الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون -12-
الأستاذ محمود في مذكرات معاصريه(ب)
في عام 1968م أهدى الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م) كتابه: زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان: 1. الثقافة الغربية 2. الإسلام، إلى الشعب السوداني، قائلاً: (إلى الشعب السوداني: الذي لا تنقصه الأصالة، وإنما تنقصه المعلومات الوافية.. وقد تضافرت شتى العوامل لتحجبه عنها).
مذكرات السيد خضر حمد
تعريف
نشأ السيد خضر حمد عمر (1910/8م-1970م)، في مدينة الأبيض، وتلقى تعليمه الابتدائي فيها. ثم انتقل بعد نهاية المرحلة الابتدائية إلى الخرطوم، والتحق بكلية غردون، وتخرج في قسم الكتبة عام 1929م. بعد تخرجه عمل بمصلحة المالية. والتحق عام 1930م بلجنة المدرسة الأهلية عضواً، ثم مساعداً للسكرتير، فسكرتيراً حتى عام 1945م. ساهم في قيام مؤتمر الخريجين، وكان من مؤسسي ملجأ القرش. في عام 1946م انتقل إلى القاهرة للعمل في جامعة الدول العربية، حيث عُين بوظيفة محرر بقسم المحفوظات، وتدرج حتى وصل وكيلاً للإدارة المالية فيها. قدم استقالته من وظيفته وعاد للسودان عام 1950م. انتخب للبرلمان 1953م-1958م، وعُين عام 1954م وزيراً دولة بلا أعباء، ثم وزيراً للرى والقوة الكهربائية. أصبح عضواً في مجلس السيادة (1965م-1969م) بعد ثورة أكتوبر عام 1964م.
بدأ السيد خضر نشاطه السياسي متخذاً من المناضل عبيد حاج الأمين (1898م-1933م)، نموذجاً له. قال في مذكراته (ص 20): (اتخذت من عبيد هذا مثلاً وصممت بيني وبين نفسي ألا أتزوج والبلاد تحت الاستعمار). لم يتزوج السيد خضر حتى وفاته وقد أشار إلى ذلك إشارات متكررة في مذكراته. كان السيد خضر من جماعة أبي روف في الثلاثينات. وأصبح عضواً في حزب الأشقاء، وعضواً في الجبهة الاتحادية (الأشقاء، والإتحاديين والأحرار)، التي نادت بـ: "قيام حكومة سودانية ديمقراطية في اتحاد مع مصر تحت تاج واحد". ثم أصبح سكرتيراً عاماً للحزب الوطني الاتحادي عام 1953م. كان من المتحمسين لفكرة القومية العربية وللوحدة العربية، وزار معظم البلدان العربية. قال في مذكراته (ص 115): (إن فكرة القومية العربية وتعزيزها، والوحدة العربية والدعوة لها كانت تملك تفكيري). نشر عدداً من المقالات والقصص والأشعار، كلها كانت باسماء مستعارة. قال في مذكراته (ص 45): (لم أكتب مطلقاً تحت إسمي السافر وكانت جميع كتاباتي وفي كل الجرائد والمجلات التي ساهمت في تحريرها ألجأ فيها إلى الامضاءات المستعارة...).. ففي مجلة "النهضة" كان يكتب بإمضاء (محتار)، وفي جريدة "السودان" بامضاء (طبجي) و (قارئ)، وفي مجلة الفجر بامضاء (مصور). وعن أثر هذه الامضاءات ذكر السيد خضر في (ص 45) قائلاً: (وقد حرمتني هذه الامضاءات المستعارة أن أُعد في جملة الأدباء أو الكُتاب...).
