات تمثلت في ( القيود المفروضة على الحريات السياسية , وعدم وجود حوار وطني ذو مصداقية, واستمرار النزاع المسلح في مناطق الهامش ).
وكذلك أعلنت تواصل دعمها ( للسودانيين الذين يرغبون في إيجاد عملية سياسية شرعية شاملة للحوار من أجل إنهاء النزاع, واحداث إصلاح ذو معنى في تركيبة الحكم والاستقرار فى المدى البعيد ).
ولكن على الرغم من هذا الموقف, وتلك الحقائق يُصر أهل الحكم – منذ سنوات - على الحديث عن إمكانية إلغاء الديون, والإستفادة من مبادرة "الهيبيك" فما هى الخلاصة التي يُمكن أن نتوصل إليها من هذا السلوك ؟
في ظني أنَّ أزمة أهل الحكم تتمثل في "العقلية" التي لا تنظر للقضايا بعين "منهجية" وتتعاطى مع حقائق الامور بعلمية وواقعية, وإنما تهيم في "الأحلام والأوهام", وهذه نتيجة طبيعية للتفكير الذي يستند على "الآيديولوجيا" التي تعمل بطبيعتها على "تغبيش" الوعي, وتمنع أصحابها من النظر للقضايا بموضوعية.
وكذلك تعتقدُ الجماعة السلطوية أنَّ شئون السياسة والحكم لا تحكمها أسس أو قواعد يتم حسابها بدقة وعلمية, وأنما هى بالنسبة لهم ضربٌ من "الرجم بالغيب" وخبط العشواء, وهذا أمرٌ بائنق تعسكه الكثير من السياسات والقرارات التي إتخذتها الحكومة وأدخلت بلادنا في هذا النفق المظلم الذي نعاني منه.
وفوق هذا وذاك فإنَّ أهل الحكم يستخفون بعقول الناس, ولا يدركون طبيعة العالم الذين يتعاملون فيه, وفي هذا الخصوص يحضرني تصريحان في غاية الغرابة كان قد أدلى بهما وزير المالية الحالي بخصوص إحتياطي السودان النقدي, وكنتُ قد أشرتُ في السابق لأحدهما ولا غضاضة من تكراره لتوضيح هذه النقطة.
عندما سئل السيد الوزير عن حجم إحتياطي النقد الأجنبي قال أنه لا يستطيع الإفصاح عنه، وبرَّر ذلك بالقول : (المرة ما بتوري عُمرها) أي (المرأة لا تفصحُ عن عمرها الحقيقي).
هذه إجابة تفتقد لأبسط أسس المعرفة بالأمور الإقتصادية, وهى لا تليق بالمسؤول الأول عن ادارة الشؤون الإقتصادية والمالية بالبلاد, فكيف يتوقع السيد الوزير الذي لا يكلُّ ولا يملُّ من الحديث عن تدفق الإستثمارات الخارجية أن يستقبل المستثمرين الأجانب مثل هذا التصريح ؟ وهل يعتقد أنهم "سيجازفون" بجلب أموالهم لبلد لا يعرفون حجم إحتياطيه من النقد الأجنبي ؟
نفس الوزير صرَّح الشهر الماضي عقب إعلان السودان الإنضمام لحلف "عاصفة الحزم" بأنَّ المليارات ستتدفق على السودان, وأنَّ هناك ترتيبات جارية "للإطاحة" بسعر الصرف في السوق الأسود, ولكن سيادته رفض الإفصاح عن تلك الترتيبات مستدلاً بالحديث النبوي الشريف : ( واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان).
هذا الخلط في الأمور يبيَّن "الفقر المعرفي" للقائمين على أمر السلطة, حيث أنَّ الإقتصاد علمٌ وليس "كهانة" تقوم على الغموض و "الغتغتة", وإذا كانت هناك إجراءات مُعينة تتخذ لتعديل سعر الصرف, فهى بالضرورة إجراءات معروفة للإقتصاديين ولكل من له علاقة بهذا المجال, وبالتالي فإنَّ إقحام هذا الحديث النبوي ينمُّ عن ضعف الحجة والحيلة, ولا يعدو أن يكون مجرد محاولة فاشلة للتأثير على سعر الصرف.
يظنُّ أهل الحكم – وكثيرٌ من الظن إثم – أنَّ التصريحات وحدها كفيلة بحل المشاكل السياسية والإقتصادية وأنَّ "الخطوط الرئيسية للصحف" هى التي تحدد "سعر الصرف" وليس آليات السوق المعروفة, وهذه مصيبة كبيرة, فقد ذهبت تصريحات الوزير أدراج الرياح شأنها شأن سابقاتها ومازال سعر الدولار مرتفعاً ولم تتم الإطاحة به, فماذا أنت فاعل يا أيُّها الوزير الهمام ؟
ليس ذلك فجسب, بل إنَّ مبدأ "الشفافية" يتطلبُ من الوزير توضيح السياسات والإجراءات التي يتخذها لمعالجة القضايا الإقتصادية, ومبدأ "الإستعانة بالكتمان" ليس له محل من الإعراب في هذا الخصوص بل هو يعتبر – في عُرف الحكومات المحترمة – نوعاً من التهرُّب يوجب المساءلة من قبل نوَّاب الشعب في البرلمان.
ختاماً نقول : إنَّ ديون السودان لن تلغى بمجرَّد حزم الحقائب والسفر لحضور الإجتماعات في نيويورك وواشنطون, أو حتى بعد الوفاء بالشروط الفنية, وستظل موجودة بفوائدها المتراكمة طالما ظل الوضع السياسي الحالي كما هو, وكذلك فإنَّ سعر صرف الجنيه لن يتحسن بالتصريحات الصحفية ما لم تتحقق الشروط الإقتصادية والسياسية التي تضمن تدفق الإستثمارات الخارجية وزيادة الإنتاج المحلي والصادرات.