وافقت الجبهة الثورية السودانية في اجتماعها الذي انعقد في العاصمة الفرنسية "باريس " من التاسع من سبتنمبر إلى 14 منه بحضور مبعوثين دوليين من أمريكا وبريطانيا وفرنسا والإتحاد الأفريقي على الدخول في وقف عدائيات مع الحكومة السودانية لمدة ستة شهور لأغراض حماية المدنيين وتوفير المساعدات الإنسانية دون عوائق للمتضررين وخلق بيئة مواتية لعملية السلام والحوار الوطني الدستوري. أولاً/هذه الموافقة المجانية على الدخول في وقف عدائيات مع النظام الحاكم من أجل الأسباب التي ذكرتها الجبهة الثورية ، ليست لها أي قيمة من الناحية العملية ، سيما وقد قطع الجنرال عمر البشير بعدم نقل ما يسمى بالحوار الوطني للخارج ، وأنه لا مجال لتحويل مسار الحوار الى خارج السودان وسيكون الحوار سودانيا بالكامل ، ووعد بأن تقدم حكومته الضمانات الكافية لمن يرغب في المشاركة في الحوار بالخرطوم من الحركات المتمردة. مضيفاً " نقول نحن الناس ديل بنأمنهم من وصولهم حدود السودان وبعد انتهاء الحوار اذا اقتنعوا قعدوا اهلا وسهلا ، عايزين يرجعوا نأمنهم الى أن يصلوا العواصم الدايرين يصلوها". يعني الزول دا بيقول بصريح العبارة إن قطار الحوار الوطني ماض إلى محطته الأخيرة بمن حضر ..جاء ناس الجبهة الثورية أم لم يحضروا.
لم يقف البشير عند تهديده للحركات المسلحة بجعل عام 2016 عاما خاليا من التمرد في السودان حسب زعمه ، بل تعداه ليتعهد بتمزيق أي قرار يصدر من مجلس الأمن الدولي بشأن الحوار الوطني. وزاد "إذا أصدر مجلس الأمن أي قرار بشأن الحوار سنشرطه كما شرطنا غيره من القرارات".وتابع "أنا رئيس لجنة الحوار ، ولن يأتي شخص ليترأس الحوار ويكون رئيسا لي سواء كان من الاتحاد الأفريقي أو أي جهة ثانية.
هذه التهديدات العلانية والواضحة للجميع لم تترك أي فرصة للحديث عن عملية سلام دائم وشامل وعادل في السودان مع أي كائن كان ، لكن الجبهة الثورية لشيء في نفسها وافقت على الدخول مع النظام في وقف عدائيات.
عمر البشير منذ أكثر من أربع سنوات يرفض نداءات ودعوات متكررة من المجتمع الدولي والمنظمات الدولية والعالمية بضرورة اعلان وقف لإطلاق النار لأغراض حماية المدنيين وتوفير المساعدات الإنسانية دون عوائق للمتضررين.. وليس هناك جديد حتى تعيد الجبهة الثورية الطرح الذي رفضته الخرطوم في السابق؟.
إذا كانت الجبهة الثورية تعتقد أن موافقتها على الدخول في وقف عدائيات مع الحكومة السودانية لمدة ستة شهور لأغراض حماية المدنيين وتوفير المساعدات الإنسانية دون عوائق للمتضررين ، بحضور المبعوثين الدوليين ، تعني شيئا عند عمر البشير ونظامه ، فهي مخطئة تماماً. فوجود المبعوثين وسط اجتماع قادة الجبهة الثورية لا تأثير له على البشير ونظامه. فالولايات المتحدة الأمريكية مثلا لا تريد اسقاط النظام أو تغييره أصلاً ، إنما تريد ترقيعاً له وتزويده بعناصر من المعارضة حتى تكسبه ولو جزءاً من الشرعية –داخلياً وخارجياً. هذا ما تريده أمريكا في السودان. أما مواقف الدول الحاضرة لإجتماع باريس ، فهي لا تختلف عن الموقف الأمريكي.
