إلى الثُوَّار ولِجانِ المُقاوَمَة: أرمُوا قِدَّام !! الانتقال من الحراك الميداني إلى الفعل السياسي
تورونتو، 29 ديسمبر 2020
الواثق كمير
kameir@yahoo.com
نشرتُ مقالاً في 18 فبراير 2019، سبق سُقوط نظام الإنقاذ بحوالي الشهرين، تناولتُ فيه تحديات الانتقال الدِّيمُقراطي السِّلمى في السُّودان والحوار الجاد حول أبعاد الأزمة الحاليَّة، واستكشاف السيناريوهات المُمكنة وآفاق المُستقبل (انتفاضة الشباب وتحديات الانتقال والتحول الديمقراطي: أسئلة تبحث عن إجابات!، سودانايل، 20 فبراير 2019). طرحتُ في المقال أسئلةً هامةً تحتاج لحوارٍ عميق لكي تُثمِر عن إجاباتٍ شافية لها ممَّا يخدم قضيَّة التغيير في السُّودان ويدفع بها الى الأمام. وللمُفارقة، لم تعجب أسئلتي كثيرون، فقد أضحت، في أتون ذلك الجو المشحون سياسياً، حتى مجرَّد الأسئلة مثار شكٍ واتهام! وللإجابة على السؤال الجوهري “قوى الانتفاضة والحلقة المفقودة: متى تتوحَّد الرُّؤية؟”، حاولتُ تقديم قراءة موضوعيَّة لطبيعة القُوى المشاركة في انتفاضة ديسمبر المُستمرَّة، في ذلك الوقت. ذلك، بجانب التبصير بتحديَّات انتقال السُّلطة التي تواجه هذه القُوى والعقبات التي تقف فى طريق تحقيق هدف التحوُّل الدِّيمُقراطي والتغيير المنشود، وذلك في سياق المشهد السياسي العام. وعليه، بعثتُ برسائل، حملت هذا المعنى، إلى بريد هذه القُوى: شباب الانتفاضة، تجمُّع المهنيين السُّودانيين، والقُوى السياسيَّة المدنيَّة والمسلحة. ما يهمني في هذه السانحة هي الرِّسالة التي وجَّهتُها إلى الشباب، القائد الفعلي والميداني للانتفاضة والثورة، إذ يهدف هذا المقال إلى إعادة القراءة المُتأنية لموقف ووضع الثوار ولجان المقاومة بعد عامين من سُقوط نظام الانقاذ، وعلاقتهم بالقُوى السياسيَّة بتكويناتها المُتباينة، في سياق المشهد الانتقالي المُعقد. تتلخَّص أطروحتي في أنَّ التحدِّي الرئيس الذي يجابهه الثوار ولجان المقاومة يظلُّ هُو الانتقال من خانة العمل التنظيمي الحركي والنشاط الميداني إلى رحاب الفعل المُؤثر على صناعة القرار السياسي. بعد أن تدفقت مياهٌ كثيرة تحت “وفوق” جسر الثورة منذ إنطلاق شراراتها الأولى في ديسمبر 2018، أُحاولُ أن أُقدِّم إلى الثوار اقتراحاً عملياً للتداوُل حوله كإحدى الوسائل، القابلة للتنفيذ، لمُخاطبة هذا التحدِّي الماثل واطلاق صافرة عمليَّة الانتقال من الفعل الحركي إلى دائرة الفعل السياسي الفعال والمُؤثر.
لجان المقاومة: الوَقُودُ والضَحَايا!
