الأستاذ محمود محمد طه والمثقفون -4-

 


 

 


الأستاذ محمود ووحدة السودان


في عام 1968م أهدى الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م) كتابه: زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان: 1. الثقافة الغربية 2. الإسلام، إلى الشعب السوداني، قائلاً: (إلى الشعب السوداني: الذي لا تنقصه الأصالة، وإنما تنقصه المعلومات الوافية.. وقد تضافرت شتى العوامل لتحجبه عنها).

حب السودان من حب الله (الأستاذ محمود محمد طه)

    نأمل أن يظل السودان موحداً.. ليس هناك أشد ألماً من ضمور أراضي السودان،  وتغيير ثوبه الجغرافي، وتكلس تنوعه الثقافي، في حال اختيار الأخوة الجنوبيين لخيار الانفصال بدلاً عن الوحدة، وفقاً لاتفاقية السلام الشامل. بذلك، يكون قد كتب على الأجيال الجديدة من السودانيين، مضغ مرارة النتيجة في صمت. إن النتيجة أياً كانت، تكون هي خلاصة الإرث السياسي الذي ورثناه عن الآباء والجدود، قادة الحركة الوطنية وموجهي مسار السودان السياسي، طلائع المتعلمين واللاحقين من بعدهم وحتى يومنا هذا. ما من مجال في السودان أحوج، وبشكل عاجل إلى إعمال العقل والفكر، للقيام بالمراجعات وإعادة النظر سوى الإرث والمسار السياسي. لقد فشل ساستنا وقادتنا منذ وقت باكر في وضع صيغ التعايش لشعوب السودان، ورسم الخطط للنمو المتكافئ لبقاع السودان المختلفة، وصموا آذانهم عن المبادرات الخلاقة التي أتت باكراً. فمعظم القادة والساسة لدينا ضعيفو الصلة بتاريخ شعوبهم وسير حياواتها، تهمهم اللحظة الراهنة، ويعيشون فيها غير آبهين بالمستقبل، حتى تداهمهم القضايا، وتأخذهم أخذ عزيز مقتدر. معظمهم أقرب إلى الماضي منه إلى المستقبل، لا يقرأون ، ولا يسمعون. فالقائد الحق هو الذي يعمل في الحاضر منسجماً مع أصوات الواقع وألحانه، ومستجيباً لنداءات الراهن، وملبياً لمتطلبات كأنها لا تنتهي، وبهذا يكون قد حقق بعض الإنتماء للمستقبل. فالإنتماء للمستقبل، ضرورة حتمية، تتطلب الكثير من الواجبات الفردية، أقلها، وفي الحد الأدنى، قراءة التاريخ، وتدبر سير الشعوب، والتفكر في مسارات العصر ومتطلباته، والبكور في مواجهة قضايا الشعوب. ويبدو أن قادتنا وساستنا جُبِلوا على المجئ المتأخر للقضايا العظام، وفُطموا على شن الحرب على من يأتي باكراً بالمبادرات الخلاقة، حتى ولو كان في إتيانه الخير والمخرج والخبر اليقين. قبل استقلال السودان كان موقف القادة والسياسيين نحو أصحاب المبادرات الخلاقة في الشأن السوداني، موقفاً عدائياً، ورافضاً لمبادراتهم، بل فالحاً في تضليل شعوب السودان حول المبادرات وأصحابها. فقبل نصف قرن ونيف من السنين، تحدث الأستاذ محمود وكتب الكثير من الكتب حول الشأن السوداني. وضع الحلول الشافية للكثير من القضايا، ورسم سيناريوهات لاتزال حيَّة وناجعة لصور البدائل والحلول للمشكلات. لكنه قُوبل بالرفض، والحرب، وحملات التضليل حوله وحول أطروحاته، بل سعى الكثيرون لتغييبه، وتغييب إنتاجه الفكري والمعرفي من الذاكرة الجمعية.

كان الأستاذ محمود يرى ما لم يستطع أن يراه أنداده من طلائع المتعلمين، في سير الأحداث ومآلاتها، وآثارها على المستقبل. قدم أطروحاته بأفق بعيد، ونظر مُوغل في المستقبل. لقد وضع الأستاذ محمود يده على إرهاصات مشكلة الجنوب، منذ وقت باكر، وسبق بذلك الساسة والقادة من طلائع المتعلمين، وتقدم الأحداث ناظراً للمستقبل. قال في السفر الأول الذي صدر في أكتوبر عام 1945م: (والمكان الأول من هذه العناية سينصرف لمواطنينا سكان الجنوب الذين قضت عليهم مدنية القرن العشرين أن يعيشوا حفاة عراة جياعاً مراضاً بمعزل عنا)... وتحدث في يوم 26 أكتوبر من عام 1945م، ضمن دستور الحزب الجمهوري، عن ضرورة العناية بالوحدة القومية، قائلاً: (نرمي بذلك إلى خلق سودان يؤمن بذاتية متميزة ومصير واحد وذلك بإزالة الفوارق الوضعية من اجتماعية وسياسية، وربط أجزاء القطر شماله وجنوبه وشرقه وغربه حتى يصبح كتلة سياسية متحدة الأغراض متحدة المنافع متحدة الإحساس).