كنت على قناعة بأن قادة الجبهة الثورية على قدر من المسئولية والحنكة السياسية للرد على حماقات البشير وتحديه لإرادة الشعوب السودانية والقرارات الدولية..لكن للآسف الشديد اكتشفت مؤخراً أنهم ليسوا على قدر المسئولية والتحديات التي تواجه السودان اليوم. فالجبهة في ميثاقها طالبت بهيكلة الدولة السودانية وبناءها بناءاً جديدا تقوم على المساواة والمواطنة وفصل الدين عن الدولة ، لكنها تراجعت بالسرعة عن هذه المطالبة وسط ألاعيب حزب المؤتمر الوطني الحاكم لتتحدث عن وقف عدائيات مجانية لخلق بيئة مواتية لحوار البشير.
ما تم الإتفاق عليه في اجتماع الجبهة الثورية بباريس يشبه نوع من صفقة ما طبخت في الغرف المظلمة لإضفاء نوع من الشرعية الشكلية والوهمية على الحوار الوطني المزعوم ، بقول القادة المجتمعين أنفسهم (إننا وافقنا على وقف العدائيات مع الخرطوم لخلق بيئة مواتية لعملية السلام والحوار الوطني).ونحن نسألهم صراحةً ونقول لهم ..في أي كوكب تعيشون لتتحدثوا عن بيئة مواتية لأي عملية سلام بوجود البشير وحزبه في السلطة؟.
تقول الجبهة الثورية انها مستعدة للدخول في عملية سلام شاملة وبحسن نية تحت قرار مجلس الامن 2046 وقرار مجلس السلم والامن الافريقي 539 وطالبت مجلس الامن الدولي باعتماد قرار مجلس السلم والامن الافريقي الاخير رقم 539 ودعت في الوقت نفسه لوجود دور في العملية السلمية لدول الترويكا وخاصة منطومة دول إيغاد، جنوب السودان، تشاد، نيجيريا ومصر وجنوب أفريقيا والجزائر والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا.
المطالبة أعلاها تذكرني بالمطالبات المتكررة التي تقدمها جامعة الدول العربية لمجلس الأمن الدولي عن الإنتهاكات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين منذ عام 1948 حتى اليوم. إنها مطالبات عبثية ، وكذا مطالبة الثورية للخرطوم بتنفيذ القرارات التي ذكرتها ، وتنم عن رداءة النضال وعدم الجدية في اسقاط النظام ، وأن المشكلة إذن ليست مشكلة نظام مستبد فحسب ، ولكن مشكلة معارضة تلعب على أرضية النظام ، وتطرح شعارات من دون رؤية حقيقية لمستقبل السودان ، وتقحم دولاً في شأن لا تعرف عنه شيئا.
أليس من حقنا وحق القُراء الأفاضل أن يعرفوا .. ما دخل تشاد ونيجيريا والجزائر وفلاديمير بوتين وحسن روحاني والبغدادي بصراع الجبهة الثورية مع الخرطوم؟.
أيعقل أن تتحدث الجبهة الثورية عن حسن النوايا وعن القرارات الأممية والدولية والإقليمية وهي تعرف جيدا أن مطلوب الجنائية الدولية قال صراحةً: إنه سيمزق أي قرار يصدر من مجلس الأمن الدولي بشأن الحوار الوطني كما مزق من قبله قرارات دولية أخرى؟.
ألهذه الدرجة أصبحت الجبهة الثورية بعيدة ومعزولة عن جماهيرها، وبلا مواقف صلبة وثابتة من تعنت نظام البشير واصراره على تدمير السودان لتأتينا بمسخرة تسميها بخارطة الطريق ، وهي ليست بخارطة طريق ، بل خارطة استسلام واذعان للحزب الحاكم ، خاصة أنها منذ انضمام المهدي إليها لم يعد لها سوى طموح محدود ، وهو الدخول مع نظام القتل والإرهاب والتشريد والتهجير في حوار عسى وعلّ أن تحصل على بعضٍ من فضلاته وفتاته.
