استقلال السودان وخطاب البرهان

 


 

عمر هواري
2 January, 2022

 

بسم الله الرحمن الرحيم
(وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) صدق الله العظيم

في أمسية الذكرى السادسة والستين لاستقلال السودان أطل علينا القائد الأعلى لقوات الشعب المسلحة ورئيس المجلس العسكري الفريق أول عبد الفتاح البرهان، من خلال شاشة تلفزيون جمهورية السودان، ليلقي على مسامعنا خطبة مقتضبة وبائسة بهذه المناسبة.. وكان أن سبقتها بيوم واحد مجزرة امدرمان التي قتل فيها جنود البرهان ستة من خيرة شباب الثورة جراء إصابات، بعضها بالرصاص الحي، من قناصة يرجح انهم أطلقوها من سقف مستشفى علياء التي تتبع للجيش.. وقد أصيب أحد الشهداء بمقذوفة (دوشكا) هشمت جمجمته وآخر انفجرت عبوة بمبان في صدره وهتكت رئتيه.. وخلال هذه المجزرة الحزينة أصيب المئات من المتظاهرين السلميين الذين خرجوا ينددون بالانقلاب العسكري، الذي قام به الفريق البرهان في 25 أكتوبر 2021، وينادون بحكومة مدنية، بعيدة عن سيطرة العسكر ومن يقف معهم من فلول النظام البائد، تهيئ البلاد لانتخابات حرة ونزيهة، يختار فيها الشعب من يحكمه.. لكن خطة البرهان ولجنته الأمنية، والفلول التي تدعمه، وشلة المتسلقين العاطلين من المواهب والذين يسعون الى اقتسام كيكة السلطة والثروة معهم، تركزت حول كبت هذه الثورة بكل سبيل، وذلك بعدم اتاحة الفرصة للثوار ليعبروا عن رأيهم الرافض للحكومة الانقلابية، او للاتفاق الذي أبرمه البرهان مع رئيس الوزراء السابق الدكتور عبد الله حمدوك في يوم 21 نوفمبر 2021 لشرعنة هذا الانقلاب، وتخفيف غلواء الاستهجان العالمي والإقليمي والداخلي الذي واجهه منذ يومه الأول.. فقاموا بقفل الكباري التي تربط مدن العاصمة الثلاث بالحاويات، ثم أصدر البرهان مرسوما يعطي القوات الأمنية حق الاعتقال والتفتيش في البيوت، ويحصنها من المساءلة القانونية إزاء ما يمارسه أفرادها من بطش معروف وعنف بالثوار وبالمواطنين.. وكان قبلها أن عين البرهان كوادر من حكومة الاخوان المسلمين المنحلة في رئاسة القضاء والنائب العام وجهاز الأمن والمخابرات وكذلك في أجهزة الإعلام ومواقع عدة في الخدمة المدنية.. وكانت نتيجة ذلك تزايد موجة العنف بالثوار فانهال عليهم البمبان والرصاص الحي من كل حدب وصوب، وضُرب من وقع منهم في قبضة هؤلاء الجنود ضربا جماعيا مبرحا بالعصي وركلوا بالأرجل بصورة لا تمت الى الرجولة او الجندية بشيء.. ولم تسلم من هذا العنف العنيف حتى النساء حيث نقلت الفيديوهات صورة أحداهن وقد تم انزالها عنوة من إحدى المركبات العامة وتم ضربها حتى تهشم فكها وفقدت أسنانها وتمت سرقت ممتلكاتها.. وتواصلت هجمات العسكر حتى وصلت المستشفيات، لمنع المصابين من تلقى العلاج واقتياد بعضهم عنوة الى المعتقلات، كما أطلقوا البمبان في داخل المستشفيات بل وفي داخل المركبات العامة.. وكان أن سبق ذلك دخول هؤلاء العسكر للمنازل الآمنة في أحياء الثوار والقيام باغتصابات جماعية، نالت استهجان وغضب العالم، وقاموا بسرقة ممتلكات المواطنين واتلاف بعضها.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه الى الدخول في مكاتب القنوات الفضائية الأجنبية التي تنقل احداث تلك المظاهرات والتعدي على طواقمها ومنعها من البث، بعد أن تم قطع الانترنيت والاتصال التلفوني من البلاد..
في ظل هذا الواقع المزري أطل علينا البرهان في ليلة عيد الاستقلال ليقرأ كلمته المقتضبة وبوجه ممتعض بائس وعابس يعبر عن هزيمة داخلية وخوف من مصير مجهول ينتظره بعد أن فعل بالشعب السوداني ما فعل.. وما أخطر عنف الخائف حينما يشعر أن أبواب الدنيا أغلقت أمام ناظريه وفرص الإفلات من الجريمة ضاقت عليه بعد أن أصبح شخصا مكروها من عامة الشعب وغير مرغوب في تواجده في سدة الحكم..
وكيف يحتفل البرهان وعصابته باستقلال السودان والبلاد قد بدلت مستعمرا أجنبيا بآخر محلي، أكثر منه صلفا وتعطشا لدماء أبناء الشعب السوداني، وأكثر منه طمعا في موارد البلاد، يبيعها بثمن بخس للأنظمة التي توفر له ولطاقمه الحماية المتوهمة من غضبة الشعب، فيرهن حاضر ومستقبل السودان الاقتصادي والسياسي لهذه الأنظمة.. فقد خبرت بلادنا استعمارا مصريا تركيا، في القرن التاسع عشر، أعقبه استعمار انجليزي مصري في القرن العشرين، وها نحن في القرن الواحد وعشرين نعيش تحت ظل استعمار مصري (أماراتي) سوداني، حيث تذهب خيرات السودان من منتجات زراعية وحيوانية ومعدنية كمواد خام، ليتم تصنيعها وتصديرها من مصر والأمارات لشتى بقاع العالم، بأسعار مضاعفة، فتستفيد منها هذه الدول، ويظل السودان في حاله البائس المتعسر، رغم غناه بالموارد البشرية والطبيعية.. وها هي سياساتنا الخارجية التي يديرها العسكر قد ارتهنت لمصالح هذه الدول توجهها حيث تشاء.. بل حتى الحروب الإقليمية التي تخوضها هذه الأنظمة والدول يُستخدم فيها الجندي السوداني بعد أن قبض البرهان ولجنته العسكرية الثمن..
الأستاذ محمود محمد طه، كان أول سجين سياسي في الحركة الوطنية، التي أعقبت مؤتمر الخريجين، وذلك بسبب مقاومته ومناداته بخروج المستعمر الإنجليزي المصري من السودان، وقد حذرنا من المستعمر "السوداني" حيث قال: ((فقد يخرج الانجليز غدا، ثم لا نجد أنفسنا أحرارا، ولا مستقلين، وانما متخبطين في فوضى مالها من قرار)) وقال أيضا بأن الاستقلال ليس هو ((استبدال الانجليز بإنجليز في أسلاخ سوداني)).. فعنده ان ((الاستقلال جسد روحه الحرية)) وهذا بالضبط ما يحصل اليوم وبصورة أشد وضوحا من أي وقت مضى حيث يقف البرهان وشلته أم تحقيق الحرية والعدالة والسلام للشعب السوداني..

