الأطباء السودانيين في قطر منتدى العلم والشعر والفن والجمال، مارس 2023
د. أمجد إبراهيم سلمان
20 March, 2023
20 March, 2023
يقول أبو العلاء المعرّي
وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانُهُ
لآتٍ بما لم تَسْتَطِعْهُ الأوائل
وصف الشاعر أعلاه هو أصدق تعبير عن ما قام به الزملاء الأفاضل في اللجنة التنفيذية لرابطة الأطباء السودانيين في قطر برئاسة الدكتور حاتم عبد الرحمن و دوزنة المايسترو عبد الرحمن حمد و قلب الأسد الصديق أسامة النور و العالم الزاهد سهيل جمال و المتميزة الدكتورة أماني خليفة و كلاهما قد فازا مؤخراً بجائزة أفضل المعلمين الطبيين في مؤسسة حمد الطبية لهذا العام و برفقتهم طبيبين سودانيين آخرين ، و النطّاسي البارع د. محمد الشيخ البدري ، و المسئولة المالية المتميزة د. شهد إبراهيم أخصائية الباطنية و تحت تدريب برنامج الغدد الصماء و زميلنا في لجنتنا السابقة الخلوق د. محمد عثمان أخصائي النساء و التوليد و المجتهد د. عُمير محمد زين الأخصائي تحت التدريب في الطب النفسي و الشاب خالد محمد عثمان و هو تحت التدريب أيضا في الطب النفسي و بقية العقد الفريد من أعضاء اللجنة التنفيذية الغرّاء.
في ليلة الجمعة الموافق 17 مارس 2023 احتضنت صالة الوجبة الاحتفالية في الطابق التاسع لفندق لاسيجال الأنيق حفل استقبال الأطباء السودانيين الجُدد في مؤسسة حمد الطبية العريقة و عددهم 40 طبيباً في مختلف المجالات ، و قد أبت نفس لجنتهم التنفيذية إلا أن تُحسن استقبالهم بحفلٍ إزدان بإلقاء الشاعر المبدع د. محمد بادي و الذي عطّر أجواء الحفل بشعره المتنوع و طريقة أداءه المتميزة في فقرتين متتاليتين بينهما فواصل غنائية للفنان الشاب أسامة الشيخ والذي قدّم روائع الفن السوداني الأصيل و بين بينهم المبدعين عبد العزيز المبارك و سيد خليفة ، و قد كانت رائعة هذا الأخير بكلمات الشاعر الخالد إدريس جماع
دنياي أنت و فرحتي
و منى الزمان إذا تمنى
أنت السماء بدت لنا
و استعصمت بالبعد عنا
هلا رحمت متيماً
عصفت به الأشواق وهنا
و هتفت به الذكرى فطاف
مع الدجى مغنىً فمغنى
ولعمري فإن أداء الفنان أسامة الشيخ و قوة صوته و أداء فرقته الموسيقية المصاحبة ارتقى بالحالة النفسية للحضور مما جعل بعض الزملاء في حالة إنجذاب روحي متكامل مثل أستاذنا و قدوتنا الدكتور عصام عبد الباقي الذي تمايل طرباً مع الكلمات و الموسيقى و الأداء الرفيع. و ذكّرني ذلك مقدمة القمر بوبا للعملاق محمد وردي
شتتي الشبّال يا أم ضمير
خلّي قلوب الصبيان تطير
إنتي ريحتك دمور فرير
و لا بت السودان أصيل
و من نافلة القول أن ابن الفنان الراحل المقيم محمد وردي و هو الدكتور حافظ وردي إستشاري أمراض المفاصل كان موجوداً في هذا الحفل بحضوره الأنيق و ملامح والده الجميلة و قامته الفارعة و من شابه أباه فما ظلم.
