اتفاقية سلام جوبا: التمادي في بذل العهود المستحيلة (3)
د.عبد الله علي ابراهيم
13 March, 2025
13 March, 2025
عاد اتفاق سلام جوبا إلى واجهة خطاب السياسة والحرب في يومنا هذا. وأنشر نص ورقة كنت قدمتها لمؤتمر انعقد في مركز الدوحة في العام الماضي ما وسعني لكي يدور النقاش المتجدد عن الاتفاقية فوق علم باتفاق قل من اطلع على نصوصه.
الجبل والكهف
من الجهة النظرية صدرت اتفاقية سلام جوبا مثل سابقات لها عن سياسات الهوية والعرق التي جعلت من المركز، الذي نهضت الجبهة الثورية ضده، خصماً بضغينة العرق في سياساته لا بمجمل سياساته الوطنية. وهي السياسات التي أحفظت عليه طبقات اجتماعية، وقوى نوعية، وحزبية أسقطت ثلاثة نظم مركزية ديكتاتورية بالعصيان المدني بينما لم تبلغ الحركات المسلحة منها سوى عهود اشتهرت بالحنث بها دون البر. فبمقاربة المسلحين أزمة الحكم في السودان، التي تجسدت في القسط في توزيع السلطة والثروة، بمصطلح عرقي بحت بدوا معه، في قول أحدهم، كأنهم يريدون تغيير التركيبة العرقية للثروة والسلطة لا بديمقراطية اقتسامهما على السوية. ففي شيوع القسمة العرقية في الاتفاق مصداق لنقد كل من الفيلسوفين الأمريكيين رتشارد روتري ومارك ليلا للجيل من الليبراليين الأمريكية ليومنا لتركيزهم على الهويات العرقية والجندرية المغلوبة دون المظلمة الوطنية مما انشغل به اليسار القديم. ووقع هذا لأنه "غاب عنهم الحس عما يواثق بينا كمواطنين وما يربطنا حزمة كأمة". ومع التقدم الذي أحرزوه في نصفة جماعات الهوية تلك إلا أنهم، في قول مارك ليلا، خسروا رهان الأمة. ف"تراجعوا إلى كهوف كانوا حفروها لأنفسهم فيما كان جبلاً عظيماً"، أي في أمة كبيرة.
اتفقت اتفاقية سلام جوبا مع سابقاتها في مقاربة أزمة الحكم بمصطلح عرقي جهوي فاحتل تدارك بؤس التنمية في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق مكاناً مقدماً فيها. ولكن جاء شذوذها عنها في اختلاقها ما عرف ب"المسارات" وهو ترتيب رفع مظالم أقاليم أخرى في السودان في غير دارفور والمنطقتين لم تكن تشهر السلاح ضد الحكومة لدى عقد مفاوضات جوبا. ولم تأت تلك الأقاليم غير المحاربة بممثلين بتوافق سائر أهلها، بل بمن تصادف أن كان حليفاً للجبهة الثورية خلال نضالها لإسقاط نظام الإنقاذ. وكانت تلك عاهة في الاتفاق نجلاء أغبنت جماعات من تلك الأقاليم مثل جماعات في شرق السودان استنكرت الاتفاق بقوة وبالقوة لأنها لم تفوض من انتخبتهم الجبهة الثورية لتمثيلها في التفاوض نيابة عنها. وتخلقت بالنتيجة ما عرف ب"مشكلة شرق السودان" التي ايقظت فتناً نائمة، وضرجت الشرق بالخلاف والدم والإهانة.
