إلي السيد الإمام: ليتك تكمل المشوار!
kameir@yahoo.com
تورونتو، 14 أغسطس 2018
لم ينقطع تواصلي مع السيد الإمام خلال العشر سنوات الماضية. وبخلاف المراسلات بيننا، فقد قمت بزيارته أكثر من مرة في الخرطوم والقاهرة بغرض تبادل الآراء حول الهم الوطني العام ومواصفات المشهد السياسي في السودان في ظل التطورات الداخلية والإقليمية والدولية، وخيارات حل الأزمة السياسية الراهنة بالبلاد. آخر رسالة بعثتها له كانت بغرض حثه على العودة إلى البلاد بالنظر إلى الجدوى السياسية من بقائه بالخارج، سواء في مصر أو أي بلد آخر. ففي رأيي أنه لن يكتمل بناء تكتل سياسي معارض قوي ومتماسك طالما ظلت قيادات بقامة الإمام خارج البلاد، خاصة وأن حلفائه في نداء السودان من قيادات الحركات المسلحة لا تسمح أوضاعهم بعودتهم إلى الداخل. قدرة الإمام الصادق على الاستماع لمخالفيه في الرأي وتعاطيه الإيجابي مع أطروحاتهم، تحفزني الآن في توجيه رسالة مقتضبة له بخصوص مصير هذا التحالف على خلفية الخلاف المحتدم بين بعض قوى الحرية والتغيير حول تضمين ما توصلوا إليه من اتفاق في أديس أبابا حول قضايا الحرب والسلام، 25 يوليو 2019، في الوثيقة الدستورية، التي وقعت بالأحرف الأولى مع المجلس العسكري الانتقالي في الرابع من أغسطس 2019. ذلك، خاصة وقد وجهت رسالة قبل أيام إلى قيادات الجبهة الثورية، بجناحيها، أحثهم فيها على تفادي التصعيد والركون إلي الحوار للوصول إلى كلمة سواء تخرج البلاد من عنق الزجاجة.
البحث عن السلام
منذ النصف الثاني من عام 2012، في أعقاب اندلاع الاحتجاجات الشعبية في يونيو من نفس العام، بادر السيد الإمام بالإتصال بالحركات المسلحة بغية فتح الحوار معها بشأن قضايا الحرب والسلام والتوافق على رؤية مشتركة تدفع بالعمل المعارض إلى الأمام. فقد التقت نائبة رئيس الحزب برئيس حركة تحرير السودان، مني مناوي، أغسطس 2012، ووقعا مذكرة تفاهم مشتركة أثارت حراكاً سياسيا في البلاد وألقت حجراً في البركة السياسية السودانية، حيث أن الأوضاع السياسية الداخلية كانت لا تحتمل مجرد الاتصال بالحركات المسلحة ناهيك عن توقيع اتفاق معها. وبالرغم من الحملة التي وجهت ضد الاتفاق، بقي السيد الإمام في موقفه الصامد مدافعا عن الاتفاق ومتمسكا به.
هذه الهجمة الشرسة لم تثن السيد الإمام عن المضي قدما في البحث عن كل الوسائل المفضية لادماج الحركات المسلحة في العملية السياسية السلمية. فلم تكد ستة أشهر تمضي على مذكرة حزبه مع حركة تحرير السودان/مناوي إلا وشارك ممثل للحزب، ضمن وفد من قوى الاجماع الوطني، إضافة إلى ممثلين آخرين للمجتمع المدني والمرأة والحركات الشبابية، مع طاقم كامل من قيادات الجبهة الثورية، ضم كل من الفريق مالك عقار وعبد الواحد محمد نور، ومني اركو مناوي، ود. جبريل ابراهيم، وعبد العزيز الحلو. أسفر هذا اللقاء، الأول من نوعه بين القوى السياسية "المدنية" و"المسلحة" عن التوقيع على "ميثاق الفجر الجديد" بكمبالا، في 5 يناير 2013، وهي وثيقة وصفها المشاركون بهدية الجبهة الثورية وقوى الاجماع الوطني إلى الشعب السوداني.