إستمر الحفل لمدة 5 ساعات منتهياً في منتصف الليل بين شعر رفيع و غناء مدوزن و تسامر جميل ذكرنا بحفلات السودان في أيامه النواضر حيث تجاذبنا أطراف الحديث مع الزملاء الذين تحول ظروف عملنا الضاغطة عن اللقاء بهم و الحديث الحميم معهم و منهم الصديق أبوبكر عبد الجليل إستشاري أول طب الأطفال بمستشفى سدرة الذي عاتبني قائلاً " وين كتاباتك .. ذات الرسائل الإيجابية" و كثيراً ما يُندهش المرء أن ما يكتبه يجد من يقرأه بهذه الدقة و الحصافة مثل الدكتور أبوبكر و الدكتور صابر الشعراني الذي باغتني بنفس التساؤل بعد عدة دقائق من حديث الدكتور أبوبكر و لا غرو فإن الأطباء في العموم قًراءٌ نهمون حتى و إن كانوا مقلّين في الكتابة ، و مؤخراً أهداني الباشمهندس و الباحث عثمان الطيب كتاباً عن التعليم بعنوان "عبقرية الإهتمام التلقائي" للكاتب إبراهيم البليهي و فيه توثيق عن علماء و كتاب في مختلف العلوم الاجتماعية و الطبية و معظمهم من الأطباء و أذكر منهم غوستاف لوبون صاحب كتاب سايكلوجية الجماهير و هو طبيب فرنسي كتب روائع في علم الاجتماع ، و يحتوي ذلك الكتاب على مبدعين كثيرين من الأطباء حول العالم و الذي كتبوا في مواضيع مختلفة عن مهنتهم.
اليوم العلمي للمنتدى بدأ يوم السبت 18 مارس ، و في تمام الساعة الثامنة و النصف صباحاً يممنا أوجهنا شطر مركز إتقان للمؤتمرات التابع لمؤسسة حمد الطبية و هو مركز متخصص للمؤتمرات تم بنائه حديثاً بجانب وزارة الصحة العامة بشارع الاستقلال و هو امتداد لشارع الخليج المؤدي لدوار الدفاع المدني سابقاً كما يحلو للمخضرمين من أبناء قطر وصفه. استهللنا اليوم العلمي بعدة ورش متزامنة و كان أن وقع اختياري على ورشة رسم القلب من تقديم مستفيض للزميلات د. سماح عووضة و د. سلمى ابن عوف استشاريتي القلب بمستشفى حمد العام وكان أن صاحبني في المحاضرة صديق من الزمن الجميل و هو الدكتور برايان أوكومو من كينيا و هو زميل دراسة سابق في بولندا حيث فرقتنا دروب الهجرة فتخصص هو في طب الأسرة في بريطانيا و تخصصت أنا في نفس المجال في هولندا واجتمعنا على غير موعد في مركز أبوبكر الصحي في العام 2016 بعد حوالي 20 سنة من لقائنا الأخير في مدينة بوزنان البولندية الجميلة. و أبت نفس د. سماح عووضة إلا أن تزرزرنا في وصف وفك طلاسم رسم القلب من أذني الأرنب و بلوكات القلب المتعددة في الرسم البياني و التي كلما حفظناها نسيناها بعيد أيام قلائل لقلة الممارسة و لكن لدربتهن في هذا المجال كُنّ د. سماح و د. سلمى (الله يحفظ شبابهن) يتحدثن عن تلك الطلاسم كأنهن في نزهة مسائية على كورنيش الدوحة الجميل.
كان من اختياراتي أيضا ورشة أساسيات البحث العلمي و التطوير الطبي بأداء رفيع من د. محمد عمر الطاهر استشاري أول الطب النفسي بمؤسسة حمد و منسق إدارة البحث العلمي في قسم الطب النفسي بالمؤسسة ، حيث قدم الورشة بتناغم جميل مع الدكتورة صبا فيصل حيث أوضحا لنا بجلاء الفرق بين التدقيق (أوديت) ، و التطوير (إمبروفمنت) و البحث (ريسيرش) ، و التعريف العلمي الدقيق لهذه المفاهيم و ارتباطها المعرفي الوثيق في عمليات تقييم الأداء و الإرتقاء به و التوثيق المعرفي عبر البحث العلمي و في خواتيم تلك الورشة زارتنا اللجنة المنظمة للمنتدى بمعية سعادة الدكتور عبد الله الأنصاري استشاري أول المسالك البولية و المدير الطبي لمؤسسة حمد الطبية و الذي أمّن على أهمية البحث العلمي لدوره المحوري في تطوير الممارسة الطبية و ذكر أهمية البحث في توثيق إسم الطبيب في أضابير التاريخ ، و طاف بذهني حينها المثل الهولندي الشائع (من يكتب يبقى) و هو كناية عن أهمية التوثيق الذي يقارع الزمن و يقيد المعرفة و ليس أبلغ دليلاً على ذلك من الآثار النوبية بالدفوفة التي ظلت موثقّة كتابة نوبية حتى استنطقها عالم الآثار السويسري شارل بونييه بعد عدة آلاف من السنوات على كتابتها من قبل أسلافنا الأماجد.