مذكرات السيد خضر حمد
صدرت مذكرات السيد خضر حمد، في طبعتها الأولى عام 1980م، بعنوان: مذكرات خضر حمد: الحركة الوطنية السودانية: الاستقلال وما بعده، عن مكتبة الشرق والغرب بالشارقة، الإمارات العربية المتحدة. بلغ عدد صفحاتها ثلاثمائة وست وستين صفحة من القطع المتوسط. تحدث السيد خضر في مذكراته عن نشأته وعن الأحداث التي ساهم فيها أو علم بها من خلال عناوين. يعطي الحدث عنواناً ثم يتحدث عنه. بدأت المذكرات بتقديم كتبه الأستاذ الهادي أبوبكر اسحق، وهو من خريجي كلية غردون، عمل معلماً، ونائباً لمدير المعارف، ثم مقدمة كتبها السيد خضر، وتلى ذلك حديث عن النشأة تحت عنوان: "أثر البيئة". وانتهت المذكرات بالحديث عن انتقال السيد خضر من القصر الجمهوري إلى سجن كوبر في فجر يوم 28 مايو 1969م، ومرافقته للرئيس إسماعيل الأزهري (1900م-1969م) الذي جئ به إلى كوبر صباح نفس اليوم. وترافقا في سجن كوبر لأكثر من ثلاثة أشهر، حتى وفاة الرئيس الأزهري، التي خصص لها السيد خضر آخر صفحتين من مذكراته تحت عنوان: "ذهب ولم يعد". تلتها الملاحق.
معايير مذكراته
كانت معايير السيد خضر في تدوين مذكراته، تقوم على تسجيل الأحداث التي ساهم فيها أو علم بها علم اليقين كما ذكر. قال في مقدمة مذكراته: إن هذا الذي أكتبه ليس تسجيل لحياتي الخاصة، لأن حياتي الخاصة محيطها ضيق وليس فيها من المغامرات والأحداث ما يجعلها شيقة أو تستحق التسجيل، كما أنه ليس اعترافات أريد أن أكشفها للناس ليجدوا فيها شيئاً من العبرة أو العظة، وإنما (تتبعت نشاطي منذ أن عرفت الحياة العامة، ووجدت ودون أن أقصد أنني أسجل حقبة من التاريخ ولكنها حقبة صحيحة سليمة أمينة. لم يداخلها الحدس أو التخمين أو الاستنتاج أو استقراء الحوادث ولكن حرصت أن أسجل كل ما أعلمه علم اليقين وساهمت فيه فعلاً ولم أنقله من غيري أو أقرأه في مرجع أو استقه من عليم).
الأستاذ محمود في مذكرات خضر حمد
لم يرد اسم الأستاذ محمود قط في مذكرات السيد خضر حمد. على الرغم من أن السيد خضر حمد تناول في مذكراته أحداثاً كان الأستاذ محمود في قلبها. تحدث السيد خضر في مذكراته عن الأحزاب وتاريخ نشأة بعضها، وأشار إلى الأشقاء والإتحاديين، وحزب الأمة، وجماعة الأحرار، والحزب الوطني الإتحادي، والحزب الجمهوري الإشتراكي، وحزب الاستقلال الجمهوري، وحزب الشعب الديمقراطي. ولم ترد حتى مجرد إشارة لنشأة الحزب الجمهوري. أهمل ذكر الجمهوريين، وأهمل ذكر رئيس حزبهم الأستاذ محمود. وتحدث السيد خضر عن الطائفية، تحت عنوان "الطائفية" وعن الموقف منها. وفي هذا كان للأستاذ محمود مواقف مشهودة وموثقة في صدامه مع الطائفية. تحدث السيد خضر عن دعاة الاستقلال، وأشار إلى حزب الأمة والجبهة الاستقلالية، ولم يرد ذكر لاسم الأستاذ محمود. لقد كان الأستاذ محمود، رئيس الحزب الجمهوري، من دعاة