لم يسلم السيد الإمام، وباقي القوى المشاركة، للمرة الثانية من تنديد ووعيد وتهديد من قبل النظام الحاكم ورئيسه الذي وسمه بالعمالة، ووصف الميثاق ب "الفجر الكاذب". بينما، تعرض أيضا لهجمة عنيفة من قبل الجبهة الثورية السودانية بشأن تحذيراته تبعات إسقاط النظام بالقوة، التي اتهمته بالسعي إلى فرض وصايا على الآخرين في اختيار وسائلهم النضالية. لم يمنع هذا التحامل "المزدوج" السيد الإمام من المنافحة عن مشروعية وضرورة مواصلة الحوار مع الفصائل المسلحة في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق من أجل تحقيق السلام والتحول الديمقراطي، على أن تكون الأولوية الأولى للحل السياسي.
فرضت الانتفاضة الشعبية في سبتمبر 2013، إثر الاحتجاجات التي اشتعلت في الخرطوم وبعض المدن الأخرى ضد سياسة رفع الدعم وغلاء الأسعار واقعا سياسيا جديدا. تزايد المعارضة السياسية وتصاعد العمل العسكري على النظام، مع تنازع مراكز القوة داخل الحزب الحاكم وفي مؤسسات الدولة، دفع الرئيس المخلوع بمبادرة الحوار الوطني، المشهور ب "الوثبة" في مطلع العام، يناير 2014. انقسم المجتمع السياسي وقواه النشطة حول جدوى المبادرة في ظل وضع استبدادي يقبض فيه الحزب الحاكم، ويهيمن على مفاصل السلطة، بينما الحرب مشتعلة في غرب وجنوب وجنوب شرق البلاد. فشاركت فيه عدة أحزاب بما في ذلك حزب الأمة القومي، بينما رفضته قوى الاجماع الوطني وامتنعت كل الحركات المسلحة المكونة للجبهة الثورية عن المشاركة في الحوار. ومع ذلك، لم تمض بضعة أشهر إلا ونفض السيد الإمام يده عن المواصلة فيه في أعقاب اعتقاله، في 17 مايو 2014، على خلفية توجيهه لاتهامات لقوات الدعم السريع بانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان في مناطق العمليات بدارفور وكردفان.
ومع ذلك، كشف تعامل النظام الفظ مع السيد الإمام عن رؤيته القاصرة لمفهوم الحوار مما حفز الإمام في استعادة ايقاع سعيه الحثيث للتفاهم مع الحركات المسلحة والتوصل معها إلى معادلة تضمن الربط بين تحقيق السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الكامل، وهو هدف لم يفتر عن ترديده والعض عليه بالنواجذ. فهكذا، غادر السيد الإمام البلاد إلى القاهرة مباشرة عقب إطلاق سراحه من المعتقل في يونيو، ليوقع في الثامن من أغسطس 2014، على "إعلان باريس" مع رئيس الجبهة الثورية، الفريق مالك عقار، تحت عنوان "التغيير الديمقراطى لإنهاء الحرب" وبناء دولة المواطنة والديمقراطية. شكل اللقاء نقلة نوعية في العلاقات بين الطرفين، إذ شهدته كل قيادات الجبهة الثورية، بما فيهم عبد الواحد محمد نور، بل صرح رئيس الجبهة، في تصريحات عقب مراسم التوقيع، "إنه إكراما للقاء التاريخي مع الصادق المهدي فإن الجبهة الثورية ستنفذ وقفا للعدائيات من طرف واحد لمدة شهرين"!
