استفيدوا من التجربة الباكستانية هي الاقرب لنا

 


 

 


تتشابه الأوضاع والظروف في باكستان والسودان كثيرا ، مع احتفاظ كل بلد بخصوصيته . وهذا التشابه يقودني إلى أن أدعو للنظر في التجربة الباكستانية والاستفادة منها خاصة في الظرف الحالي الذي تعيشه بلادنا .
وأول ما يلفت النظر أن باكستان والسودان ، كلاهما يمتلكان أراض شاسعة ومناخ متنوع . تبلغ مساحتها 881,913 كم مربعا (340,509 ميل مربعا) وعدد سكانها يتجاوز 205 مليون نسمة سنعود للكلام عن الفارق بين الدولتين من حيث عدد السكان لاحقا .
وتبلغ مساحة السودان 1،886،068 كيلومترا مربعا (728،215 ميلا مربعا) وعدد سكانه 43 مليونا .
رغم الفارق الكبير في المساحة الذي يبلغ مليون كيلومترا بالتمام والكمال والفرق الكبير في عدد السكان ، إلا أن التوازن بين الاثنين يؤكد ما نود بلوغه من هذا المقال .
مرت باكستان بظروف سياسية أقرب ما تكون للسودان من إنقلابات عسكرية إلى حكم مدني بالتناوب منذ انفصالها عن الهند عام 1947م .
لكن التاريخ الحقيقي للحكم يبدأ من العام 1956 م عندما أعلن ميلاد الجمهورية . وصل ثلاثة جنرالات إلى السلطة عبر انقلابات عسكرية ناجحة في تاريخ باكستان - محمد أيوب خان عام 1958، ومحمد ضياء الحق في 1977 وبرويز مشرف في 1999.
وقد تعرض السودان لثلاثة انقلابات نجحت في حمل ثلاثة جنرالات للحكم ، ابراهيم عبود في عام 1958 نفس التاريخ الذي استولى فيه محمد أيوب خان للسلطة في باكستان عبر إنقلاب أيضا ، ثم نجح النميري في اقلاب آخر في عام 1969 ، وجاء انقلاب الانقاذ عام 1989 قبل عام من انقلاب برويز مشرف في باكستان .
كان بعد كل انقلاب يقوم المدنيون بتكوين حكومة منتخبة ، لا تلبث أن تفاجأ بإنقلاب عسكري جديد .
يسيطر على باكستان انتخابيا حزبان كبيران وهما حزب الشعب الباكستاني ويعرف اختصارا ب (بي بي ) وقد أسسه ذو الفقار على بوتو عام 1967م ثم حزب حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية (ن) هو حزب سياسي باكستاني يصنف على أنه حزب يمين وسط و يرمز حرف (ن) إلى جناح نواز . انشق الحزب من حزب الرابطة الإسلامية عام 1993.
ثم حزب ثالث يمثل تيارا جديدا استطاع أن يكسر احتكار الحزبين الكبيرين للسلطة ويفوز في آخر انتخابات عام 2018م ، وهو حركة تحريك الانصاف الباكستانيه أسسها الكابتن السابق لفريق الكريكت الباكستاني عمران خان يوم 25 أبريل 1996 في مدينة لاهور .
النظام السياسي الباكستاني هو جمهورية برلمانية رئيس الدولة فيها سيادي فقط مع سلطات محدودة والسلطة كلها في يد رئيس الحكومة المنتخبة من نواب الشعب ، وهو تقريبا نفس النظام عندنا مع اختلاف ما افرزته الثورة من شراكة عسكرية ومدنية في رأس السلطة .
عانت باكستان من الاستعمار الإنجليزي الذي كان مسيطرا على معظم شبه القارة الهندية ، تماما كما كان مسيطرا على السودان . وخلف بعد خروجه مشكلات كثيرة لا مجال للكلام عنها الآن .
انفصلت دولة بنقلاديش عن الدولة الباكستانية ، في أحداث لا نريد التطرق إليها الآن ولكنه يبدو مشابها لانفصال الجنوب السوداني في بعض جوانبه ، وهو نوع من الشبه بين الدولتين وإن اختلفت الظروف .