الاستقلال، وكان من مؤسسي الجبهة الاستقلالية. جاء في موقع حزب الأمة القومي على شبكة الإنترنت: (بادر حزب الأمة بتكوين الجبهة الاستقلالية للعمل على انهاء الحكم الثنائي والتي تشكلت في 28 أكتوبر 1946م في دار حزب الأمة من: حزب الأمة، حزب القوميين الأحرار، حزب الأحرار، الحزب الجمهوري، ونفر من المستقلين) (عن حزب الأمة، التاريخ: المراحل السبعة، "المرحلة الأولى: تكوين الحزب 1945م وحتى انقلاب 1958م"، حزب الأمة القومي، استرجاع (Retrieved) بتاريخ 23 أغسطس 2010م، الموقع على الإنترنت: http://www.umma.org
سجن كوبر
في رحلة نضاله ضد الاستعمار، تحدث السيد خضر عن دخوله لسجن كوبر عام 1948م، ووصف شعوره في السجن، وكيف أن السجن كان رهيباً، وأشار لبعض ممن كان في معيته. لقد سبق الأستاذ محمود السيد خضر إلى سجن كوبر مرتين، الأولى فى يونيو عام 1946م، والمرة الثانية خرج منه عام 1948م. ولا شك أن السيد خضر قد سمع بسجن الأستاذ محمود الأول، وسمع بثورة رفاعة التي قادها الأستاذ محمود عام 1946م، ودخل على إثرها السجن لمدة عامين، قضى جزء منها في مدني والجزء الآخر في سجن كوبر. لقد غطت الصحف المحلية في الخرطوم الخبرين، لاسيما صحيفة الرأي العام التي تابعت الخبرين ونشرت برقيات كثيرة، عبر الناس فيها عن مناصرتهم للأستاذ محمود، ودعمهم لمواقفه البطولية. هذا إذا لم يكن سجن الأستاذ محمود في المرة الثانية متزامناً مع سجن السيد خضر. الشاهد أنه لم يرد ذكر لثورة رفاعة أو سجن الأستاذ محمود في مذكرات السيد خضر.
سنوات مجلس السيادة
تحت عنوان: "أحداث"، تناول السيد خضر الأحداث العديدة "كما وصفها" التي مرت خلال الفترة التي قضاها عضواً بمجلس السيادة (1965م-1969م). تحدث عن أحداث مختلفة منها: حل الحزب الشيوعي، وعن الهزيمة الإسرائيلية للعرب، ومؤتمر القمة العربية الذي عقد في الخرطوم عام 1967م ...إلخ. وفي كل هذه الأحداث كان الأستاذ محمود حاضراً وبقوة، وزع المناشير، ونشر الكتب، وأقام المحاضرات حول هزيمة إسرائيل للعرب، وحول حل الحزب الشيوعي. كما شارك الأستاذ محمود في تأسيس "المؤتمر الوطني للدفاع عن الديمقراطية"، الذي قام إثر إذاعة قرار الجمعية التأسيسية (البرلمان) بحل الحزب الشيوعي السوداني. كتب الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد (1942م- 2004م) قائلاً: (وُلد في شهر نوفمبر 1965م "المؤتمر الوطني للدفاع عن الديمقراطية" والذي ضم (32) تنظيماً من بينهم حزب الشعب الديمقراطي والحزب الشيوعي السوداني ومنظمات الاشتراكيين العرب والحزب الجمهوري الذي يقوده محمود محمد طه...). (محمد أبو القاسم حاج حمد، السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل 1956م-1996م، المجلد الثاني، دار بن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1996م، ص 318-320).