وفوق ذلك كله، كان "إعلان باريس" بمثابة حجر الأساس ل"نداء السودان" كتحالف عريض، انضمت إليه تنظيمات "قوى الاجماع الوطني" من أحزاب سياسية وتنظيمات "مبادرة المجتمع المدني"، الذي تم الإعلان عنه بأديس أبابا في 3 ديسمبر 2014. فلم يدخر السيد الإمام جهدا، ولم يستسلم لليأس من السعي في طريق السلام مع حلفائه الحاملين للسلاح حينما كانت الجبهة الثورية موحدة تنظيميا وقياديا أو حين انقسمت على نفسها إلى جبهتين، في أكتوبر 2015، أو حتى بعد انشقاق الحركة الشعبية إلى جناحين متصارعين في مارس 2017. وعلى نفس النهج، لعب السيد الإمام دورا رئيسا في توصل الآلية الأفريقية رفيعة المستوى إلى اتفاق مبادئ حول الحوار السوداني مع مجموعة "إعلان باريس"، من جهة، "وموفدي آلية 7+7 التي تمثل قوى المعارضة والحكومة في مبادرة الحوار الوطني، في سبتمبر 2014. وبعد فشل حوار "الوثبة" في اقناع المعارضة المدنية والمسلحة بالمشاركة فيه، وقف السيد الإمام إلى جانب حلفائه في الجبهة الثورية في رفض التوقيع على خارطة الطريق التي وقعتها الحكومة مع الوسيط الأفريقي، ثابو أمبيكي، في مارس 2016. فقد تمسك الإمام والجبهة الثوري بقراري مجلس الأمن والسلم الأفريقي 456 و539، ولم يقبلا على التوقيع على الخارطة إلا متأخرا في أغسطس 2016. في نهاية المطاف، لم تنجح الوساطة الأفريقية في تحقيق أهداف خارطة الطريق في جمع كل الأطراف السودانية حول طاولة التفاوض والتوصل إلي تسوية سياسية شاملة.
مع إعلان نهاية الحوار الوطني واصداره لمخرجانه، لم تعد نصوص خارطة الطريق الأفريقية قابلة للتطبيق، خاصة هدفها الرئيس في الحاق الحركات المسلحة بركب هذا الحوار، وانقطع الوسيط الأفريقي عن التواصل، بينما تواصلت اجتماعات قوى نداء السودان. فاجتمعت هذه القوى في مارس 2018 بباريس بغرض تمتين وحدة التحالف وأقرت مجلسا رئاسيا أوكلت قيادتة بالاجماع إلى السيد الإمام، الذي شدد على حدوث مستجدات بعد التوقيع على خارطة الطريق مشيراً إلى أن الشعب السوداني يتوقع تغيير النظام لا الحوار معه. وأكد البيان الختامي أن قوى نداء السودان لا صلة لها بحوار الوثبة أو تطبيق مخرجاته، بل ستسعى هذه القوى إلى التعبئة الشعبية على الإعتصامات والاحتجاجات لحدوث تحرك متراكم نحو انتفاضة الشعبية. بينما رهن إحياء خارطة استناداً على القرارات الإفريقية رقم 456 و539، والتزام النظام بإطلاق سراح المعتقلين وكفالة الحريات، مع الموافقة على اللقاء التمهيدي. وفوق ذلك، تم إعتماد إعلان دستوري يوجه ويحكم عمل نداء السودان بوصفه تحالف مدنى سلمى يرتكز على استخدام وسائل المقاومة السلمية الجماهيرية لتغيير النظام. في أبريل 2018، قادت مقررات هذا الاجتماع نيابة أمن الدولة إلى توجيه اتهامات تصل عقوبتها الحكم بلإعدام، شملت: تقويض النظام الدستوري، إثارة الحرب ضد الدولة، التجسس على البلاد، الدعوة لمعارضة السلطة بالعنف أو القوة الجنائية. والحاقا للإساء بالأذى، بعد ثلاثة أشهر من اجتماع باريس، رفضت القاهرة استقبال الإمام ومنعته من دخول الأراضي المصرية بعد عودته من برلين في 30 يونيو، بعد مشاركته في اجتماع تحالف نداء السودان.