عَنُف الشرق بسبب "مسار الشرق"، الذي هو من فضول القول في اتفاق للسلام، مما دعاني لتسميته مع مسارات غير محاربين آخرين ب"الزائدة السياسة". فكان تداعى مسلحو دارفور لمائدة جوبا للتفاوض حول السلام مستصحبين جماعات سياسية مدنية من أقاليم أخرى تحالفت معهم خلال نضالهم معاً لإسقاط نظام الإنقاذ كما تقدم. وهي الجماعات التي سميتها في موضع آخر "صحبة مسلح"، أي أنهم ما حصلوا على كرسيهم على مائدة المفاوضات أصالة، بل بفضل حليف مسلح. وكانت "الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة" ضمن من جاء صحبة مسلح ممثلة لشرق السودان في طاقم الجبهة الثورية. ونال الشرق بمساره، الذي مهرته الجبهة بتوقيعها، حظوظاً من الإصلاح والتنمية. وأثار ذلك الخلاف في الشرق. ولانتماء جبهة التحرير والعدالة لشعب البني عامر جاء مسار الشرق في اتفاق جوبا على صورتهم لما ينبغي لمركز الدولة عمله لرفع الظلامة عن سائر الشرق غير المحارب. وأغضب ذلك الترتيب شعب الهدندوة التاريخي بقيادة ناظرهم محمد الأمين ترك وآخرين. وبين الجماعتين خصومة سبقت الثورة على نظام الإنقاذ أغبنت بعض مفرداتها البني عامر ففرجوا عنها بتضمينها نص اتفاق مسار الشرق.
فنفذ البني عامر وحلفاؤهم بالمسار إلى رفع مظلمة قديمة من استبعادهم من اتفاق الشرق في ٢٠٠٦ وصندوقه الثري الذي استفرد به موسي محمد أحمد مساعد رئيس الجمهورية، أي الهدندوة في نظر غيرهم. فجعلوا مراجعة الصندوق وهيكلته مادة في اتفاق مسار الشرق مع وجوب تمثيل الموقعين عليه في مجلس إدارته والشورى معهم فيمن يكون مديره. والحق أن الصندوق أزكم فساده الأنوف حتى حله محمد طاهر إيلا وهو على سدة رئاسة الوزارة القصيرة قبيل سقوط نظام الإنقاذ في ابريل 2019. من جهة أخرى، جاءت التحرير والعدالة في اتفاق الشرق بمادة عن معالجة موضوع النازحين بالإقليم، وتوفير الخدمات الأساسية لهم من مسكن وصحة، وتعليم، وأمن، وغيره. وما يسميهم البني عامر "نازحون" هم عند الهدندوة "لاجئون" من أرتيريا. فليس مستغرباً ألا يقبل الهدندوة بهذه المادة التي تهجس لهم كمحاولة من البني عامر تقنين وجود جمهرة من أهلهم النازحين من أريتريا.
وليس ما أغبن الهدندوة وجرعهم الإهانة التواثق في جوبا على مسار عن إقليمهم من وراء ظهرهم فحسب، بل مادة في الاتفاق أيضاً عن انعقاد مؤتمر تشاوري لأهل الشرق يتنادى له من لم يحضروا قسمة جوبا لاطلاعهم على الاتفاق وأخذ شورتهم. ورأى الهدندوة في هذا عتواً استباحت به الجبهة الثورية إقليماً بحاله تفاوض عنه بمن انتخبته ممثلاً له اعتباطاً بغير اعتبار لتضاريسه السياسية والديموغرافية. وتخلق من يومها ما عرف ب"مشكلة الشرق" التي لم ينعقد مؤتمر عن اتفاق جوبا، أو مبادرة للم الشمل الوطني منذها لم تكن فيه حاضرة. فتمسكت الجبهة الثورية بحرفية اتفاق جوبا بمساراته بينما سعت هذه القاءات والمبادرات المناورة من حوله لإرضاء الهدندوة. وهيهات.
لم يكن ليكن فينا اتفاق الشرق لولا مصادفة انتماء الجبهة الشعبية للتحرير للجبهة الثورية كصحبة مسلح لا مسلحاً. فلو كان الطرف المفاوض للحكومة هو الجبهة الشعبية (الحلو) لربما اختلف الاتفاق لأن في كتلة الحلو جماعات أخرى من الشرق صحبة مسلح.
ولا أدرى كيف ساغ للجبهة الثورية المضي في اتفاق لمسار الشرق وهو مهيض الأطراف هكذا. ولماذا داخلها أن اتفاقها المعلول سيحظى بقبول كيانات في الشرق لم تكترث هي لحضورهم. وتعلل الموقعون على اتفاق المسار بأنهم لم يعزلوا أحداً طالما جاؤوا للشرق بحقه كاملاً غير منقوص وقد رتبوا لمؤتمر للشورى حول محتواه. وتلك إساءة بعد التجريح. فمَن غيبتهم الجبهة الثورية عن المفاوضات والتوقيع على الاتفاق ليسوا رعايا تمضي الأمر عنهم وكالة. فلربما كان لهم رأياً فيما يستحقه الشرق أفضل مما جئت به، أو أنقص من ذلك قليلا. فهذه منة منك لا حقاً.
