افتحوا آفاق الحوار” الشمالي- الشمالي” قبل فوات الأوان
MODALMAKKI@HOTMAIL.COM
أين الحوار الشمالي- الشمالي؟
هذا السؤال يسيطر على تفكيري خلال هذه الأيام ، خاصة أن السودان يمر حاليا بظروف صعبة وخطيرة ، ويواجه تحديات كبرى في ظل حمى التباين في مواقف وتصريحات بعض كبار مسؤولي حكومة "الانقاذ" في شأن الاستفتاء المقرر على تقرير مصير جنوب السودان في التاسع من يناير 2011 أو في ما يتعلق بمستقبل السودان .
تضارب التصريحات بشأن الاستفتاء وحقوق المواطنة للشماليين والجنوبيين يعكس غياب الرؤية الموحدة تجاه هذا الاستحقاق الدستوري ، وأيضا تجاه حقوق المواطنة ، كما يعبر ذلك عن مشكلة أكبر تكمن غياب التوافق بين القوى السياسية السودانية "الشمالية" حول قضايا الساعة في ظل انفراد حزب المؤتمر الوطني الحاكم بادارة دفة الحكم في ظرف "استثنائي" ، استنادا الى انتخابات مشكوك في نتائجها محليا وخارجيا .
الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة ساهمت كما كتبت في "الأحداث " في وقت سابق بتسديد ضربة موجعة للتوافق المطلوب بين السودانيين الفاعلين في خارطة العمل السياسي السوداني ، وجعلت ظهر الحاكم مكشوفا من دون سند وطني شامل.
ما زلت أعتقد أن أسوأ ما تشهده الساحة السياسية "الشمالية" في هذه الفترة يكمن في غياب التوافق بين القوي السياسية السودانية في شأن قضايا الوطن الكبرى، وسلبيات المناخ الراهن يتحمل مسؤوليتها من بيدهم القرار ، أومن بيدهم القدرة على اتخاذ مبادرات حكومية ترتفع فوق النظرة الحزبية الضيقة أو الحرص على كراسي الحكم.
هذا معناه أن هناك ضرورات ملحة تستوجب فتح آفاق أرحب، تمهد دروب التلاقي بين السودانيين ، في سبيل مواجهة جماعية لأزمات خطيرة قادمة، وليس في مقدور أي حزب أن يقوى على التعامل معها بمعزل عن "شركاء " الوطن المهمشين، مهما ادعى أي طرف - سواء في الحكم أو المعارضة - القدرة على الحل الجزئي أو المنفرد.
أعجبني في هذا الاطار أن النائب الأول للرئيس السوداني ورئيس حكومة الجنوب و"الحركة الشعبية لتحرير السودان " السيد سلفاكير ميارديت اتخذ مبادرة وخطوة ايجابية تمثلت في دعوته الأحزاب والقوى السياسية الجنوبية الى مؤتمر حوار جنوبي – جنوبي في جوبا.
سلفاكير من دون شك حقق نتائج ايجابية لـ"الجنوب" من خلال الحوار والتوافق بيين قوى جنوبية على أولويات المرحلة، خاصة أن اجراء الاستفتاء في موعده يمثل قاسما مشتركا تلتف حوله القوى الجنوبية الحاكمة أو المعارضة .
في اطار مداخلة قصيرة في لقاء نظمه سفير السودان في قطر السيد ابراهيم فقيري وتحدث فيه وزير الدولة برئاسة مجلس الوزراء السيد أحمد كرمنو وأمين جهاز العاملين بالخارج الدكتور كرار التهامي في الدوحة في 18 أكتوبر الجاري (2010) دعوت في مداخلة قصيرة الى حوار شمالي شمالي لمواجهة تحديات المرحلة، وقلت أن سلفاكير اتخذ خطوة ذكية بدعوة القوى الجنوبية الى حوار جنوبي جنوبي.
قلت إن الضغوط الخارجية على السودان ليست جديدة وستستمر، لأن هناك مصالح دولية في العالم كله تضبط ايقاع تحركات الدول ، و شددت على أن عدم ترتيب البيت من الداخل ( الشمال السوداني) يفتح المزيد من دروب التدخل الخارجي في الشأن السوداني، وقلت إن هناك ضرورات لترتيب البيت من الداخل.
علقت أيضا على تأكيدات وردت على لسان السيد وزير الدولة برئاسة مجلس الوزراء في شأن اشارته الى التمسك بتوجه الحكومة وخطها السياسي في مواجهة مطالب جنوبية لتغيير بنية نظام الحكم في السودان وقلت للسيد الوزير مع كامل التقدير والاحترام إن ما تحدث عنه هو برنامج حزب ( الحزب الحاكم) وليس برنامج السودانيين ,أكدت أننا محتاجون الى برنامج جديد يصنعه السودانيون كافة.
السيد الوزير قال في تعقيبه على كلامي أنه ليس ميالا للحوار الشمالي الشمالي او الحوار الجنوبي الجنوبي لكنه قال - والكلام للوزير كرمنو-" أنا من أنصار تشجيع الحوار السوداني من أجل توحيد السودان"، أي تحديد أجندة الحوار من طرف واحد.