بعيد استراحة الظهر افتتح المنتدى رسمياً بكلمة الدكتور سهيل جمال ممثلاً للرابطة ، حيث احتفى بتشريف المؤتمر من قبل سعادة سعادة وزير الصحة السوداني د. هيثم محمد إبراهيم و سعادة سفير السودان بدولة قطر الأستاذ أحمد سوار الذهب و سعادة الدكتور عبدالله الأنصاري المدير الطبي لمؤسسسة حمد الطبية الذي أسلفنا ذكره أعلاه ، و كانت المحاضرة الأولى في المؤتمر من تقديم الدكتور علاء الدين الملك عبر الإنترنت من مستشفى ماسادا في استراليا و د. الملك هو استشاري طب التأهيل و رئيس منظمة الأطباء السودانيين في أستراليا. و كانت محاضرته القيمة عن إعادة التأهيل للإصابات أمراض الجهاز العصبي في الدول ذات الدخل المحدود ، و هل يحتاج السودان لمؤسسات إعادة التأهيل في ظل شح الموارد المعروف.
بعد ذلك تسنم المنبر بروف أحمد فحل و تحدث عن تحديات و فرص البحث العلمي في السودان و قام بسياحة علمية و معرفية عن مفاهيم البحث العلمي في الطب الحديث و بداياته التاريخية ، و بعرض شرائح متعددة اتسمت بالبساطة و القوة في التعبير في نفس الوقت ، قدم عروضاً تاريخية لبدايات البحث العلمي في السودان مستعرضا صورة مختبر وليكوم العائم في بدايات القرن العشرين و الذي كيان يبحر في النيل شمالاً و جنوباً جامعاً للعينات و مستقصياً للأمراض. واختتم محاضرته القيمة باستعراض تجربته الشخصية بإقامة مركز أبحاث المايستوما في مستشفى سوبا و الذي يقوم بعلاج مرضى حتى من المملكة العربية السعودية.
اعتلى المنصة بعد ذلك البروفيسور عبد الرؤوف شرفي السكرتير الأكاديمي لمجلس التخصصات الطبية السوداني ، ووضح الفرص و التحديات التي تجابه المجلس خاصة في وجود 102 كلية طب في السودان تتفاوت مستويات أدائها العلمي ، و صعوبات فرض الجودة التي تؤدي في بعض الأحيان و لصعوبة الإمتحانات أن يرسب عدد كبير من المتقدمين لإمتحانات المستوى الأول أو الثاني في المجلس ، و لكن على الرغم من ذلك فقد ارتفع عدد التخصصات التي كان يقدمها المجلس من 6 إلى 60 خلال عقد و نصف من الزمان كما تمت زيادة مواعين التدريب من مركز واحد في الخرطوم إلى ثمانية مراكز على مستوى السودان.