يعتمد معظم الباكستانيين على الزراعة كمورد رئيس لهم ، خاصة في إقليم البنجاب ذي الكثافة السكانية العالية . وهو في هذا المجال يشبه الاقتصاد السوداني القائم على الزراعة .
هذه تقريبا معظم نقاط التشابه ذكرناها مجملة ، مع الاشارة للتنوع السكاني الإثني والعرقي والمذهبي .
فمع كون أن السكان غالبيتهم العظمي من المسلمين كما في السودان إلا أن في باكستان يبدو الاختلاف المذهبي واضحا في التركيبة السكانية وأقل منه لحد ما الاختلافات الإثنية مع تأثيرها الذي لا تخطئه العين .
لكن مع كل ذلك الاختلاف لكن اللافت للنظر هو حب الباكستانيين لبلدهم وتعصبهم له لدرجة كبيرة وكافية لتحفظ للبلد وحدته وتكسبه القوة في الوجود .
ورث الباكستانيون خدمة مدنية ممتازة لحد كبير ، وقد حافظوا عليها مع اختلاف الأنظمة التي مرت على حكمهم . وهذا بخلاف ما حدث عندنا حيث بلغ تدهور الخدمة المدنية أوجه خاصة في عهد الإنقاذ .
الاقتصاد الباكستاني عانى كثيرا من الركود وتعرض للكثير من الهزات لأسباب كثيرة ، أبرزها هو المتغيرات السياسية من اقلابات وعودة لم تكن مستقرة للحكم المدني .
لكن اللافت للنظر هو حالة الاستقرار الكبيرة التي تشهدها باكستان منذ الاطاحة بالجنرال مشرف ثم ما حدث من انتخابات فاز فيها حزب الرابطة الاسلامية بقيادة نواز شريف ثم آخر انتخابات تم فيها الفوز لحزب حركة تحريك الانصاف بقيادة رئيس الوزراء الحالي عمران خان .
للدلالة على قوة الاقتصاد الباكستاني نجد أن الروبية الباكستانية بالرغم من ما أصاب الاقتصاد العالمي من ركود بسبب جائحة كرونا إلا أنها تشهد انتعاشا متواصلا .
لا تشهد باكستان أي أزمة من الأزمات الاقتصادية التي تواجه السودان هذه الأيام ، فلم تشهد باكستان أزمة في الوقود أو في الخبز أو الغاز على مدى عقود من الزمان ، ربما اختناقات عابرة لا يحس بها المواطن العادي في أغلب الأحوال .
لا يعرف الباكستانيون افران الخبز كالتي عندنا في السودان ، بل جل المخابز عبارة عن متجر صغير مزود بفرن بلدي يستخدم الغاز العادي للطهو ، ويعمل فيه ثلاثة على الأكثر . مخبز هكذا م الممكن أن يوفر أنواعا من الخبز مختلفة تطعم نصف حى كبير ، في الغالب يوجد منها اثنان ، أو ثلاثة في الحى الواحد . لا صفوف ولا ازدحام . وأظن أن هذا النوع من المخابز البسيطة مناسب جدا للسودان .
لقد قامت باكستان من فترة طويلة بحل مشكلة الوقود ، فلا تجد صفوف ولا أزمة طاقة على الإطلاق وعلى مدى عشرين عاما لم أر صفوفا في محطة بنزين ، إلا مرة واحدة ولم يكن صفا طويلا ولم يدم ذلك إلا بضع ساعات ، وكان السبب في ذلك هو أزمة في الترحيل ولم تكرر أبدا .
تتغير أسعار لتر البنزين والجازولين مرة بعد مرة ، في محطات الخدمة ، وذلك لأن أسعارها محررة بالكامل وفقا للأسعار العالمية ، والمعروف أن أسعار البترول تتأرجح صعودا وهبوطا .
بذلك عالجت باكستان مسألة تأمين الطاقة وأغلقت الباب أمام تهريبها للخارج ، لأنه لا فائدة من ذلك لعدم ربحية العملية .
وهذا ما نحتاج إليه في السودان لمعالجة أزمة الطاقة وعملية تهريبها للخارج .