نعم –إن دخول الجبهة الثورية في وقف عدائيات مجانية مع النظام أو الجلوس معه تحت أي مسمى كان ، يعتبر خيانةً كبرى لمن تمثلهم ، كما أن المشاركة في الحوار الوطني المزعوم أيضا يعتبر خيانةً عظمى ، لأن المشاركة فيه تضفي شرعية على نظام قتل مئات الآلاف بشهادة كل العالم وما زال يقتل ويرهب ويعربد في جبال النوبة.
تقول الجبهة الثورية انها تنطلق في موقفها الذي تبناه في اجتماع باريس من مقررات (كاودا) ووثيقة (الفجر الجديد ) واعلان باريس واعلان برلين ومقررات نداء السودان مع الاخذ في الاعتبار قرارات مجلس الامن رقم 2046 وقرار مجلس السلم والامن الافريقي رقم 539 الاخير في اديس ابابا..لكن هذا القول إنما فيه كذبا كبيرا وتضليلاً للناس أجمعين –الأحياء منهم والأموات ، ذلك أن ما تم الإتفاق عليه في باريس قد يكون متطابقا مع ما جاء في الإعلانات (باريس –برلين –نداء السودان) التي وضع أساساتها الصادق المهدي ، ومقررات "كاودا" ووثيقة "الفجر الجديد" بريئتان من هذه التهمة الخطيرة جدا لأن الصادق المهدي الذي يعتبر اليوم عنصرا مهما في المعارضة السودانية كان قد رفض جملة وتفصيلا مقرارات كاودا ووصف موقعيها بالعنصريين وبتنفيذ أجندات أجنبية ، كما طعن في وثيقة الفجر الجديد وسماها بالفجر الكاذب ، ووعد موقعيها أيضا بالهزيمة..فكيف تقول الجبهة الثورية أنها تنطلق في موقفها من مقررات "كاودا" ووثيقة "الفجر الجديد"؟؟.
مقررات مدينة كاودا ووثيقة الفجر الجديد كانت واضحة وصريحة من حيث المباديء والأهداف والوسائل ، وهي موجودة على صفحات الصحف السودانية والمواقع الإلكترونية والمنتديات ومواقع التواصل الإجتماعي لمن يريد الإطلاع عليها وقراءتها. وقول الجبهة الثورية ان ما اتفق عليه في باريس جاء متوافقاً مع مقررات كاودا ووثيقة الفجر الجديد ، فإنما هو كذب كبير يجب الإعتذار عنه علناً.
ما أقوله هنا ليس شيئا غريبا ، إنما هذا هو الواقع الذي تعيشه الثورية ويدعم كلامي هذا موقف عبدالواحد محمد نور أحد قادة الجبهة الثورية رئيس حركة تحرير السودان ونائب رئيس الجبهة الثورية الذي أعلن أن حركة وجيش تحرير السودان ليست جزءً مما خرجت به الجبهة الثورية في ما يسمى خارطة الطريق يوم الاثنين بالعاصمة الفرنسية باريس. وأكد عبد الواحد لـ”راديو دبنقا” يوم الثلاثاء أنهم في الحركة يحترمون الخيار الذي اختاره رفقاؤهم في الجبهة الثورية ولكنهم ليسوا جزء من هذه الخارطة. وأكد أن خارطة الطريق المعلنة تتنافى مع مواثيق الجبهة الثورية التي صدرت عام 2012 وشدد أنهم في الحركة متمسكون بمواقفهم المعلنة، والتي من بينها عدم التفاوض مع النظام في الخرطوم إذا لم يتحقق الأمن وإيقاف الإبادة الجماعية والاغتصاب ونزع سلاح المليشيات وإعادة النازحين واللاجئين إلى قراهم، وإنجاز الحريات الفردية والمدنية للشعب السوداني وفقا للمواثيق الدولية، و الحل السلمي الشامل المفضي للتغيير. وأضاف أن الحل المطروح في خارطة الطريق سوف يعيد إنتاج الأزمة.