ظللتُ أُتابعُ بانتظام تطوُّرات المشهد السياسي من قبل وبعد تعيين رئيس الوزراء وتشكيل مجلسي السِّيادة والوزراء في الرُبع الأخير من عام 2019، وخاصة نشاطات شباب الثورة، الذين ابتدعوا فكرة لجان المقاومة في الأحياء السَّكنيَّة في المُدُن الثلاث وكافة الولايات، لتكون بمثابة الشكل التنظيمي، الذي يُعبِّر عن حراكهم ومطالبهم. وفي الواقع، كما نوَّهتُ في رسالتي السابقة للشباب، فلجان المقاومة هي امتدادٌ للحراك الجماهيري الذي تولوا قيادته منذ عام 2006، والمبادرة بالمقاومة في الشارع منذ أخريات عام 2011، التي وصلت إلى درجة أعلى من ناحيتي الحجم والتنظيم في يونيو 2012، ثمَّ انتفاضة سبتمبر 2013، وصولاً إلى العصيان المدني في نوفمبر 2016. ومن ثمَّ تطوَّرت إلى تنظيم “تنسيقيات” تضُمُّ كُلٌ منها عدد من لجان المقاومة، تُساهم بقُوَّة في الاحتفاظ بجذوة الثورة مُتَّقِدة خلال العامين السَّابقين من عُمر الحُكم الانتقالي.
إنَّ الشباب ولجان المقاومة هُم مَن وفَّر الوقود وبذل الشُهداء وقدَّم التضحيات وقام على قيادة الحراك الثوري في كُلِّ أنحاء البلاد، منذ ديسمبر 2018 وحتى تمَّت تنحية رأس نظام الانقاذ في 11 أبريل 2019. وبالرغم من ذلك، إلا أنهم لم يُحسَبُوا طرفاً في الوثيقة الدُّستوريَّة وليس لهُم تمثيلٌ في أيٍ من مُؤسَّسات الانتقال، ولا في هياكل قُوى الحُريَّة والتغيير ومجلسها المركزي، الذي احتكر قيادة التحالُف. وفي أعقاب اتفاقيَّة سلام جوبا، في 3 أكتوبر 2020، انضمَّت أطراف العمليَّة السِلميَّة لتصبح جزءً من التحالف الحاكم في إطار “مجلس شركاء الفترة الانتقاليَّة”، الذي نصَّت عليه المادة (80) من الوثيقة الدُّستُوريَّة المُعدَّلة والمُجازة من قبل الاجتماع المُشترك لمجلسي السيادة والوزراء. وبالطبع، لم يجد الشباب والثوار مكاناً لهُم في مجلس الشُركاء بحُكم طبيعية المجلس كهيئة تضُمُّ شُركاء الحُكم المُوقعين على الوثيقة الدُّستُوريَّة، في نُسختيها الأولى والثانية المُعدَّلة، لا مجال فيها للجان المقاومة.
بعد تصاعُد الحراك الثوري “الميداني” بنهاية عام 2018 بقيادة الشباب ولجان المقاومة، رضي الشباب، وارتضوا بـ“تجمُّع المهنيبن” كقيادة جماعيَّة لحراكهم هذا، ولو بدون كشفٍ عن هذه "القيادة الأفقية"، وهو ما أملته الظُروف الموضوعيَّة حينئذٍ. ومن ناحية أخرى، لم تتوان كافة القُوى السياسيَّة المدنيَّة والمُسلَّحة، على حدٍ سواء، من دعم حراك الشباب في بيانتها المُتواترة ومناشدة عُضويَّتها في الانخراط في المُظاهرات والمواكب والاعتصمات التي يدعو لها تجمُّع المهنيين. فهكذا، وقَّع تحالفا “نداء السُّودان” و“قوى الإجماع الوطني”، ويضُمُّ كُلٌ منهُما عددٌ من الأحزاب السياسيَّة المُعارضة والحركات المُسلَّحة، إضافة إلى كياناتٍ فئويَّة أخرى وتنظيمات المجتمع المدني، مع تجمُّع المهنيين على “إعلان الحُريَّة والتغيير” في 1 يناير 2019. هكذا، وضع الشباب والثوار كل البيض في سلة تجمُّع المهنيين، ربَّما بسبب توجُّسهم من الأحزاب وتحالُفاتها، كواجهة سياسيَّة مُستقلة، (للمفارقة كما عوَّلت قُوى الانتفاضة، في مارس/أبريل 1985، على التجمُّع النقابي يومئذٍ، فخاب ظنهم). ومع ذلك، لم تأتِ الرِّياح بما اشتهت سُفُن الثوار، إذ أفاقوا على خُذلانٍ مُبين من تجمُّع المهنيين بعد أن انقسم على نفسه وتفرَّق أيدي سبأ، فيصل يجلس في مجلس شُركاء الحُكم، وقِسمٌ آخر نَفَضَ يده من تحالف قُوى الحُريَّة والتغيير، مُوقعاً لاتفاق تفاهُمٍ مُشترك مع الحركة الشعبيَّة شمال تحت قيادة الفريق عبدالعزيز الحلو. والتحالف بدوره لم يسلم نفسه من الانقسام، الذي وصل مرحلة سحب الاعتراف بمجلسه المركزي من قبل العديد من القوى السياسية التي كانت منضوية تحت لِوائه.