في سبتمبر 2018، عاد الوسيط الأفريقي بعد غياب طويل من الساحة بحزمة مقترحات لإحياء العملية السلمية في السودان، بينها ادخال تعديلات على نفس الخارطة الموقعة قبل أكثر من عامين، مع خوض الانتخابات المقررة في 2020. فتعثرت الاجتماعات التشاورية التى دعا إليها ثابو أمبيكي الموقعين على خارطة الطريق بغرض تعديلها، وذلك بعد إصرار قوى نداء السودان على مشاركة كافة مكونات التحالف في الاجتماعات. وبذلك، لم تفلح الآلية الأفريقية رفيعة المستوى في تسويق تعديلاتها المقترحة على الخارطة، بينما كان للشارع السوداني رأيا آخر فبدأت الاحتجاجات الشعبية متزامنة مع اجتماعات أديس، في نهاية الأسبوع الأول من ديسمبر 2018، وتباشير الثورة تلوح في الأفق حتى تمت الإطاحة برأس النظام وبعض رموزه في 11 أبريل 2019. فأصبحت الوساطة الأفريقية في "خبر كان"!
بالرغم من أن انطلاقة الثورة في أولى اسابيعها كان مفاجأة من العيار الثقيل للقوى السياسية "المدنية" و"العسكرية" و"النقابية"، حتى تمكنت هذه القوى من التشاور على عجل للتوقيع على "إعلان الحرية والتغيير" في الأول من يناير. وقعت على الإعلان خمس "كتل" تحالفية تمثل هذه القوى وتتشكل من: تجمع المهنيين وتحالفي نداءالسودان والاجماع الوطني وتحالف القوى المدنية وتحالف الاتحادي المعارض. عقب عودة السيد الإمام البلاد في 19 ديسمبر 2018، عقدت قوى نداء السودان أول لقاء له بباريس خلال الأسبوع الثالث من مارس 2019. قرر الاجتماع الدفع في اتجاه تطوير وتوسيع التنسيق بين كافة قوى الحرية والتغيير وتحويله إلى جبهة موحدة، ورفض لأى حوار أو تفاوض مع النظام، الذي يسعى لشق صف هذه القوى، إلا في إجراءات تنحيه وتسليم السُلطة لممثلي الشعب.
السلام وانتقال السلطة
وفي ختام أول اجتماع لنداء السودان عقب انتصار الثورة بإزاحة رئيس النظام، بالعلصمة النمساوية فينا في 25 مايو 2019، أمن التحالف على ان التفاوض بين المجلس العسكري وقوى اعلان الحرية والتغيير وسيلة مثلى للٳنتقال السلس. وربما الأهم، تشديد الاجتماعات علي ضرورة ربط مفاوضات السلام التي تتم في منابر خارج السودان مع التفاوض حول نقل السلطة إلى سلطة مدنية، لضمان نجاح الفترة الانتقالية. وبالرغم من اعتذار السيد الإمام عن حضور الاجتماع أكد الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي التزام حزبه "بضرورة تكوين الحكومة المدنية القادمة وأن تكون أولوياتها هي تحقيق السلام العادل والشامل مع كل من يعنيه السلام حتى يكون السلام عادلا وشاملا وأن لا تكون مثل الاتفاقيات الماضية التي كانت مع بعض الفصائل ولم تخاطب جذور المشكلة وحصر الأمر لمحاصصة بين الأطراف المختلفة، مشددا بأن ذلك لن يتكرر وأن يشمل السلام الجميع".