إن قدرة الأحزاب والقوى السياسية لا تقاس على أساس الكثرة والعددية ، وإنما تعتمد على مواقفها من التطورات ومدى إلتزامها بالمصالح العليا والإنسجام مع تطلعات شعوبها ، وهو الشيء الذي فشل فيه الجبهة الثورية التي تنضوي تحتها أكثر من عشرين حركة مسلحة وحزب سياسي وتنظيم مدني وأهلي ومجموعات أخرى. ولأنها خلطت كل أوراقها السياسية وضلت طريق الثورة الحقيقية ، ها هي اليوم تغازل الخرطوم بوافقتها على الدخول معها في وقف عدائيات مجانية لتضمن الحصول على قطعة من كعكة حوار البشير ، فهي إذن بهذه الخطوة تبحث عن مصالحها الشخصية التي أصبحت جزءا من اللعبة السياسية.
ليس متأخراً ، وليس من الخطأ أن تعلن قيادة الجبهة الثورية لجماهيرها وتقول أنها فشلت في هزيمة المؤتمر الوطني ، وتعتذر لها عن هذا الفشل وتسلم الرأية لقيادة أخرى بأفكار جديدة تضع ضمن أولوياتها تغيير النظام بقوة السلاح. وستصاب جماهير الثورية بالصدمة الكبرى إذا تمسكت القيادة الحالية بموقفها القاضي بحوار نظام الإبادة الجماعية الذي ما زال يرمي براميله المتفجرة على رؤوس أطفال ونساء النوبة ودارفور.
على الرغم من حضور ممثلين عن الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والإتحاد الأوروبي في اجتماع باريس ، والإتصالات الدولية والإقليمية غير المسبوقة في ما يتصل بالأزمة السودانية لبلورة حل شامل ودائم ، فإن الجدية التي تتسم بها هذه الإتصالات لا تختلف عن جديتها حين تم اصدار القرار رقم (2046) من مجلس الأمن الدولي ، وقرارات دولية أخرى تخص السودان من دون أن تلتزم الخرطوم بها ومن دون أن تدفع ثمن رفضها لها.
إن تعويل الجبهة الثورية على الإتحاد الأفريقي ودول الترويكا وأمريكا لحل الأزمة السودانية ، إنما هو تعويل غير واقعي. وكيف يأتي الحل منها ومبعوث الولايات المتحدة الأمريكية للسودان وجنوب السودان السيد دونالد بوث الذي حضر اجتماع الجبهة الثورية في فرنسا كان يجري والوفد المرافق له نهاية سبتمبر المنصرم حوارا مع الخرطوم من أجل تطبيع العلاقات بين البلدين ورفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ورفع العقوبات الإقتصادية أيضا..يعني أمريكا بتحب عمر البشير كتير كتير جدا ومش عاوزة تفرط فيه ، وهي تعمل بالقاعدة الشهيرة "الجن الذي تعرفه أفضل من الذي لا تعرفه" –أي تفضل وجود البشير في السلطة ولو حاكماً على العاصمة الخرطوم وبضعة مدن أخرى.
خلاصة الكلام ، هو أن التعويل على تشاد والجزائر وفنزويلا وثامبو أمبيكي وأوباسنغو لحل الأزمة السودانية سياسياً –أي بالجلوس مع نظام الإبادة والتطهير العرقي وسط تبادل الضحكات والإبتسمات المضللة ، خيانة للمقاتلين في الميدان وللنازحين في معسكراتهم وللمتضررين والمحاصرين في مناطق النزاع. فالعقيد الراحل جون قرنق حارب بشجاعة ووقع سلام الشجعان..لم يخط خطوة وإلآ كانت محسوبة النتائج.
Battle is the most magnificent competition in which a human being can indulge. It brings out all that is best; it removes all that is base. All men are afraid in battle. The coward is the one who lets his fear overcome his sense of duty. Duty is the essence of manhood.