على هذه الخلفيَّة، بعد فشل تجمُّع المهنيين في توفير القيادة القادرة على تحقيق مطالب الثورة العاجلة، وتفكك قوى الحرية والتغيير، تدارك الشباب ولجان المُقاومة مواقفهم وعملوا على مراجعة التجربة، والميل لقيادة أنفُسهم بأنفُسهم وفرض كينونتهم الخاصة، وبالنأي عن الاستقطاب السياسي الحزبي. وبذلك، تحوَّلت لجان المقاومة للمُثابرة في البحث عن موقعٍ لها في المجلس التشريعي المُرتقب كجسمٍ رقابيٍ لعمل الحُكومة التنفيذيَّة، ويُخضِع مُؤسَّسات الحُكم للمحاسبة، ويُصدر التشريعات الكفيلة بإصلاح المسار وتحقيق أهداف الثورة. ففي 4 نوفمبر 2020، استجابت “لجان المقاومة السُّودانيَّة” لدعوة قُوى الحُريَّة والتغيير، لمناقشة رُؤية لجان المُقاومة فيما يخُصُّ المجلس التشريعي (وقد شاهدت فيديو الحدث كاملاً). وذلك، بالرَّغم من أنَّ الدَّعوة للقاء قد جاءت بعد أن حسمت مركزيَّة قُوى الحُريَّة والتغيير الترتيبات الداخليَّة بالمُحاصَصَة وتقسيم نسب المقاعد على غرار ما حدث بمجلسي السيادة والوزراء وتعيين الوُلاة. وبذلك، رفضت لجان المقاومة التداوُل عن مشاركتها في المجلس بعد أن استمعوا للعرض الذي قدَّمه وفد المجلس المركزي، الذي ضمَّ بعض قيادات الجبهة الثوريَّة. شدَّد رئيس وفد لجان المقاومة في خطابه، قبل أن يطلب من رفاقه مغادرة القاعة، أنَّ كلمة الثوار ولجان المقاومة ستظل مجتمعة على ضرورة تشكيل مجلس تشريعي ثوري يُلبِّي تطلُّعات الثورة، وأنهم لن يقبلوا بأقل من نصف مقاعد المجلس.
الانتقال من الحراك الميداني إلى الفعل السياسي
البداية من مكان ما: المُؤتمر التفاكُري الأوَّل للجان المقاومة!