ibrahima@missouri.edu
الجبل والكهف
من الجهة النظرية صدرت اتفاقية سلام جوبا مثل سابقات لها عن سياسات الهوية والعرق التي جعلت من المركز، الذي نهضت الجبهة الثورية ضده، خصماً بضغينة العرق في سياساته لا بمجمل سياساته الوطنية. وهي السياسات التي أحفظت عليه طبقات اجتماعية، وقوى نوعية، وحزبية أسقطت ثلاثة نظم مركزية ديكتاتورية بالعصيان المدني بينما لم تبلغ الحركات المسلحة منها سوى عهود اشتهرت بالحنث بها دون البر. فبمقاربة المسلحين أزمة الحكم في السودان، التي تجسدت في القسط في توزيع السلطة والثروة، بمصطلح عرقي بحت بدوا معه، في قول أحدهم، كأنهم يريدون تغيير التركيبة العرقية للثروة والسلطة لا بديمقراطية اقتسامهما على السوية. ففي شيوع القسمة العرقية في الاتفاق مصداق لنقد كل من الفيلسوفين الأمريكيين رتشارد روتري ومارك ليلا للجيل من الليبراليين الأمريكية ليومنا لتركيزهم على الهويات العرقية والجندرية المغلوبة دون المظلمة الوطنية مما انشغل به اليسار القديم. ووقع هذا لأنه "غاب عنهم الحس عما يواثق بينا كمواطنين وما يربطنا حزمة كأمة". ومع التقدم الذي أحرزوه في نصفة جماعات الهوية تلك إلا أنهم، في قول مارك ليلا، خسروا رهان الأمة. ف"تراجعوا إلى كهوف كانوا حفروها لأنفسهم فيما كان جبلاً عظيماً"، أي في أمة كبيرة.
اتفقت اتفاقية سلام جوبا مع سابقاتها في مقاربة أزمة الحكم بمصطلح عرقي جهوي فاحتل تدارك بؤس التنمية في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق مكاناً مقدماً فيها. ولكن جاء شذوذها عنها في اختلاقها ما عرف ب"المسارات" وهو ترتيب رفع مظالم أقاليم أخرى في السودان في غير دارفور والمنطقتين لم تكن تشهر السلاح ضد الحكومة لدى عقد مفاوضات جوبا. ولم تأت تلك الأقاليم غير المحاربة بممثلين بتوافق سائر أهلها، بل بمن تصادف أن كان حليفاً للجبهة الثورية خلال نضالها لإسقاط نظام الإنقاذ. وكانت تلك عاهة في الاتفاق نجلاء أغبنت جماعات من تلك الأقاليم مثل جماعات في شرق السودان استنكرت الاتفاق بقوة وبالقوة لأنها لم تفوض من انتخبتهم الجبهة الثورية لتمثيلها في التفاوض نيابة عنها. وتخلقت بالنتيجة ما عرف ب"مشكلة شرق السودان" التي ايقظت فتناً نائمة، وضرجت الشرق بالخلاف والدم والإهانة.
عَنُف الشرق بسبب "مسار الشرق"، الذي هو من فضول القول في اتفاق للسلام، مما دعاني لتسميته مع مسارات غير محاربين آخرين ب"الزائدة السياسة". فكان تداعى مسلحو دارفور لمائدة جوبا للتفاوض حول السلام مستصحبين جماعات سياسية مدنية من أقاليم أخرى تحالفت معهم خلال نضالهم معاً لإسقاط نظام الإنقاذ كما تقدم. وهي الجماعات التي سميتها في موضع آخر "صحبة مسلح"، أي أنهم ما حصلوا على كرسيهم على مائدة المفاوضات أصالة، بل بفضل حليف مسلح. وكانت "الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة" ضمن من جاء صحبة مسلح ممثلة لشرق السودان في طاقم الجبهة الثورية. ونال الشرق بمساره، الذي مهرته الجبهة بتوقيعها، حظوظاً من الإصلاح والتنمية. وأثار ذلك الخلاف في الشرق. ولانتماء جبهة التحرير والعدالة لشعب البني عامر جاء مسار الشرق في اتفاق جوبا على صورتهم لما ينبغي لمركز الدولة عمله لرفع الظلامة عن سائر الشرق غير المحارب. وأغضب ذلك الترتيب شعب الهدندوة التاريخي بقيادة ناظرهم محمد الأمين ترك وآخرين. وبين الجماعتين خصومة سبقت الثورة على نظام الإنقاذ أغبنت بعض مفرداتها البني عامر ففرجوا عنها بتضمينها نص اتفاق مسار الشرق.