تقدم د. محمد صلاح المدير العام لإدارة تطوير الجودة في وزارة الصحة السودانية و قدم شرحا مفصلاً عن مفهوم الجودة و إمكانية القيام بذلك حتى في البلدان ذات الإمكانيات المحدودة ، و ضرب مثلاً قوياً بإشكال بسيط بوجود حفر عميقة في أحد شوارع الخرطوم يكلف اصلاحها حوالي 14 ألف دولار بينما الخسائر التي يسببها ذلك الشارع للسيارات خلال العام الواحد تقدر بما يتجاوز مليون دولار تقريباً تكلفة اصلاح السيارات التي تتضرر من حفر ذلك الشارع ، مدللاً بذلك أن تطوير الأداء ممكن و بمجهودات بسيطة مهما كانت محدودية الموارد ، و مضى قدما بأن ذكر أن تطوير الأداء الطبي يقلل من الخسائر الفادحة للنظام الصحي و عقّب قائلاً أن معظم التبعات المالية لعدم تجويد النظام الصحي تقع تبعها على المريض في السودان و هو أمر مؤسف ، كما ذكر الدكتور محمد صلاح عن استبيانات الجودة و متابعة الأخطاء الطبية في المستشفيات الحكومية و صعوبة فرض معايير للجودة من قبل الوزارة نسبة لأيلولة المستشفيات للولايات مما يجعلها غير خاضعة لسلطة وزارة الصحة المباشرة ، و تحدث بصورة مفصلة عن اتفاقية بين الوزارة و مستشفى الخرطوم كي تطور هذا الأخير لكي يصبح نموذجا للأداء و التجويد خلال الخمسة سنوات القادمة.
بعيد الاستراحة الثانية قدم الدكتور المهندس هشام محي الدين المدير التنفيذي للصندوق القومي القطري لتمويل البحث العلمي محاضرة رفيعة عن التطور الكبير للصندوق خلال 16 عاما من بداياته و تطور الأداء فيه و آليات التمويل و التي وصلت حالياً أن تخصص نسبة 20% من مبلغ تمويل البحث المعين كي تصرف في مكان البحث خارج قطر ، كما أن الجهد المبذول في البحث يمكن أن يقام به و بنسبة 35% خارج دولة قطر و هو ما يعد مرونة كبيرة في تمويل البحث العلمي ، أيضا استعرض العديد من المشاريع العلمي المتميزة و منها بعض الشراكات مع قطر جينوم في بعض المشاريع البحثية الرائدة.
اختتم المنتدى د. بهاء حسن ، استشاري العناية المكثفة للأطفال في مؤسسة حمد الطبية ، في محاضرة قيمة عن دور أطباء المهجر في نقل خبراتهم و معرفتهم للسودان و تحدث باستفاضة عن نقص الكوادر الطبية المساعدة خاصة فنيي التنفس و الذين كان غيابهم ملحوظاً إبان جائحة كورونا ، كما أسهب في إمكانية وضع ضوابط و نظم لممارسة العمل في السودان و تقديم مشاريع شراكة مع المؤسسات قد تتخطى أن تكون في السودان فقط بل و تتعداه لدول أخرى.
أختُتِم المؤتمر بتقديم جوائز الأداء و الفوز للبوسترات العديدة التي صاحبت المنتدى ، لقد كان هذا المنتدى ذؤابة عمل رابطة الأطباء السودانيين في قطر و التي اشتد عودها منذ نعومة أظفارها في العام 2005 في بداياتها الأولى ، حتى شبت عن الطوق و بنت جسور تعاون و تدريب مع السودان و بالتنسيق مع الروابط المشابهة حول العالم ، لا يمكننا أن نقول كل ذلك و لا نذكر التضحيات الجسام التي بذلها الأطباء السودانيين في سبيل حماية المهنة عبر التاريخ المعاصر و التي توجت مؤخراً بإستعادة النقابة الغرّاء قبل أسابيع من منتدانا هذا ، و التي قامت و في لفتة بارعة بتقديم دروع تكريم لآباء الأطباء الذين قضوا نحبهم دفاعاً عن حياض هذه المهنة النبيلة ، يقيناً أن المجهود العملاق الذي قامت به اللجنة التنفيذية سيؤتي أُكله قمحاً و وعداً و تمنى في مقبل الأيام و لا يسعني هنا إلا أن اختتم هذا المقال بأبياتٍ أخرى من نفس قصيدة المعرّي