ومع ذلك، فما نادى به السيد الإمام وتوقعه لم يحدث! فمنذ بداية التفاوض بين المجلس العسكري الانتفالي وقوى الحرية والتغيير، ومن ثم التوقيع على الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية بالأحرف الأولى، نشب خلاف حاد بين الجبهة الثورية، أحد مكونات نداء السودان، وبين بعض قوى الحرية والتغيير، ولو أن الجبهة نفسها جزء من هذه القوى. يتلخص جوهر الخلاف على مطلب الجبهة الثورية بضمانات لتنفيذ أحكام اتفاقيات السلام المزمعة إن تعارضت مع بعض بنود الوثيقة الدستورية، والمشاركة في تشكيل وإدارة الفترة الانتقالية طالما كانت متاحة لبقية الأطراف في قوى الحرية والتغيير. لم تفلح الاجتماعات المطولة لهذه القوى فى أديس أبابا، خلال الأسبوع الثاني من يوليو، ولا دعوتهم من قبل الحكومة المصرية إلى القاهرة، في نهاية الأسبوع الأول من أغسطس، في ردم الهوة بين الحلفاء، مع الاتفاق على مواصلة الحوار فيما بينهم.
إن عجز قوى الحرية والتغيير عن التوافق على قضايا السلام، وبوجه خاص نداء السودان يطعن في مصداقية، ويشكك في جدية تحالف تأسس بين القوى المدنية وتلك الحاملة للسلاح وظل يتحاور فيما بينه لسنوات طوال بغرض تحقيق هدفي السلام العادل والشامل والتحول الديمقراطي الكامل. ومن ناحية أخري، فالخلاف بين أطراف من قوى الحرية وللتغيير على إدراج الاتفاق على قضايا السلام وإدارة الفترة الانتقالية في الوثيقة الدستورية فسره جمهور الحركات المكونة للجبهة الثورية، في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق بأنه نكوص عن العهود لم يشذ عن نمط ممارسات النخبة النيلية. ومثل هذه التصورات، التى قد تكون أكثر تأثيرا من الحقيقة، تصب النار على زيت الاستقطابات الحادة جهويا واثنيا مما يهز حدة البلاد ويضعف تماسك الدولة.
والجدير بالذكر هنا، إن قضايا السلام المثارة لا تعني فقط الحركات المسلحة المكونة للجبهة الثورية، بشقيها، بل تشمل الحكات التي ما زالت تحمل السلاح، خصوصا الحركة الشعبية/ عبد العزيز الحلو، في انتظار التفاوض مع الحكومة "المدنية" المرتقبة، والذي إذا كان طرفا في الحوار بين قوى الحرية والتغيير لوقف في خندق واحد مع الجبهة الثورية. لا شك، كل هذا من شأنه أن يثير لاحقا جدلا دستوريا قد يعرقل عملية التفاوض مع كل الحركات المسلحة، بما قد يعطل العملية السياسية السلمية برمتها ويحول دون التوصل إلى اتفاق سلام دائم. ذلك، خاصة، وأن للحركة الشعبية/الحلو قضايا لم تتطرق لها المفاوضات بين قوى المجلس العسكرى وقوى الحرية والتغيير، وربما لم تخطر على بال المفاوضين، ولم تكن ضمن أجندتهم، تشمل حق تقرير المصير وفصل الدين عن الدولة والاحتفاظ بالجيش الشعبي لضمان تنفيذ أي اتفاق سلام مرتقب. لا مجال لقيادة الحركة الشعبية أن تتغافل عن هذه القضايا والتي عبر عنها مجلس التحرير الإقليمي واعتمدها المؤتمر العام للحركة في مقرراته، في أكتوبر 2017. لذلك، ينبغي أن ينظر إلى موضوع السلام في كلياته وإن كنا حقيقة نتعشم في الوصول إلى سلام عادل وشامل، فعلينا أن لا نمعن النظر في الأشجار ونغض الطرف عن الغابة.