فنفذ البني عامر وحلفاؤهم بالمسار إلى رفع مظلمة قديمة من استبعادهم من اتفاق الشرق في ٢٠٠٦ وصندوقه الثري الذي استفرد به موسي محمد أحمد مساعد رئيس الجمهورية، أي الهدندوة في نظر غيرهم. فجعلوا مراجعة الصندوق وهيكلته مادة في اتفاق مسار الشرق مع وجوب تمثيل الموقعين عليه في مجلس إدارته والشورى معهم فيمن يكون مديره. والحق أن الصندوق أزكم فساده الأنوف حتى حله محمد طاهر إيلا وهو على سدة رئاسة الوزارة القصيرة قبيل سقوط نظام الإنقاذ في ابريل 2019. من جهة أخرى، جاءت التحرير والعدالة في اتفاق الشرق بمادة عن معالجة موضوع النازحين بالإقليم، وتوفير الخدمات الأساسية لهم من مسكن وصحة، وتعليم، وأمن، وغيره. وما يسميهم البني عامر "نازحون" هم عند الهدندوة "لاجئون" من أرتيريا. فليس مستغرباً ألا يقبل الهدندوة بهذه المادة التي تهجس لهم كمحاولة من البني عامر تقنين وجود جمهرة من أهلهم النازحين من أريتريا.
وليس ما أغبن الهدندوة وجرعهم الإهانة التواثق في جوبا على مسار عن إقليمهم من وراء ظهرهم فحسب، بل مادة في الاتفاق أيضاً عن انعقاد مؤتمر تشاوري لأهل الشرق يتنادى له من لم يحضروا قسمة جوبا لاطلاعهم على الاتفاق وأخذ شورتهم. ورأى الهدندوة في هذا عتواً استباحت به الجبهة الثورية إقليماً بحاله تفاوض عنه بمن انتخبته ممثلاً له اعتباطاً بغير اعتبار لتضاريسه السياسية والديموغرافية. وتخلق من يومها ما عرف ب"مشكلة الشرق" التي لم ينعقد مؤتمر عن اتفاق جوبا، أو مبادرة للم الشمل الوطني منذها لم تكن فيه حاضرة. فتمسكت الجبهة الثورية بحرفية اتفاق جوبا بمساراته بينما سعت هذه القاءات والمبادرات المناورة من حوله لإرضاء الهدندوة. وهيهات.
لم يكن ليكن فينا اتفاق الشرق لولا مصادفة انتماء الجبهة الشعبية للتحرير للجبهة الثورية كصحبة مسلح لا مسلحاً. فلو كان الطرف المفاوض للحكومة هو الجبهة الشعبية (الحلو) لربما اختلف الاتفاق لأن في كتلة الحلو جماعات أخرى من الشرق صحبة مسلح.
ولا أدرى كيف ساغ للجبهة الثورية المضي في اتفاق لمسار الشرق وهو مهيض الأطراف هكذا. ولماذا داخلها أن اتفاقها المعلول سيحظى بقبول كيانات في الشرق لم تكترث هي لحضورهم. وتعلل الموقعون على اتفاق المسار بأنهم لم يعزلوا أحداً طالما جاؤوا للشرق بحقه كاملاً غير منقوص وقد رتبوا لمؤتمر للشورى حول محتواه. وتلك إساءة بعد التجريح. فمَن غيبتهم الجبهة الثورية عن المفاوضات والتوقيع على الاتفاق ليسوا رعايا تمضي الأمر عنهم وكالة. فلربما كان لهم رأياً فيما يستحقه الشرق أفضل مما جئت به، أو أنقص من ذلك قليلا. فهذه منة منك لا حقاً.
ibrahima@missouri.edu