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل عفاف و إقدام و حزم و نائل
و قد سار ذكري في البلاد فمن لهم بإخفاء شمس ضوؤها متكاملُ
بقلم د. أمجد إبراهيم سلمان
الدوحة، الأحد 19 مارس 2023
amjadnl@yahoo.com
whatsapp 0031642427913
وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانُهُ
لآتٍ بما لم تَسْتَطِعْهُ الأوائل
وصف الشاعر أعلاه هو أصدق تعبير عن ما قام به الزملاء الأفاضل في اللجنة التنفيذية لرابطة الأطباء السودانيين في قطر برئاسة الدكتور حاتم عبد الرحمن و دوزنة المايسترو عبد الرحمن حمد و قلب الأسد الصديق أسامة النور و العالم الزاهد سهيل جمال و المتميزة الدكتورة أماني خليفة و كلاهما قد فازا مؤخراً بجائزة أفضل المعلمين الطبيين في مؤسسة حمد الطبية لهذا العام و برفقتهم طبيبين سودانيين آخرين ، و النطّاسي البارع د. محمد الشيخ البدري ، و المسئولة المالية المتميزة د. شهد إبراهيم أخصائية الباطنية و تحت تدريب برنامج الغدد الصماء و زميلنا في لجنتنا السابقة الخلوق د. محمد عثمان أخصائي النساء و التوليد و المجتهد د. عُمير محمد زين الأخصائي تحت التدريب في الطب النفسي و الشاب خالد محمد عثمان و هو تحت التدريب أيضا في الطب النفسي و بقية العقد الفريد من أعضاء اللجنة التنفيذية الغرّاء.
في ليلة الجمعة الموافق 17 مارس 2023 احتضنت صالة الوجبة الاحتفالية في الطابق التاسع لفندق لاسيجال الأنيق حفل استقبال الأطباء السودانيين الجُدد في مؤسسة حمد الطبية العريقة و عددهم 40 طبيباً في مختلف المجالات ، و قد أبت نفس لجنتهم التنفيذية إلا أن تُحسن استقبالهم بحفلٍ إزدان بإلقاء الشاعر المبدع د. محمد بادي و الذي عطّر أجواء الحفل بشعره المتنوع و طريقة أداءه المتميزة في فقرتين متتاليتين بينهما فواصل غنائية للفنان الشاب أسامة الشيخ والذي قدّم روائع الفن السوداني الأصيل و بين بينهم المبدعين عبد العزيز المبارك و سيد خليفة ، و قد كانت رائعة هذا الأخير بكلمات الشاعر الخالد إدريس جماع
دنياي أنت و فرحتي
و منى الزمان إذا تمنى
أنت السماء بدت لنا
و استعصمت بالبعد عنا
هلا رحمت متيماً
عصفت به الأشواق وهنا
و هتفت به الذكرى فطاف
مع الدجى مغنىً فمغنى
ولعمري فإن أداء الفنان أسامة الشيخ و قوة صوته و أداء فرقته الموسيقية المصاحبة ارتقى بالحالة النفسية للحضور مما جعل بعض الزملاء في حالة إنجذاب روحي متكامل مثل أستاذنا و قدوتنا الدكتور عصام عبد الباقي الذي تمايل طرباً مع الكلمات و الموسيقى و الأداء الرفيع. و ذكّرني ذلك مقدمة القمر بوبا للعملاق محمد وردي
شتتي الشبّال يا أم ضمير
خلّي قلوب الصبيان تطير
إنتي ريحتك دمور فرير
و لا بت السودان أصيل
و من نافلة القول أن ابن الفنان الراحل المقيم محمد وردي و هو الدكتور حافظ وردي إستشاري أمراض المفاصل كان موجوداً في هذا الحفل بحضوره الأنيق و ملامح والده الجميلة و قامته الفارعة و من شابه أباه فما ظلم.