سردت في الصفحات الأولى من هذا المقال مثابرة السيد الإمام في جهوده للتواصل مع الحركات المسلحة كخيار استراتيجي للوصول إلى تحقيق السلام الشامل والعادل، وشق طريقه والسهام تنتاشه من خصومه السياسيين، الذين يعدونه من رعاة "الهبوط الناعم"، وحتى لاعتراضات في داخل حزبه. كما أنه لم يهاب أو يكترث لتهديدات النظام الرامية لإجباره على التخلي عن حلفائه ممن اختار اللجؤ إلي حمل السلاح طالما قبلوا في العمل تحت مظلة سياسية. وبذلك، قطع السيد الإمام وعدا على نفسه ولجمهوره وحلفائه وشق طريقا شاقا وقطع مشوارا طويلا مزروعا بالألغام من أجل السلام والتحول الديمقراطي، ويا ليته يكمل المشوار!
والآن بعد أن نجحت الثورة في الإطاحة بالنظام سلميا، فإنه من المدهش والغريب أن تكتب لهذا المشوار الطويل الوعر، وعبور المحطات وتخطي العقبات، في الوصول إلى انتقال سلمي يحقق السلام الشامل والتحول الديمقراطي الكامل، هذه النهاية الحزينة المحبطة لقواعد قوى التغيير والشعب السوداني بأجمعه. هذان الهدفان التوأم لم يبارحا أجندة التحالفات السياسية وعلى رأسها نداء السودان، المتحالفة مع الحركات حاملة السلاح، فكيف تعجز هذه القوى عن التوافق على صيغة عن كيفية مشاركة هذه الحركات في تشكيل إدارة الانتقال، التي ظلت كافة أطياف المعارضة تنادي بها حين سقوط النظام؟ أم هي علة ولعنة التحالفات السياسية السودانية منذ فجر الاستقلال في نهايات الأربعينات من القرن الماضي؟
لماذا لا يدعو للسيد الإمام، بصفتة على رأس المجلس الرئاسي، الى اجتماع قيادي لقوى نداء السودان، خاصة وأنه لم يتمكن من المشاركة في الاجتماعيين المفصليين الأخيرين للتحالف في باريس، مارس 2019، وفي فينا، مايو 2019. فهل يكتفى برسالة من ثمان نقاط بعث بها إلى حلفائه من قيادات الجبهة الثورية، في 5 أغسطس الجاري؟ وإلا فما هي خطته لتنفيذ ما أورده في الرسالة من "كبسولات" هامة؟ وهي: الالتزام بما اتفق عليه في أديس أبابا دعماً للسلام، وإلحاق ذلك بالنص لدى التوقيع النهائي، تصحيح التصريحات السالبة، اللالتزام بتصحيح موقف الآخرين من الزملاء في الحرية والتغيير طالما كانت العلة إجرائية، بحسب تعبيره.
إن تماسك قوى الحرية والتغيير، ومن ثم تحقيق أكبر قدر من التوافق السياسي، شرط رئيس لضمان الانتقال السلمي للسلطة، وأي خلاف يضعف هذا التوافق أو يقلل من قدره سينال من وحدة قوى التغيير عامة، ويفتح الباب واسعا لقوى الثورة المضادة وبالتالي يشل قدرة الحكومة الانتقالية المدنية في انجاز أهداف الانتقال وغاياته. إن الأمر يستدعي بصورة ملحة لتنظيم اجتماع موسع لكل قيادات الكتل المشكلة لقوى الحرية والتغيير، فقد حان وقت تدخل القيادات السياسية التي تنتظر جموع الشعب السوداني الصابر منها أن تكون بوصلته الهادية وحاديه نحو حياة أفضل وواقع جديد يحفه السلام وتسود فيه الحرية والعدالة بكافة ألوانها.
