إمبراطوريات الورق وسياستنا الخارجية (1 من 2)
صحيفة التيار 28 يوليو 2020
تنشط في منطقة الشرق الأوسط والقرن الأفريقي حاليًا ثلاثة نماذج لأنشطة إمبراطورية توسعية. النموذج الأول هو النموذج الإيراني. والثاني هو النموذج السعودي الإماراتي، الذي تتحكم في أغلبه الأجندة الإماراتية. أما النموذج الثالث فيمثله التحالف التركي القطري الداعم لحركات الإسلام السياسي في المنطقة. تقف هذه القوى الثلاث وراء كل الحرائق والاضطرابات الجارية الآن في منطقة الشرق الأوسط. أصبحت إيران عقب الغزو الأمريكي، فاعلةً بقوة في العراق وامتد نشاطها فشمل سوريا، وصولاً إلى لبنان حيث يتحكم حزب الله. كما دخلت، أيضًا، منطقة جنوب البحر الأحمر، مستقطبةً الحوثيين، الذين خلقت منهم قوة رئيسية أضحت شوكةً في خاصرة المملكة العربية السعودية. وتسيطر على العناوين العريضة للأنباء، هذه الأيام، حرب الوكالة الدائرة في ليبيا بين المحور الإماراتي السعودي المصري، الداعم لقوات خليفة حفتر في شرق ليبيا، والمحور التركي القطري الداعم لحكومة السراج في غرب ليبيا. وتنخرط كل من روسيا وفرنسا فيما يجري هناك. ولا يقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بمبعدة من هذا الصراع.
ظهرت هذه النزعة الإمبراطورية في منطقتنا بعد نصف قرن ويزيد من أفول شمس الإمبراطوريات الكبرى. وقد وقفت وراء هذه الأحلام الإمبراطورية ثلاث نزعات: نزعةٌ أيديولوجيةٌ شيعيةٌ، تدفع بإيران إلى تمديد نفوذها، ونزعةٌ سنيةٌ، إخوانيةٌ، تدفع كلاً من تركيا وقطر في لتمديد النفوذ في المنطقة. ثم نزعة ثالثة، تسببت فيها التخمة المالية في دول النفط، تلازمت مع ضمورٍ في الخيال السياسي النهضوي التنموي، وعجزٍ عن استخدام القوة الناعمة، فكان الاعتماد في تمديد النفوذ على القوة الخشنة. ويبدو أن الاعتقاد في أن المال يمكن أن يفعل كل شيء هو ما يقف وراء الفعل السياسي الإماراتي والسعودي والقطري، على مستوي الإقليم. اتجهت الإمارات إلى صناعة جيش من المرتزقة، وظفته لنشر نفوذها في الإقليم وهي تبحث عن الأرض والموانئ فيما حول البحر الأحمر وخليج عدن. وجرَّت الإمارات معها المملكة العربية السعودية، التي انخرطت معها، لكن بحماس أقل. وتفعل كلٌّ من تركيا وقطر نفس الشيء في ليبيا وفي الشام. وقد امتد هذا النشاط إلى الصومال، وسقطرى، إضافةً إلى محاولات، كلا الحلفين من خلف الستار، للتحكم في المشهد السياسي السوداني عقب الثورة. ولو أن الإمارات والسعودية وقطر استخدمت المال والنفوذ السياسي في أقنية القوة الناعمة، لكسبت كثيرًا، ولحدثت في المنطقة نهضةٌ علمية واقتصاديةٌ واجتماعيةٌ شاملة. لكن اختارت هذه الدول الغنية درب القوة الخشنة، التي سوف تفشل في تحقيق أهدافها، بعد أن يحل بالمنطقة مزيدٌ من الدمار والتراجع.
تواجه الولايات المتحدة التي تمثل الإمبراطورية الأكبر في العالم اليوم، صعوباتٍ جمة في رسم الخرائط الجيوسياسية عن طريق القوة الخشنة، فأصبحت توكل هذا الدور إلى من تشعر أن لديهم أحلامًا إمبراطورية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط. ولسوف لن تفلح هذه الأحلام الإمبراطورية، إلا في تحقيق خطة الشرق الأوسط الكبير، في التشظية، التي تحدثت عنها كوندوليزا رايس قبل أكثر من عقد من الزمان. وسيذهب المال إلى الجيب الغربي والشرقي الذي يصنع السلاح. ستتفكك دول المنطقة وتتراجع جميع أحوالها، وسيكون الرابح والضاحك الأخير، هو الصهيونية العالمية والهيمنة الغربية. والعلة، كل العلة، في هذا العقل العربي، الذي يأبى أن يشب عن الطوق. لكن، لدينا نحن في السودان، الآن، فرصة ذهبية للانفلات من هذا المدار المدمر.
(يتواصل)