ويزيد عجبنا أكثر أن يحتفل البرهان بالعيد الثالث لثورة ديسمبر المجيدة في خطابه الباهت هذا ويصفها بأنها "ثورة الشعب الأبي وشبابه الشم" وأنها "ثورة مكملة لمعاني الاستقلال وترسيخ نضالاته لبناء الدولة السودانية الحديثة القائمة على أساس الحرية والسلام والعدالة" فهل سأل نفسه عن الدور الذي لعبه هو شخصيا إزاء هذه الثورة منذ قيامها وحتى لحظة خطابه هذا؟!! بل هل سأل نفسه عن الدور الذي لعبه هو وحميدتي خلال حكم نظام الرئيس المخلوع عمر البشير الذي أدى الى قيام هذه الثورة؟!! فقد كان البرهان وحميدتي من أيادي ذلك النظام الباطش، الذي سخر كل إمكانيات السودان الاقتصادية في التمكين لجماعة الاخوان المسلمين وفي محاربة الشعب، خاصة في إقليم دارفور، فقتل مئات الآلاف من المواطنين (لأتفه الأسباب)، كما أقر بذلك الرئيس المخلوع، وتم اغتصاب الحرائر وحرق القرى وتشريد أهلها.. فامتلأت معسكرات اللجوء بملايين المواطنين من ضحايا هذه الحروب العبثية التي قادها البرهان وحميدتي باسم الرئيس المخلوع.. فلما قامت الثورة في ديسمبر 2018 وأحاطت بالنظام المخلخل من جميع أقطاره، ضحت لجنة عمر البشير الأمنية وقادته العسكريون بالرئيس المخلوع فزجوا به في السجن، وتظاهروا بالانحياز للثورة فنصبوا الفريق عوض بن عوف رئيسا للمجلس العسكري ليحكم بديلا للبشير، فرفضه الشعب حتى تمت ازاحته هو ونائبه الفريق كمال عبد المعروف.. حينها ظهر الفريق عبد الفتاح البرهان وحميدتي من الصف الثاني ليتقدموا لقيادة المجلس العسكري، وأخذوا يماطلون في تسليم السلطة للشعب المعتصم أمام قيادة الجيش حتى سولت لهم أنفسهم ارتكاب مجزرة فض الاعتصام، حيث قتلوا مئات الشباب العزل في ليلة عيد الفطر.. وليتهم اكتفوا بالقتل وانما مارسوا ما هو أبشع من ذلك حيث ربطوا أرجل الشباب بالحجارة الثقيلة ورموها في النهر حتى لا تطفوا جثامينهم، وحرقوا الخيام بمن فيها واغتصبوا النساء، ظنا منهم أن ذلك سيكسر من عزيمة الشعب فيترك لهم شأن حكمه.. ففاجأهم الشعب بمليونيات لم يعهدوها من قبل.. خرجت المظاهرات في شتى بقاع الوطن في يوم 30 يونيو 2019 تدينهم وتنادي بسقوطهم مما أرغمهم على الرضوخ لمشاركة المدنيين في حكم البلاد، والتوقيع على الوثيقة الدستورية التي تحكم هذه المشاركة، التي قبلها الشعب على مضض، لأنه لا يثق في هؤلاء العسكر الذين غدروا به وبأبنائه وبناته في شهر رمضان المعظم.. لكنه كان واضح أن عسكر لجنة الرئيس المخلوع الأمنية لم يكونوا مقتنعين بمشاركة السلطة مع المدنيين، ولا بالوثيقة الدستورية التي وقعوا عليها، فبيتوا أمر خيانتها.. وأخذوا يضعون العراقيل في طريق الحكومة المدنية مثل التفلتات الأمنية، واضعاف الوضع الاقتصادي عن طريق الاتجار في العملة وتهريب السلع أو دسها، وتهريب الذهب