محكمة الردة عام 1968م
فوق كل ذلك لم يرد في مذكرات السيد خضر، حتى ولو مجرد إشارة، حديثاً عن محكمة الردة التي عقدت عام 1968م، وحكمت على الأستاذ محمود بالردة عن الإسلام. كانت محكمة الردة من أهم أحداث العهد الذي تحدث عنه. خاصة وأن السيد خضر تحدث في مذكراته عن اهتمامه بالقضاء وصلته بمجلس السيادة، وعبر عن تعاطفه مع المحكوم عليهم. كما وصف تلك الفترة التي كان فيها عضواً بمجلس السيادة بأنها فترة الحرية المطلقة للجميع، قائلاً في صفحة (323): (لو امتاز هذا العهد أي منذ قيام ثورة أكتوبر وبعد الانتخابات الأولى وتسلم الحكومة شؤون البلاد، لو امتاز هذا العهد بشئ فهو امتيازه بمنح الحرية المطلقة للجميع). لم تكن محكمة الردة، أمر يسهل نسيانه، بل لم تكن غائبة عن السيد خضر، فقد ذكَّره بها الأستاذ محمد خير البدوي، في رسالة خاصة بعث بها إليه. قال الأستاذ البدوي في مذكراته: (وقد أحزنتني الفتوى التي صدرت في عهد الحكم الديمقراطي بتكفير محمود محمد طه، ورأيت فيها شططاً كبيراً واعتداءً على حرية الفكر والعقيدة. وكتبت رسالة في هذا الشأن إلى الحاج خضر حمد، عضو مجلس السيادة، فرد عليّ برسالة مطولة بتاريخ 28/4/1969م، اقتطف منها ما يلي: أما محمود محمد طه فقد طلق منه المرأة أبوها شيخ لطفي منذ أن خرج محمود من السجن بعد أن ادعى أنه سيدنا عيسى عليه السلام. ومحمود ما زال يحاول أن يكون نبياً يشارك محمد الرسالة، فذاك الإسلام الأول ومحمود نبي الإسلام الثاني الذي يصلح للقرن العشرين. وقد استفتينا علماء السودان ومصر ومشائخ الطرق وأصحاب السبح والدراويش والعلماء في الجامعة الإسلامية وجامعة الخرطوم وجامعة القاهرة وكلهم كفَّره وخطَّأه. هل يترك ليعير أم يُسلم لكوبر؟؟). (محمد خير البدوي، قطار العمر في أدب المؤانسة والمجالسة، دار النهار للإنتاج الإعلامي، الخرطوم، 2008م، ص 402، 403).
إن الأستاذ محمود لا يمكن أن يُنسى لدى معاصرية. فقد عاش حياة عاصفة، وصنع أحداثاً ساطعة، ووقف مواقف علنية مشهودة وموثقة. ولهذا، فإن عدم ذكره الأستاذ محمود في مذكرات السيد خضر يصعب فهمه بل ربما دلَّ على نيِّةٍ لتغييبه عن الذاكرة الجمعية، وتغييب دوره في الحركة الوطنية السودانية. وهذا ما يحدث بالفعل عند المؤرخين وفي دراسات الطلاب الجامعية وفوق الجامعية. إذ لا تكاد تخلو قائمة المصادر والمراجع لكل الدراسات السودانية التي كتبت عن الحركة الوطنية والتطور السياسي في السودان، خلال الثلاثة عقود الماضية، سواء كانت كتاباً أو أطروحة دكتوراه أو ماجستير عن ذكر مذكرات السيد خضر حمد. وهذا يدعم ما خلص إليه الدكتور محمد سعيد القدال (1935م-2008م)، في دراسته: "ملاحظات حول بعض كتب السِّيرة الذاتية السودانية وقيمتها كمصدر لدراسة التاريخ"، فقد خلص -كما وردت الإشارة في الحلقة السابقة- إلى: (إن قيمة غالبية هذه الكتب كمصدر للتاريخ ضعيف، وبعضها لا قيمة له). وقد كانت مذكرات خضر حمد من ضمن نماذج دراسة الدكتور القدَّال. (محمد سعيد القدَّال، الانتماء والاغتراب: دراسات ومقالات في تاريخ السودان الحديث، دار الجيل، بيروت، 1992م، ص 133-152).
نلتقي يوم الخميس القادم، لنقف على النموذج الثاني من نماذج محورنا: "الأستاذ محمود في مذكرات معاصريه".
(نقلاً عن الأحداث، الخميس 11 نوفمبر 2010م)