الأمام الصادق المهدي بين مرحلتين

 


 

 

 

عندما يرحل المرء عن الدنيا، تذهب معه أعماله، و أيضا تبقى أعمالا له أمام الناس كتابا مفتوحا بما انجزه من معارف و تركه من تصورات، و الحكمة أن يذكر للميت محاسن الاعمال دون سوءاته، و بحثت في دفاتر اللإمام عن سوءة واحدة لم أجدها، رجل كان لسانه عفيفا لا يفجر في خصومة و لا يقول فاحش القول و لا يقول إلا الحسنة، و كان صدره واسعا لأي نقد من قريب أو بعيد و لا يصنع منه جفوة بل يفتح معه أبوابا للحوار، كان يطرق آذنيه لكي يسمع من محدثه قبل أن ينطق ببنت شفا، كان موسوعة في السياسة و الثقافة و الفن، كان رجل دولة بمنطق التواضع و الحكمة و صدع القول الحق، تعرفت علي الإمام عن قرب و ليس سمع مثل الآخرين، جلست معه جلسات مطولة سمعته في السياسة و الثقافة و الفن، و تعرفت عليه في أصعب الأزمات السياسية و كيف كان يتصرف عن ردة فعل أم حكمة يدخرها لمثل هذه الظروف، كان يختلف عن السياسيين الآخرين لا يسلم علي الناس إلا واقفا مهما كان المقبل علي السلام، احترام الآخر هو من احترام الذات و دلالة علي سعة الثقافة و التواضع، رجل أعد نفسه لهذا اليوم أن تفجع الأمة كلها برحيه، حتى الشياطين وقفت سكلى علي رجل استعصى عليها في الغواية، نسأل الله له الرحمة و المغفرة.