عبر المطارات.. وكذلك عملوا على عرقلة عمل لجنة إزالة التمكين، والاحتفاظ بملفات السلام مع الحركات المسلحة حتى يسخروها لمصلحتهم.. حتى إذا جاء الوقت ليستلم المكون المدني رئاسة المجلس السيادي، كما تقرر الوثيقة الدستورية التي وقعوا عليها، فكروا في حيلة يبطلون بها هذا التحول المرتقب.. حاول البرهان ومجلسه العسكري تكوين حليف جديد لهم من الحركات المسلحة، وفلول النظام البائد، وبعض النفعيين الطامعين في كراسي الحكم، فاجتمع هؤلاء الحلفاء في قاعة الصداقة وتنادوا الى عمل اعتصام أمام القصر يظهرون فيه قوتهم واجتماع الشعب حولهم.. فوفروا لذلك الاعتصام المصنوع الخيام نصبوها أمام القصر الجمهوري، وأغدقوا على المعتصمين بالمواد الغذائية، ووفروا المواصلات المجانية والأموال للمواطنين لينضموا إليهم.. ولم يستطيعوا رغم ذلك أن يظفروا سوى بقلة قليلة كان سلوكها في التدافع نحو الطعام مثار تهكم الشارع السوداني.. وكانت من اهداف ذلك الاعتصام وما سبقه من أحداث هو حث البرهان للإقدام على انقلابه المرتقب، حتى أن التوم هجو، أحد قادة ذلك الحراك المصنوع، طالب البرهان بإذاعة بيان الانقلاب.. وبالفعل قام البرهان بخيانة شركائه المدنيين في الحكم وبالغدر بهم والانقلاب عليهم، والزج بهم في السجون، وألغى العمل بالوثيقة الدستورية.. ثم أخرج الدكتور حمدوك من الإقامة الجبرية وأتى به موقعا لاتفاق يستبعد فيه قوى الحرية والتغيير، حاضنته السياسية، من المشاركة في الحكم ويطلب منها الاستعداد للانتخابات.. فلم يجد ذلك الانقلاب والاتفاق الذي تبعه سوى الاستهجان والاستنكار من كافة قطاعات الشعب السوداني فسيروا المليونيات في معارضتهما.. فقابل البرهان وجنوده هذه التظاهرات بالعنف المفرط ليضيفوا الى سجل جرائمهم ضد الإنسانية فصلا جديدا.. ويكفي أن يقال إن عدد القتلى فاق الخمسين شهيدا منذ وقوع هذا الانقلاب الأخير، وفاق الآلاف منذ استلام البرهان السلطة خلفا للرئيس المخلوع عمر البشير.. هذا ما فعله البرهان تجاه الثوار وتجاه الثورة التي يصفها الآن بأنها "ثورة مكملة لمعاني الاستقلال وترسيخ نضالاته لبناء الدولة السودانية الحديثة القائمة على أساس الحرية والسلام والعدالة".. فهل بقي لهذا الرجل مسكة من حياء؟!!!
لكن ما يطمئن القلب حقا هو وضوح الرؤية لشباب وشابات الشعب السوداني الذين يقودون هذه الثورة بعزيمة قوية وجسارة منقطعة النظير وتصميم لا يفل على إزالة الفساد والمفسدين والمتسلطين من أجهزة الحكم.. ونرجو منهم أن يولوا أمر البديل الذي يحل الصلاح محل الفساد اهتمامهم، حتى تكون خارطة البناء جاهزة عندما يتمكنون بعون الله من إزالة أنقاض نظام الاخوان المسلمين المتمثلة في البرهان وشلته..

omer.m.abdalla@gmail.com
////////////////////////

 

آراء