خلال فترة العامين من عُمر الانتقال، أطلعتُ على عددٍ مهولٍ من بيانات لجان المقاومة، في العاصمة والولايات، حول مختلف القضايا التي تتسيَّد السَّاحة السِّياسيَّة، إضافة لمُتابعة أغلب المُؤتمرات الصَّحفيَّة للجان المقاومة السُّودانيَّة، بجانب مُشاهدتي لمقاطع فيديو متعدِّدة لمواكب مليونيَّة ديسمبر الماضية احتفالاً بالذكرى الثانية للثورة. أوَّل ما لمستُهُ في هذا المشهد، هُو التطوُّر الملحوظ في العمل الميداني والحراك الثوري، من نواحي التنظيم والتنسيق الأفقي بين اللجان، ممَّا أفرز قيادات “ميدانية” أظهرت قُدُراتٍ هائلة ومهاراتٍ بارعة في القيادة. ومع ذلك، فإنَّ التحدِّي الرَّئيس أمام لجان المقاومة الشبابيَّة هو: الانتقال من الحِراك الميداني إلى الفِعل المُؤثر على عمليَّة صُنع القرار السياسي، كشرطٍ ضروري لتحقيق مطالب الثُوار والفوز بتمثيلٍ عادلٍ في المجلس التشريعي. فقد أظهرت مليونيَّة ديسمبر الأخيرة خلافاتٌ في الشعارات، وفي ترتيب أولويَّة المطالب، وفي توجُّهات لجان المقاومة السياسيَّة، وربَّما بُروز تيَّاراتٍ، والتي لا يُمكن مخاطبتها ومعالجتها “حركياً” أو “ميدانياً”، بل تحتاج إلى حواراتٍ عميقة بين لجان المُقاومة على كافة المستويات لوضع النقاط على الحُروف. وكما ذكرتُ في رسالتي في فبراير 2019، «هُناك عوامل ثلاثة رئيسيَّة ينبغي ألا تغيب عن ذهن الشباب أو تفوت على فطنتهم، وهُم في أتون حراك المُقاومة الميداني وهي: الرُّؤية الواضحة، القيادة، والتنظيم، لما بعد “تسقط بس”». وفي رأيي، أنَّ الحراك الميداني نفسه يُشكِّل منصَّةً لانطلاق هذا الانتقال نحو الفعل السياسي الأكثر تأثيراً على اتخاذ القرار في الدَّولة. فلا بُدَّ من بداية لكُلِّ عملٍ كبير، كما كان الزعيم الرَّاحل جون قرنق دائماً يُردِّد بأنه «لا بُدَّ أن تبدأ من مكان ما!»، وسأقترحُ على شباب لجان المقاومة من أين يبدأون.
ما لفت انتباهي في مواكب مِليونية 19 ديسمبر، أنه في خِضَمِّ الحراك الميداني يتوزَّع شباب اللجان في مجموعاتٍ صغيرة يتم فيها تبادُل الآراء والمعلومات. فماذا يمنع العمل على تطوير حلقات النقاش هذه إلى مِنبر للتفاكُر على مستوى لجان المُقاومة وتنسيقياتها في العاصمة القوميَّة؟ اقترحُ على القيادات الميدانيَّة، وتنسيقيات اللجان، أن تُفكِّر في عقد “اللقاء التفاكُري الأوَّل” أو “المؤتمر التمهيدي/التفاكُري”، ودعوة لجان المقاومة من كُلِّ حدبٍ وصَوْب للمُشاركة فيه. وبغضِّ النظر عن المُسميات، يظل الهدف العام من هذا اللقاء هو ابتدارُ عصفٍ ذهني، وتدشين الحوار بين مختلف لجان المُقاومة حول: كيف يتم الانتقال من الحراك الميداني للفعل المُؤثر على صناعة القرار، ومراجعة أدوات ووسائل تحقيق أهداف الثورة؟ أمَّا الهدف المُحدَّد، فهو توفير إجابات أوليَّة على أسئلة رئيسة، تُزيلُ أي التباسٍ حول ماهيَّة لجان المُقاومة، وتُشكِّل الأساس للتوافُق على أجنده اللقاءات المُستقبليَّة، لتُثمر في نهاية المطاف عن برنامج توافُقي وخُطة عمل تستهدي بها اللجان. تشمل التساؤُلاتَ هذه الموضوعات: تعريف متوافق عليه لهويَّة لجان المقاومة (مقاومة لماذا أو ضدَّ من؟) هل تُمثِل كيان سياسي، أم مجموعة/مجموعات ضغط/لوبيهات، أم لجان خدمات، كأساس للحُكم المحلي؟ ما هي الأهداف المُحدَّدة المُتوافق عليها، وطبيعة نشاطها، ووسائل تنفيذ الأهداف، بما فيها التمثيل المُنصِف في المجلس التشريعي؟ ما هي قراءة لجان المُقاومة للمشهد السياسي، وعلى أي قضايا تتفق رُؤاهم وتوجُّهاتهم؟ وأين مكامِن الخلاف، وكيف تتِم مخاطبتها؟ وكيف تحدِّد لجان المقاومة علاقتها بالقُوى السياسيَّة والمُجتمعيَّة؟ وهذا أمرٌ مُهم يستدعي الحوار مع هذه القُوى، خاصة تلك غير المُتحمِّسة لأن يكون الثُوَّار جزءً من العمليَّة السياسيَّة، أو تطوُّرهم في كيانات مُستقلة، وطمأنتها بأنَّ هذا التطوُّر يضيف إلى رصيد هذه القُوى ولا يخصم منها شيئاً. بل يضيف إليها. وربَّما الأهم هو كيف يعكف الثُوَّار على صياغة برنامج لبناء ورفع القُدرات واكتساب مهاراتٍ جديدة في مجال الإدارة العامة والتعرُّف على طبيعة عمل مُؤسَّسات الدَّولة، وذلك بطَرْقِ كل وسائل التدريب. وهناك العديد من المنظمات والهيئات المانحة المُهتمة بهذا الشأن، فأبواب التمويل مشرعة بطبيعة العالم الذي نعيش فيه. بالطبع، ليس من المُتوقع أن يُقدِّم هذا اللقاء إجابات قاطعة على كُلِّ هذه الأسئلة، ولكنه بمثابة إطلاق لصافرة الانتقال، وضربة البداية لتحديد أجندة اللقاءات التالية. ومن المُمكن أن يكتفي المُؤتمر الأول لتبادُل خطابات تنسيقيَّات لجان المقاومة وفق تنسيقٍ مُحكم تقوده القيادات الميدانيَّة. هذه القيادلت لا تعوزُها القُدُرات في استخلاص نتائج تبادُل الآراء في المُؤتمر، ومن ثمَّ تحديد أجندة وتنظيم اللقاءات المُقبلة، حتى تتفق لجان المُقاومة رؤية واضحة، قيادة مُتوافق عليها، ومن ثمَّ الاتفاق على مظلة تنظيميَّة يعملوا في إطارها. وإلا في غياب ذلك، فكيف يُمكن أن تحقق اللجان أهدافها؟ وكيف يتِم تمثيلها العادل في المجلس التشريعي، دون أن تكون عُرضة للاختراق والاستقطاب السياسي؟
أقترِحُّ أن تقوم قيادات تنسيقيَّات لجان المقاومة بالدَّعوة لهذا اللقاء الكبير الأوَّل بساحة الحُريَّة، في جنوب شرق الخُرطوم، تسبقه مُؤتمراتٌ قاعديَّة يُمليها غياب الجسم المركزي للجان. وذلك، ليلتئم شمل قواعد لجان المُقاومة في المُدُن الثلاث ومن الولايات، دون حاجة لاحتلالٍ أو اعتصام، مما يُظهر هَيْبة الثوار وجبرة الثورة. ولعلَّ هذه القيادات تتوافق على عقد اللقاءات دورياً، أو مناسباتٍ بعينها، فتُضفي قيمة إضافيَّة لساحة الحُريَّة، ويتخذونه منبراً لنشاطاتهم يُخلِّد اسم لجان المقاومة. فقد أملت الظروف الموضوعيَّة