إستمر الحفل لمدة 5 ساعات منتهياً في منتصف الليل بين شعر رفيع و غناء مدوزن و تسامر جميل ذكرنا بحفلات السودان في أيامه النواضر حيث تجاذبنا أطراف الحديث مع الزملاء الذين تحول ظروف عملنا الضاغطة عن اللقاء بهم و الحديث الحميم معهم و منهم الصديق أبوبكر عبد الجليل إستشاري أول طب الأطفال بمستشفى سدرة الذي عاتبني قائلاً " وين كتاباتك .. ذات الرسائل الإيجابية" و كثيراً ما يُندهش المرء أن ما يكتبه يجد من يقرأه بهذه الدقة و الحصافة مثل الدكتور أبوبكر و الدكتور صابر الشعراني الذي باغتني بنفس التساؤل بعد عدة دقائق من حديث الدكتور أبوبكر و لا غرو فإن الأطباء في العموم قًراءٌ نهمون حتى و إن كانوا مقلّين في الكتابة ، و مؤخراً أهداني الباشمهندس و الباحث عثمان الطيب كتاباً عن التعليم بعنوان "عبقرية الإهتمام التلقائي" للكاتب إبراهيم البليهي و فيه توثيق عن علماء و كتاب في مختلف العلوم الاجتماعية و الطبية و معظمهم من الأطباء و أذكر منهم غوستاف لوبون صاحب كتاب سايكلوجية الجماهير و هو طبيب فرنسي كتب روائع في علم الاجتماع ، و يحتوي ذلك الكتاب على مبدعين كثيرين من الأطباء حول العالم و الذي كتبوا في مواضيع مختلفة عن مهنتهم.
اليوم العلمي للمنتدى بدأ يوم السبت 18 مارس ، و في تمام الساعة الثامنة و النصف صباحاً يممنا أوجهنا شطر مركز إتقان للمؤتمرات التابع لمؤسسة حمد الطبية و هو مركز متخصص للمؤتمرات تم بنائه حديثاً بجانب وزارة الصحة العامة بشارع الاستقلال و هو امتداد لشارع الخليج المؤدي لدوار الدفاع المدني سابقاً كما يحلو للمخضرمين من أبناء قطر وصفه. استهللنا اليوم العلمي بعدة ورش متزامنة و كان أن وقع اختياري على ورشة رسم القلب من تقديم مستفيض للزميلات د. سماح عووضة و د. سلمى ابن عوف استشاريتي القلب بمستشفى حمد العام وكان أن صاحبني في المحاضرة صديق من الزمن الجميل و هو الدكتور برايان أوكومو من كينيا و هو زميل دراسة سابق في بولندا حيث فرقتنا دروب الهجرة فتخصص هو في طب الأسرة في بريطانيا و تخصصت أنا في نفس المجال في هولندا واجتمعنا على غير موعد في مركز أبوبكر الصحي في العام 2016 بعد حوالي 20 سنة من لقائنا الأخير في مدينة بوزنان البولندية الجميلة. و أبت نفس د. سماح عووضة إلا أن تزرزرنا في وصف وفك طلاسم رسم القلب من أذني الأرنب و بلوكات القلب المتعددة في الرسم البياني و التي كلما حفظناها نسيناها بعيد أيام قلائل لقلة الممارسة و لكن لدربتهن في هذا المجال كُنّ د. سماح و د. سلمى (الله يحفظ شبابهن) يتحدثن عن تلك الطلاسم كأنهن في نزهة مسائية على كورنيش الدوحة الجميل.
كان من اختياراتي أيضا ورشة أساسيات البحث العلمي و التطوير الطبي بأداء رفيع من د. محمد عمر الطاهر استشاري أول الطب النفسي بمؤسسة حمد و منسق إدارة البحث العلمي في قسم الطب النفسي بالمؤسسة ، حيث قدم الورشة بتناغم جميل مع الدكتورة صبا فيصل حيث أوضحا لنا بجلاء الفرق بين التدقيق (أوديت) ، و التطوير (إمبروفمنت) و البحث (ريسيرش) ، و التعريف العلمي الدقيق لهذه المفاهيم و ارتباطها المعرفي الوثيق في عمليات تقييم الأداء و الإرتقاء به و التوثيق المعرفي عبر البحث العلمي و في خواتيم تلك الورشة زارتنا اللجنة المنظمة للمنتدى بمعية سعادة الدكتور عبد الله الأنصاري استشاري أول المسالك البولية و المدير الطبي لمؤسسة حمد الطبية و الذي أمّن على أهمية البحث العلمي لدوره المحوري في تطوير الممارسة الطبية و ذكر أهمية البحث في توثيق إسم الطبيب في أضابير التاريخ ، و طاف بذهني حينها المثل الهولندي الشائع (من يكتب يبقى) و هو كناية عن أهمية التوثيق الذي يقارع الزمن و يقيد المعرفة و ليس أبلغ دليلاً على ذلك من الآثار النوبية بالدفوفة التي ظلت موثقّة كتابة نوبية حتى استنطقها عالم الآثار السويسري شارل بونييه بعد عدة آلاف من السنوات على كتابتها من قبل أسلافنا الأماجد.