تحدث الأستاذ محمود قبل ستة عقود ونصف من الزمان، بلسان المستقبل، وببصيرة العارف، وحكمة الحكيم الذي أوتي الخير الكثير. دعى باكراً إلى الحاجة لتنمية الوعي بالذاتية السودانية. ونادى بإقامة المشاريع التنموية في مختلف أجزاء القطر، لإزالة الفوارق بين المجموعات البشرية. وحثَّ على ضرورة العمل منذ ذلك الوقت على ربط أجزاء القطر بسبل النقل والمواصلات حتى تتحقق وحدة المنافع والأحساس. أيضاً، جاء في كتاب: معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية، الكتاب الثانى، الأخوان الجمهوريين، 1976م: (إن حل مشكلة الجنوب في حل مشكلة الشمال..  فالشمال والجنوب لا تحل مشكلتهما إلا بالمذهبية التي توحد، مشاعر الشعب وتوحد أفكاره.. ولقد اقترحنا الحكم اللامركزي الفدرالي ليس للجنوب فحسب بل لأقاليم السودان الخمسة وجاء هذا في كتابنا "أسس دستور السودان" بتاريخ 1955م، وقد قابله الناس في ذلك الوقت بالاستغراب وعدّوه تفتيتاً للقطر وفصلاً للجنوب.). وحول هذا المعنى تحدث الدكتور منصور خالد في محاضرة له، كان عنوانها: "محمود الذي عرفت" قدمها يوم 22 يناير 2009م، في مركز الخاتم عدلان للإستنارة والتنمية البشرية، بمناسبة مئوية الأستاذ محمود محمد طه، (1909م–2009م)، في الذكرى الرابعة والعشرين لإستشهاده عام 1985م، قائلاً: (ففي السياسة الحكمية كتب محمود في عام 1955م عن الفيدرالية كأصلح المناهج لنظام الحكم في السودان، في الوقت الذي كان غيرُه يصفُ الفيدراليةَ بأنها ذريعةٌ استعمارية لتفتيت وحدة السودان وكأنا بهؤلاء لم يكونوا يعرفون كيف وحدتْ الفيدراليةُ دولاً مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والهند، وكندا، والبرازيل، وألمانيا). إن ما طرحة الأستاذ محمود في كتابه: أسس دستور السودان، الذي نُشر عام 1955م، واستهجنه الناس آنذاك، قامت على جوهره إتفاقية أديس أبابا عام 1972م، ولم تخرج إتفاقية السلام الشامل من روحه، وقد جاءت بعد نصف قرن من الزمان.

الشاهد، أنك حينما تقرأ أطروحات الأستاذ محمود، تشعر كأنها قد كتبت صباح اليوم. قال في كتابه آنف الذكر: أسس دستور السودان: (ولقد قلنا إن المشاكل الراهنة لأي بلد هي في حقيقتها صورة مصغرة لمشاكل الجنس البشري جميعه، وهي في أسها، مشكلة السلام علي هذا الكوكب، وعندنا انه من قصر النظر أن نحاول حل مشاكل مجتمعنا السوداني داخل حدودنا الجغرافية، من غير أن نعبأ بالمسألة الإنسانية العالمية، ذلك بأن هذا الكوكب الصغير الذي نعيش فيه قد أصبح وحدة ربط تقدم المواصلات الحديثة السريعة بين أطرافه ربطا يكاد يلغي الزمان والمكان إلغاء تاماً، فالحادث البسيط الذي يجري في أي جزء من اجزائه تتجاوب له في مدي ساعات معدودات جميع الأجزاء الأخرى، يضاف إلي هذا أن هذا الكوكب الصغير الموحد جغرافيا، إن صح هذا التعبير، تعمره إنسانية واحدة، متساوية في أصل الفطرة، وان تفاوتت في الحظوظ المكتسبة من التحصيل والتمدين. فلا يصح عقلا أن تنجب قمتها الإنسان الحر، إذا كانت قاعدتها لا تزال تتمرغ في أوحال الذل والاستعباد، أو قل، علي أيسر تقدير، انه لا يمكن أن يفوز جزء منه بمغنم السلام والرخاء إذا كانت بعض أجزائه تتضرم بالحروب، وتتضور بالمجاعات..).