على شباب وثُوَّار ديسمير، في مقاومة وتحدِّي كبت نظام الإنقاذ، بتسيير المواكب وتوجيه المُظاهرات ونقل الاحتجاجات إلى القصر الجُمهُوري والقيادة العامَّة للقُوَّات المُسلَّحة في وسط الخُرطوم. بينما، الآن، توفِّر ساحة الحُريَّة مساحة واسعة بدلاً عن المواكب المُتفرِّقة القادمة من كُلِّ أنحاء العاصمة لتحشر نفسها في شوارع وسط المدينة الضيِّقة والمُحاطة بالمباني، والتي لا تسع جُمُوع المواكب للتجمُّع في فضاءٍ واحد. أم يقتصِر هدف الثوار ولجان المقاومة هُو التقاء وتجميع هذه المواكب للهُتاف بشعارات الثورة، ومن ثمَّ ينفضَّ السَّامر على وعدٍ ياللقاء في مناسبة أخرى؟ وفي نفس الوقت يُتيحُ الفضاء الواسع لساحة الحُريَّة الفرصة لالتقاء قواعد كل لجان المقاومة مع قياداتهم على امتداد البلاد والاستماع إليهم بسُهُولة، وهُو ما لم يكن مُتاحاً في مليونيات الثورة. ذلك، خاصة وأن المليونيَّات السابقة لم تقتصر المُشاركة فيها على لجان المقاومة، بل شاركت قوى سياسيَّة مختلفة ممَّا لم لا يُتيح سانحة لقيادات العمل الميداني لمخاطبة قواعدها مُباشرة، بينما كل فريقٍ يدَّعي أنه صاحب المصلحة. وثمَّة ميزة أخرى للتجمُّع في ساحة الحُريَّة، الذي يتيح الفرصة لوكالات الأنباء والقنوات الفضائيَّة والمنصَّات الإعلاميَّة المُختلفة لتقديم وبث صورة مكتملة ومتكاملة، تسهُل متابعتها للمُشاهد أو المُستمع، وهذا ما لم تكُن تسمح به المليونيات السابقة لصُعُوبة تجمُّعها في فضاءٍ واسع، مما جعل التغطية الإعلاميَّة مُجتزأة ومُجتزئة.
خاتمة
أرى أنَّ الوقت قد أزَفَ لتنتقل لجان المقاومة من حيِّز العمل الحركي الميداني إلى رحاب الفعل المُؤثر على صناعة القرار السياسي، والشُرُوع فوراً في مجابهة هذا التحدِّي الرَّئيس بعقد مُؤتمرهم التفاكُري الأوَّل. لا شكَّ، أنه من الأفضل الضَّرب على الحديد وهو ساخن، قبل أن تتفرَّق الجُمُوع ويذهب كُلٌ إلى سبيله. خلاصة الأمر، هُناك سؤالان ينبغي على الشباب ولجان المقاومة الإجابة عليهما: عاوزين شنو بالضبط؟ وكيف يمكن تحقيق ذلك؟ وقد لا تتوفر الإجابة إلا بابتدار حوارٍ عميق ومُوسَّع بين لجان المقاومة حول مشروع الرُّؤية السياسيَّة، وتقييم تجربتي قُوى إعلان الحُريَّة والتغيير ومُؤسسات الحُكم الانتقالي، حتى تُرسم خارطة طريق قابلة للتنفيذ لما يُريدون. إنَّ المُؤتمر التفاكُري المُقترح هو بمثابة آليَّة لتدشين انتقال الثوار ولجان المقاومة من حيِّز العمل الميداني إلى رحاب الفكر الأكثر تأثيراً سياسياً. أختمُ بأنَّ عقد اللقاء التفاكُري المفتوح، لا يعني بأي حالٍ من الأحوال، أن يكون بديلاً حصرياً للمليونيات، بل هُو بمثابة منبر لتدشين الانتقال من حيِّز العمل الميداني إلى رحاب الفعل الأكثر تأثيراً على القرار السياسي، وإقامة النشاطات والفعاليات الحيَّة والمُباشرة.
//////////////////