في أوائل الثمانينات أسست مع الأخوين الفاضل كباشي و الفاضل حسن "جمعية الثقافة الأفريقية" و الفاضل كباشي كان مغرما بالثقافة الأفريقية و مترجما للقصص القصير الأفريقية لجريدتي " الأيام و الصحافة" و أيضا لإذاعة "صوت الأمة" و كنا نقيم نشاطاتنا في عدد من نوادي الخرطوم نادي اليوناني و الايطالي و نادي ناصر. و وجدت الجمعية صدي في الفئة الاجتماعية للطبقة الوسطى و الرأسمالية بحكم أماكن النشاط، بعد انتفاضة إبريل و قيام الانتخابات و كون الصادق المهدي وزارته، في إبريل عام 1989م جاءني الفاضل كباشي أن نقيم مؤتمرا للثقافة الأفريقية، و ندعو له عددا من الكتاب الأفارقة في المسرح و الشعر و القصص القصيرة و الرواية. و نكتب للصادق المهدي لكي تتكفل الدولة بكل شيء و نحن نساهم بأسم الجمعية. ضحكت لكن راقت إلي الفكرة. و كتبت المشروع مفصلا، و بحكم عملي في إدارة الأخبار في الإذاعة و التغطية الأخبارية استطعت أن اقدم المشروع لمدير مكتب رئيس الوزراء، و بعد اسبوع اتصل بي الأستاذ صلاح عبد السلام الخليفة وزير شؤون مجلس الوزراء لمقابلته، و ذهبت إليه، و قال أن رئيس الوزراء موافق علي المشروع من حيث المبدأ، لكنه يريد مقابلتكم للحديث عن المشروع و أهدافه و كيفية تنفيذه، و اتصلت بالفاضل كباشي و لكنه رفض الحضور، و التقيته صدفة في حوش الإذاعة و أخبرته أن رئيس الوزراء موافق من حيث المبدأ علي المشروع، قال "أنا ما مصدق رجل لا يعرفنا كيف يقبل مشروع من نكرات" و لا اعرف لماذا تراجع الفاضل كباشي، و الشيء الذي تأكدته تماما من حديث صلاح عبد السلام معي علي التلفون قبل مقابلة رئيس الوزراء أنه متحمس للمشروع جدا.
ذهبت لرئيس الوزراء و التقيته كان بشوشا مرحبا بشاب تدل الثياب التي يرتديها أنه من عامة الناس، و لم يسألني عن انتمائي السياسي و لا عن هويتي و لا قبيلتي فقط عن اهتمامي بالثقافة الأفريقية و تحدث معي عن التنوع الثقافي في السودان، و وجوب الهتمام بالعملية الثقافية. و ناقشت معه المشروع، قال إلي موافق علي المشروع و نعمل سويا من أجل تنفيذه، لكن الدولة تتحمل جزء، و نتصل بالرأسمالية تتحمل الجزء المتبقي، و الجمعية تتحمل الدعوات و اختيار العناصر التي تكتب الأوراق، و سوف أكلف وزيري الخارجية و الإعلام لمساعدتكم في ذلك. و لكن جاء انقلاب الجبهة الإسلامية لكي يوقف تنفيذ المشروع. هذا المشروع أكد لي أنني أمام شخص يختلف عن كل السياسيين، أن يفتح بابه لشخص من العامة و يقبل المشروع الذي قدمه، تؤكد تواضع رجل يؤمن أن الناس تقيم بأعمالهم.
بعد انقلاب الإنقاذ، و رحلة الإمام الصادق " تهتدون" تغيرت الأوضاع في القاهرة تماما، حيث تعددت المناشط، كنت اشغل في ذلك الوقت مديرا " لمركز السوداني للثقافة و الإعلام" و كانت نشاطات المركز متنوعة بين السياسة و الثقافة و الفنون. مما اتاحت إلي الفرصة أن التقي بالعديد من القيادات السياسية و الحوار معهم بشأن خاص و عام من خلال نشاطات المركز، و التقيت بالإمام كثيرا في حوارات متعددة، و كان رجل يطيل الإصغاء و سماع المبادرات، قدمناه في العديد من ندوات المركز السياسية و الثقافية. و ذات يوم ذهبت إليه في مكتبه و سألني عن نشاطات المركز قلت له اليوم عندنا جلسة عن حقيبة الفن سوف يتحدث فيها الاستاذ السر قدور و الفرجوني، و بعد ما بدأت الندوة بخمس دقائق جاء الإمام مرتديا بدلة و أعتذر عن التأخير لأنه كان في اجتماع و استمع للندوة بل تداخل فيها بمعرفة رجل ملم بقضايا الفن و خاصة حقيبة الفن.