قد يقول القائل إن قيمة الدولار غير ثابتة وهذا ستجعل من غير الممكن متابعتها وتحديد سعر لتر البنزين والجازولين ، وهذا الكلام يبدو سليما من أول وهلة ، لكن إذا فكرنا مليا فإن الأمر ممكن تماما فيكون بيع لتر البنزين مثلا بالسعر الذي تم الشراء به بعد إضافة المصاريف الأخرى ، حتى نفاذ الكمية ومن ثم تدور العملية مرة أخرى . هنا العملية تحتاج لرقابة حقيقية وفاعلة حتى لا يستغل الموزعون فرق الأسعار في زيادة السعر .
من المستحيل بعد تحرير أسعار الوقود أن يفكر أحد في بيعه في السوق الأسود أو في تهريبه .
نفس ما يجب أن يكون عليه الحال بالنسبة للوقود السائل يمكن أن يكون بالنسبة للغاز .
اهتمت باكستان بزراعة المحاصيل الغذائية التي يستهلكها المواطن وبالصناعة المرابطة بها ، فهم قلما يستوردونها من الخارج وذلك مثل القمح ومختلف البقوليات والخضروات والفواكه ، ولذلك ستجد استقرارا نسبيا في اسعارها وذلك على حسب مواسمها .
فعلى السودان ان يوجه طاقته لزراعة ما يستهلكه الناس وعلى الدولة تشجيع المزراع وتوفير مدخلاتها اللازمة لها .
فمن العيب أن نستورد من الخارج أشياءنا الضرورية لمعاشنا اليومي .
نسبة لربط السلع بالسياسة النقدية الحرة فإن وزارة التجارة في باكستان تلزم كل مورد أو مصنع لسلعة أن يضع على سلعته سعرها للمستهلك مبينا مقدار الضريبة عليها .
فليس هناك سعلة تباع من غير هذه الديباجة التي تحمل أيضا تاريخ صنعها وانتهاء الصلاحية أيضا .
من الأمور المهمة هنا أن نذكر ان باكستان التي يعمل عدد كبير من سكانها في الخارج قد وضعت سياسات تشجيعية لجذب مدخرات الباكستانيين في الخارج وتتمثل في حرية ارسال الأموال في حسابهم في البنوك وحرية الايداع والسحب من غير قيود ، وحرية البيع للنقد الاجنبي في الصرافات ، وهذا ما جعل وارد البلد من النقد الاجنبي يزداد يوما بعد يوم وقد اثرت تلك السياسات الرشيدة في رفع قيمة العملة المحلية بصورة كبيرة .
السودان بعد رفع اسمه من قائمة الدول الداعمة للارهاب عليه أن يعمل ممثلا في وزارة المالية على وضع سياسات جديدة لجذب مدخرات السودانيين في الخارج ، ولا بأس من وضع بعض الحوافز لهم لتشجيعهم ، منها مثلا تسهيل إجراءات امتلاك الأراضي للمغترب إذا أرسل للبلد عبر القنوات الرسمية ما يعادل مبلغا من العملة الاجنبية تحدده وزارة المالية ، وكذا في أمر استيراد السيارات وما يلزم المغترب من أثاث منزلي يكون معفى من كافة الضرائب بموجب ما التزم به من ايداع للنقد الاجنبي .
قد تكون بعضا مما ورد موجود في سياسة بنك السودان الحالية لكنه غير مفعل ولا يعلم به الكثير من الناس .
قد يعيب البعض على ما طرحته سابقا أنه يدعو إلى تحرير أسعار الوقود والخبز ، ويقول إنها وصفة صندوق النقد الدولي ، وما يهمنا هو شيئآن هما توفير السلعة ومحاربة التهريب ، ولا مهرب لحل هاتين المعضلتين إلا بتحرير أسعار الوقود والدقيق ( الخبز ) . وافقت تلك السياسة وصفة البنك الدولي أم لم توافقه .
هذا مجرد رؤية أو نظرة يمكن أن تطرح حلولا قد يوافق عليها البعض وقد يرفضها لكنها تظل مطروحة ما لم تجد البديل .
وقد عملت بها دولة في العالم ( باكستان ) ونجحت في تقديري ، ولا مانع من تجربتها في بلدنا مع ملاحظة أننا أكبر مساحة من باكستان وأقل عددا .

moniem1958@gmail.com

 

آراء