علق على مداخلتي ايضا في شأن الدعوة الى ترتيب البيت السوداني من الداخل الأمين العام لجهاز العاملين في الخارج الدكتور كرار التهامي الذي أكد على أهمية ترتيب البيت السوداني من الداخل لكنه اشار الى أن ذلك مسؤولية جهة أخرى(في السودان ) خاصة أنني حملته والوزير كرمنو مسؤولية دعم الدعوة الى الحوار "الشمالي الشمالي"، باعتبار أنني "مواطن سوداني في الخارج".
في نهاية ندوة كرمنو وكرار وصل الى مقر السفارة السودانية في الدوحة مستشار الرئيس السوداني الدكتور مصطفى عثمان، وهو قال إنه جاء للسلام على الحاضرين من أفراد الجالية، لكنه طرح رؤى واقعية ، وهواتفق مع رؤيتنا حول خطورة التحديات التي تواجه السودان و أكد أن البلد يمر بظرف "أن يكون أو لا يكون"، وقال" إن انفصال الجنوب وارد لكنه ليس حتميا " والأهم أنه رأى أنه اذا انفصل الجنوب فان الوضع في الشمال يحتاج الى مراجعة السلبيات ، وفهمت من مضمون كلامه أن هناك ضرورات لمراجعة الخطي.
أعتقد أن قضية ترتيب البيت السوداني من الداخل هي قضية الساعة الآن وليس غدا ، لأن "الشمال" مهدد بتمزق شديد وتناحر بين أطرافه وبصراع حاد بين قواه السياسية الحاكمة والمعارضة اذا لم يتم التوافق على نظام سياسي يضمن حقوق الجميع والحرية والعدالة والمساواة.
لن تنجح أي جهود لترتيب أوضاع الشمال السوداني من الداخل الا اذا أبدى القابضون على كراسي الحكم استعدادا حقيقيا لمناقشة وتنفيذ كيفية تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي، بتضافر جهود الجميع ومن دون اية استثناءات ، ليؤدي ذلك لبناء نظام سياسي جديد يستند الى قيم التعددية الحقيقية التي تبني دولة مدنية تستند الى قيم المواطنة، بعيدا عن مقاييس التصنيف السياسية و الدينية و العرقية الضيقة، والضارة التي قسمت السودانيين في الشمال والجنوب الى قبائل وشعوب متضاربة الأولويات والمواقف وكثيرة الأحقاد والضغائن ، وطبعا المؤامرات المتبادلة التي تفتت الوطن ويمكن أن تحيله الى دويلات متناحرة متحاربة شئنا أم أبينا.
الحوار الذي أعنيه لا يشبه مؤتمرات حوار سابقة نظمتها "حكومة الانقاذ" كان هدفها استثمار وحشد مواقف أحزاب المعارضة لخدمة أجندة الحزب الحاكم في أوقات حرجة وصعبة .
الحوار المقصود ينبغي ان يكون من أجل السودان الوطن والسودان الانسان والسودان الحرية والعدالة والمساواة ، بعيدا عن النهج الديكتاتوري الظالم ومناخ الاقصاء وتهميش الآخرين بالقوة ، أو بادعاء التفويض الشعبي من خلال انتخابات وصفتها أحزاب المعارضة ومراقبون بأنها مزورة.
آخرون في أميركا وغيرها اعلنوا أنهم سكتوا بعد الانتخابات الأخيرة عن ذكر التجاوزات الانتخابية لتمرير الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب ، ومن دون شك سيفتح كثيرون في الخارج هذا الملف وملفات أخرى ساخنة بعد الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب.
المدهش في سياق الحديث عن الحوار الشمالي- الشمالي أن الحكومة السودانية وبمعنى أدق فان قيادة حزب "المؤتمر الوطني " الحاكم ترفض أن تخوض حوارا شاملا مع المعارضة السودانية في الداخل لمناقشة قضايا الوطن كافة، وهي ترغب في حوار تفصل "جلابيته على مقاسها" .
المدهش ايضا أنه فيما ترفض السلطة الحاكمة الحوار الشامل مع قوى الداخل السوداني فانها لا تضع أية حواجز أو موانع تحول دون عرض قضايا السودان كافة وبينها قضايا الجنوب ودارفور على موائد الحوار والتشخيص خارج السودان في دول عدة ، بحثا عن حلول أو اقتراحات وربما نصائح أيضا ، كما تستقبل مبعوثين أجانب للغرض نفسه من كل لون وجنس ودين.
لا يحتاج المراقب للشأن السوداني الى كثير جهد أو عناء ليؤكد أن المسألة السودانية بل الأزمة السودانية تخضع حاليا لتأثيرات الدور الأجنبي وهي ليست محل تفاكر وتفاهم وتداول بين أهل البيت السوداني داخل الوطن .
في ظل هذا الوضع ستزداد التدخلات الأجنبية بوجهيها الايجابي والسلبي،كما ستزداد شدة الاحتقان داخل السوداني ما يهدد بكثير من المفاجآت والسيناريوات ، ومن دون شك يجيء الآن سعي سودانيين في لندن وغيرها هذه الأيام الى تشكيل جبهة وطنية معارضة للنظام الحاكم مظهرا من مظاهر الأزمة السودانية الحادة، وتعبيرا طبيعيا عن حال الظلم والتهميش والانفراد بالقرارات المصيرية التي تهم كل السودانيين، و تؤثر تأثيرا خطيرا على حاضرهم ومستقبلهم.
برقية: افتحوا آفاق الحوار" الشمالي- الشمالي" الشامل لكل القضايا قبل فوات الأوان .
عن صحيفة (الأحداث) 27-10- 2010