بعيد استراحة الظهر افتتح المنتدى رسمياً بكلمة الدكتور سهيل جمال ممثلاً للرابطة ، حيث احتفى بتشريف المؤتمر من قبل سعادة سعادة وزير الصحة السوداني د. هيثم محمد إبراهيم و سعادة سفير السودان بدولة قطر الأستاذ أحمد سوار الذهب و سعادة الدكتور عبدالله الأنصاري المدير الطبي لمؤسسسة حمد الطبية الذي أسلفنا ذكره أعلاه ، و كانت المحاضرة الأولى في المؤتمر من تقديم الدكتور علاء الدين الملك عبر الإنترنت من مستشفى ماسادا في استراليا و د. الملك هو استشاري طب التأهيل و رئيس منظمة الأطباء السودانيين في أستراليا. و كانت محاضرته القيمة عن إعادة التأهيل للإصابات أمراض الجهاز العصبي في الدول ذات الدخل المحدود ، و هل يحتاج السودان لمؤسسات إعادة التأهيل في ظل شح الموارد المعروف.
بعد ذلك تسنم المنبر بروف أحمد فحل و تحدث عن تحديات و فرص البحث العلمي في السودان و قام بسياحة علمية و معرفية عن مفاهيم البحث العلمي في الطب الحديث و بداياته التاريخية ، و بعرض شرائح متعددة اتسمت بالبساطة و القوة في التعبير في نفس الوقت ، قدم عروضاً تاريخية لبدايات البحث العلمي في السودان مستعرضا صورة مختبر وليكوم العائم في بدايات القرن العشرين و الذي كيان يبحر في النيل شمالاً و جنوباً جامعاً للعينات و مستقصياً للأمراض. واختتم محاضرته القيمة باستعراض تجربته الشخصية بإقامة مركز أبحاث المايستوما في مستشفى سوبا و الذي يقوم بعلاج مرضى حتى من المملكة العربية السعودية.
اعتلى المنصة بعد ذلك البروفيسور عبد الرؤوف شرفي السكرتير الأكاديمي لمجلس التخصصات الطبية السوداني ، ووضح الفرص و التحديات التي تجابه المجلس خاصة في وجود 102 كلية طب في السودان تتفاوت مستويات أدائها العلمي ، و صعوبات فرض الجودة التي تؤدي في بعض الأحيان و لصعوبة الإمتحانات أن يرسب عدد كبير من المتقدمين لإمتحانات المستوى الأول أو الثاني في المجلس ، و لكن على الرغم من ذلك فقد ارتفع عدد التخصصات التي كان يقدمها المجلس من 6 إلى 60 خلال عقد و نصف من الزمان كما تمت زيادة مواعين التدريب من مركز واحد في الخرطوم إلى ثمانية مراكز على مستوى السودان.