ظل الأستاذ محمود مسكوناً بحب السودان، ومهموماً بمستقبل شعوبه وأراضيه، إلى الحد الذي يجعلك تشعر بأنه كان مهموماً بالمستقبل أكثر من الحاضر، ويُعَوِّل على الأجيال الجديدة واللاحقة، ويُراهن عليها في إحداث التغيير، وفي القدرة على استيعاب اطروحاته. تلمس ذلك في كتبه وفي محاضراته. كان موضوع حب السودان ومستقبل مساره، من أهم محاور كتاباته ومحاضراته، وأحاديثه في مجلسه. كتب الأستاذ تاج السر حسين بتاريخ 27 يناير 2007م مقتطفات أجملها لاحقاً في مقال عنوانه: "محمود محمد طه الذى عرفته.." قائلاً: (وكنت من المحظوظين الذين التقوا الأستاذ/ محمود واستمعوا اليه وشربوا شاى الصباح فى بيته المتواضع المبنى من (الجالوص) وهو المهندس المتخرج من كلية غردون! وأستمعت للقرآن يتلى والأناشيد العرفانيه تردد، وأمور الدين والدنيا تطرح للحوار، وكأن ذلك البيت البسيط احدى جامعات العالم الأول العريقه، وهو فى الحقيقه أكبر من ذلك كله. ومن أكثر ما علق بالذاكره حديثه الذى خصنى به والذى قال فيه: "حب السودان من حب الله")! (تاج السر حسين، "محمود محمد طه الذي عرفته.."، سودانايل Sudanile، منبر الرأي، استرجاع (Retrieved) يوم 4 يناير 2010م، الموقع على الإنترنت: www.sudanile.com).

كان الأستاذ محمود صاحب نظر بعيد، وصاحب منظار شامل ومتكامل. يُمعير الأمور والأحداث بمعيار العارف المفكر الكبير، المتأمل للصورة الكلية والمشهد المتكامل، لا بمعيار السياسي، قصير النظر، ناقص النضج، ويافع الخبرة والتكوين. ذكر الدكتور منصور خالد في كلمة كتبها في يناير عام 1985م، ونُشرت بجريدة السياسة الكويتية، قائلاً: (ويا ليت حاكم السودان كان يملك الحس من المسئولية الوطنية التي تجعله يقول ما كان يقوله شهيد الحرية الأستاذ محمود: "تقول الحكومة راح منا عشرون وقضينا على ستمائة من المتمردين" أما نحن فنقول "لقد راح ستمائة وعشرون مواطناً سودانياً").

ذكر الدكتور فرانسيس دينق في كتابه: صراع الرؤى: نزاع الهويات في السودان، ترجمة عوض حسن محمد أحمد، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، ط2، 2001م، ص (114-122)، وهو يعيد النظر في ما عانته القومية السودانية من أحداث. ووقف عند أهم حدثين، يرى أنهما كانا الحدثين الرئسيين، الذين مثلا تطوراً هاماً في مسار القومية السودانية. وأشار إلى أن أولهما: ابعاد الجنوبيين من مفاوضات تقرير المصير الوطني، وثانيهما: فشل (وفقاً للمترجم) "الأخوان الجمهوريين"، بأن يكون لهم تأثير هام في الاتجاهات السياسية في البلاد. قائلاً: (بالنسبة للحدث الأول، فإذا ما حدث وتم اشراك الجنوبيين بشكل أكبر في عملية اتخاذ القرارات المؤدية للاستقلال لكان من الممكن غالباً، ضمان مساعدتهم في تطوير الترتيب الذي كان من الممكن أن يكون أكثر عدلاً في تقبل التنوع داخل الوحدة. ولو تحققت خلال فترة من الزمن حرية الحركة في البلاد والتعامل بين الجنوبيين والشماليين في اجواء من السلام والأمن، والانسجام النسبي، لكان ممكناً حينها دعم التكامل والاحساس بالهوية الوطنية. كان لابعاد وعزل الجنوبيين، خاصة في المرحلة النهائية لعملية تحقيق الاستقلال، جر البلاد في طريق جائر وصدامي دفين متوارث).

    وعن الحدث أو التطور الثاني الذى أثر في مسار القومية السودانية يقول فرانسيس دينق: (وبنفس القدر، إذا ما قُدر لمحمود محمد طه أن ينجح في تحقيق نظرته للمسيرة الإسلامية مرشداً للحركة السياسية في البلاد، لسادت الظروف المساعدة على المساواة بين المواطنيين، وشجع احترام الأسس الديمقراطية على خلق رؤية للوطن تجد الاحترام من الشماليين والجنوبيين على حد سواء. وكان يمكن حينها أن يكون الاحساس بالهدف الوطني مدفوعاً بتعاليم الإسلام، الليبرالية، والمتسامحة كما فسرها "الأخوان الجمهوريين" مما يعني، على المدى البعيد، امكانية أن تحقق فلسفة "الأخوان الجمهوريين" نجاحاً أكبر في تطوير الانتماء والتقارب مع الإسلام، مقارنة بالنماذج الأكثر قهراً والتي مازالت مهيمنة الآن. ومهما كانت النتائج المفترضة لعملية الاستيعاب المتسامحة هذه داخل القالب الإسلامي. إيجابية أم سلبية للجنوب. أدى كبت فكر محمود محمد طه، إلى ضياع الفرصة لتطوير هوية وطنية أكثر شمولاً وتكاملاً. على كلٍ ساعد كبته في الحفاظ على هوية الجنوب كوحدة مختلفة ثقافياً ودينياً).

نلتقي يوم الخميس القادم

(نقلاً عن صحيفة الأحداث، الخميس 16 سبتمبر 2010م)
عبدالله الفكي البشير
الدوحة، قطر
Abdalla El Bashir [abdallaelbashir@gmail.com]

 

آراء