أليس هذا النهج أكثر جدوىى من الركون للوساطة الخارجية، أفريقية كانت أم عربية، نستجديها الحلول لأزماتنا المتعاقبة؟ إن مخرجات مثل هذا الحوار الموسع، إن صدقت النوايا وتجلت إرادة التوافق، لا شك ستكون أفضل مردودا وأكبر تأثيرا من نصوص الوثائق والمواثيق. وقد صدق الوسيط الأفريقي في قوله "المشكلة ليست عندي.. أنا مجرد وسيط، المشكلة تكمن فيكم أنتم"، وذلك في معرض رده علي سؤال وجَّه اليه أحد الصحفيين عن مسببات فشله في تحقيق أي اختراقٍ في ملف مفاوضات سلام المنطقتين، برغم طول أمد تكليفه (صحيفة اليوم التالي، 29 اغسطس 2015).
ألم يحن الوقت لنقل الحوار عن سبل تحقيق السلام الشامل والعادل إلي داخل البلاد لتفتي فيه وتستفتي القيادات السياسية السودانية؟ ألم تزف اللحظة التى تستغني فيها هذه القوى عن أمبيكي، ألا نكتفي بود لبات ونودع به الوساطة الخارجية، بعد أن قطعت الأطراف بمشوار طويل وشائك وأصبحت في اليد وثيقة، رغم ما تحيط بها من عيوب، قابلة لإنهاء الطواف من عاصمة إلى أخرى؟ لا مجال ولا ذريعة للحديث عن الضمانات الإقليمية أو الدولية التي تقتضي التفاوض خارج البلاد. ودوننا في ذلك ما تعلمناه من تجربة اتفاقية السلام الشامل القريبة، والتي رغما عن ما أحاطها من رعاية ودعم إقليميا ودوليا، ما كان لها أن تحقق هدف الجنوبيين في تقرير مصيرهم لولا قوة الحركة الشعبية وتماسك قياداتها في حراسة وصون الاتفافية. أم سنترك المجال مفتوحا للمخابرات وصراعات المصالح الإقليمية والدولية، وكأنما الثورة السودانية لم تكن صناعة سودانية كاملة الدسم، لم تحتاج لمرشد أو خبير؟ ولعل ثورة الشعب السوداني تستعيد هذه المرة للسودان مجده القديم ودوره مضرب المثل باستضافة الخرطوم لمؤتمر "الالاءات الثلاث في فلسطين بعد أحداث أيلول الأسود في عام 1970، وفي استضافة قمة "الالاءات الثلاث" بعد هزيمة "النكسة" في يونيو 1967، التى أفضت الى المصالحة بين الزعماء العرب. وكما يقول المصريون "ده حتى" النظام البائد توفق في نهاية أيامه في جمع الفرقاء من السودانيين الجنوبيين على اتفاق لإيقاف الحرب! أم أن أمرنا أضحى كما صدح محمد وردي "حليل الكان بهدي الغير.. صبح محتار يكوس هداي..وآسفاي"!
في الختام: وإن كانت رسالتي موجهة إلي السيد الإمام بحكم ما سردته من وقائع، إلا أن غياب القيادة السياسية المتوافق عليها والقادرة على جمع الناس حولها، ضمن مطلوبات أخرى، يظل عائقا رئيسا لتحقيق أي سلام عادل أو تحول ديمقراطي حقيقي عبر انتقال سلمي للسلطة. وأبعث بذات الرسالة إلى قيادات قوى الحرية والتغيبر، المدنية منها والعسكرية، فقد علمتنا التجارب بأن طبيعة ومدى التغيبر الذي تحققه الثورات يكون دوما مرهونا بقدرات ومقدرات القوى القائدة لهذا التغيير في التماسك التنظيمي والرؤية الواضحة والقيادة المؤهلة والمتفق عليها بقدر كبير. لم تنجح أي تجربة انتقال بدون توفر هذه العوامل الثلاثة أو اثنين منها على الأقل لتحقيق التوافق السياسي، الشرط الضروري لأي انتقال سلمي للسلطة.