تقدم د. محمد صلاح المدير العام لإدارة تطوير الجودة في وزارة الصحة السودانية و قدم شرحا مفصلاً عن مفهوم الجودة و إمكانية القيام بذلك حتى في البلدان ذات الإمكانيات المحدودة ، و ضرب مثلاً قوياً بإشكال بسيط بوجود حفر عميقة في أحد شوارع الخرطوم يكلف اصلاحها حوالي 14 ألف دولار بينما الخسائر التي يسببها ذلك الشارع للسيارات خلال العام الواحد تقدر بما يتجاوز مليون دولار تقريباً تكلفة اصلاح السيارات التي تتضرر من حفر ذلك الشارع ، مدللاً بذلك أن تطوير الأداء ممكن و بمجهودات بسيطة مهما كانت محدودية الموارد ، و مضى قدما بأن ذكر أن تطوير الأداء الطبي يقلل من الخسائر الفادحة للنظام الصحي و عقّب قائلاً أن معظم التبعات المالية لعدم تجويد النظام الصحي تقع تبعها على المريض في السودان و هو أمر مؤسف ، كما ذكر الدكتور محمد صلاح عن استبيانات الجودة و متابعة الأخطاء الطبية في المستشفيات الحكومية و صعوبة فرض معايير للجودة من قبل الوزارة نسبة لأيلولة المستشفيات للولايات مما يجعلها غير خاضعة لسلطة وزارة الصحة المباشرة ، و تحدث بصورة مفصلة عن اتفاقية بين الوزارة و مستشفى الخرطوم كي تطور هذا الأخير لكي يصبح نموذجا للأداء و التجويد خلال الخمسة سنوات القادمة.
بعيد الاستراحة الثانية قدم الدكتور المهندس هشام محي الدين المدير التنفيذي للصندوق القومي القطري لتمويل البحث العلمي محاضرة رفيعة عن التطور الكبير للصندوق خلال 16 عاما من بداياته و تطور الأداء فيه و آليات التمويل و التي وصلت حالياً أن تخصص نسبة 20% من مبلغ تمويل البحث المعين كي تصرف في مكان البحث خارج قطر ، كما أن الجهد المبذول في البحث يمكن أن يقام به و بنسبة 35% خارج دولة قطر و هو ما يعد مرونة كبيرة في تمويل البحث العلمي ، أيضا استعرض العديد من المشاريع العلمي المتميزة و منها بعض الشراكات مع قطر جينوم في بعض المشاريع البحثية الرائدة.
اختتم المنتدى د. بهاء حسن ، استشاري العناية المكثفة للأطفال في مؤسسة حمد الطبية ، في محاضرة قيمة عن دور أطباء المهجر في نقل خبراتهم و معرفتهم للسودان و تحدث باستفاضة عن نقص الكوادر الطبية المساعدة خاصة فنيي التنفس و الذين كان غيابهم ملحوظاً إبان جائحة كورونا ، كما أسهب في إمكانية وضع ضوابط و نظم لممارسة العمل في السودان و تقديم مشاريع شراكة مع المؤسسات قد تتخطى أن تكون في السودان فقط بل و تتعداه لدول أخرى.
أختُتِم المؤتمر بتقديم جوائز الأداء و الفوز للبوسترات العديدة التي صاحبت المنتدى ، لقد كان هذا المنتدى ذؤابة عمل رابطة الأطباء السودانيين في قطر و التي اشتد عودها منذ نعومة أظفارها في العام 2005 في بداياتها الأولى ، حتى شبت عن الطوق و بنت جسور تعاون و تدريب مع السودان و بالتنسيق مع الروابط المشابهة حول العالم ، لا يمكننا أن نقول كل ذلك و لا نذكر التضحيات الجسام التي بذلها الأطباء السودانيين في سبيل حماية المهنة عبر التاريخ المعاصر و التي توجت مؤخراً بإستعادة النقابة الغرّاء قبل أسابيع من منتدانا هذا ، و التي قامت و في لفتة بارعة بتقديم دروع تكريم لآباء الأطباء الذين قضوا نحبهم دفاعاً عن حياض هذه المهنة النبيلة ، يقيناً أن المجهود العملاق الذي قامت به اللجنة التنفيذية سيؤتي أُكله قمحاً و وعداً و تمنى في مقبل الأيام و لا يسعني هنا إلا أن اختتم هذا المقال بأبياتٍ أخرى من نفس قصيدة المعرّي
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل عفاف و إقدام و حزم و نائل
و قد سار ذكري في البلاد فمن لهم بإخفاء شمس ضوؤها متكاملُ
بقلم د. أمجد إبراهيم سلمان
الدوحة، الأحد 19 مارس 2023
amjadnl@yahoo.com
whatsapp 0031642427913