عندما عقد مؤتمر حزب الأمة بالعاصمة الاريترية " سمرا" في تسعينات القرن الماضي، و في جلسة خاصة سألت الإمام، في أول خطاب لك في البرلمان عام 1986م ذكرت أن حزب الأمة قد تمدد وسط الطبقة الوسطى؟ السؤال مكون من شقين الأول متى انتقل حزب الأمة من الطبقة الاقطاعية. و هل تعتقد أن الفوز في عدد من دوائر العاصمة و عواصم الأقاليم هو التمدد أم أن التمدد جاء لطرح فكري ينقل الحزب من طبقة الاقطاع للطبقة الوسطى؟ ضحك الإمام و قال قرأت مقالاتك عن ذلك. و حزب الأمة لم يكن اقطاعيا لأن المجتمع السوداني مجتمع متحول وفقا للتغييرات السياسية و الاقتصادية العديدة، و الانتخابات الديمقراطية الآخيرة كشفت أن الحزب تمدد داخل الطبقة الوسطى من خلال البرنامج الانتخابي الذي طرحه علي الشعب، و وجد قبولا في الشارع و خاصة الطبقة الوسطى، من قبل كان البعض يعتقد أن الأحزاب لها أماكن تقليدية هي التي تفوز فيها، و لكن الآن حزب الأمة كسر هذه القاعدة، و تمدد في الطبقة الوسطى و استقطاب قاعدة عريضة منها، و إذا نظرت للبرامج المطروحة في الشارع تجدها مقدمة من حزب الأمة إليس دور الطبقة الوسطى عملية الاستنارة الآن نحن دعاة الاستنارة في المجتمع.
في عام 1998م عقد التجمع الوطني الديمقراطي مؤتمرا في العاصمة الاريترية " أسمرا" و في هذا الاجتماع كانت هناك نية مبيته من قبل ثلاثة قوى سياسية لطرد حزب الأمة من التجمع الوطني الديمقراطي، هذا ما كان يبدو ظاهرا، لكن كان هناك شخص واحد هو الذي كان يريد الطرد، بسبب أن الإمام المهدي ليس من السياسيين الذين يبصموا و يقدموا تأييدا علي صكوك بيضاء، لكنه كان يسأل و يتقصى بشكل تفصيلي ثم السؤال عن النتائج المتوقعة، الأمر الذي جعل الشخص المعني غير راضي عن ذلك، و كانت سلطته و سطوته غالبة علي بقية القوى الآخرى. كان الإمام يعتقد هناك تحالف محكومة ببرنامج وأجندة محددة و يجب التقيد بها، و لكل قوى سياسية حرية الحركة في انجاز مهامها الحزبية و بناء تكتيكاتها، هذه الرؤية كانت لا ترضي البعض. بعد طرد حزب الأمة ذهبت إلي الإمام في مكتبه مع الأخ أحمد البكري و تناقشنا حول المؤتمر، و قدمنا مبادرة من المركز بهدف معالجة ما حدث في المؤتمر. قال الإمام إذا قدمتم المبادرة الآن سوف يقولوا وراءها حزب الأمة، و لا تفهم الفهم الصحيح، المسألة الثانية أن الجهة وراء العمل لن توافق لأن الهدف إبعاد حزب الأمة لكي يتسنى لها إدارة التجمع بالصورة التي تريدها، لكن لن أكسر مجاديفكم، نحن ليس ضد رأب الصدع، و لكن لن نكون علي هوى الآخرين، بل ما يخدم أهداف التحالف. و بالفعل أجرينا ثلاثة مقابلات واحدة مع التجاني الطيب رئيس العمل الخارجي للحزب الشيوعي، و الأخرى مع قيادة قوى التحالف في القاهرة، و الثالثة مع بعض القيادات الاتحادية، و بعد ساعات ملأت القاهرة بالشائعات التي تقول أن حزب الأمة وسط المركز السوداني للثقافة و الإعلام للرجوع للتجمع، أوقفنا المبادرة، و كنا متأكدين أن الشائعة خرجت من قوى التحالف و روجتها عناصر من الاتحاديين، لمعرفتي بشخصية التجاني الطيب و كيف يتعامل مع مثل هذه المبادرات لم يكن هو مصدرا للشائعة، و كتبت مقالا في جريدة الخرطوم أنفي صلة حزب الأمة بالمبادرة. ثم التقيت بالصادق المهدي، الذي قال هذه هي السياسية في السودان، البعض يعتقد إنها مكائد و صناعة المؤامرات، و البعض الآخر يعتقد التحالف هو فرض رؤيته دون الآخرين، جميل أوقفتم المبادرة لكن الأحداث القادمة هي التي سوف تشكل ملامح العمل القادم. و حكمته هي التي جعلته يقول في بداية التفاوض بين قحت و المجلس العسكري، قال تعاملوا مع العسكر بأنه جزء من الثورة و لا تفقدونهم لكي يتم العبور لمرحلة جديدة تتوج بعملية التحول الديمقراطي. كان يتخوف أن مواجهة العسكر تجعلهم الاتجاه للبحث عن حاضنة جديدة. و الذي تخوف منه قد حصل ذهب العسكر للبحث عن حاضنة بديلا عن قحت و قد انتصروا ضعفت قحت و حملت كل أخطاء الفترة الانتقالية.
استطاع الإمام أن يفتح منابر عديدة للمعارضة في القاهرة، حيث استضافت العديد من المنابر الإمام في جريدة الأهرام و الوفد و مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجية و الجامعة الأمريكية و مركز القاهرة لحقوق الإنسان و غيرها و تتنوع المشاركة بين السياسة و الثقافة و الدين و الفنون، التي استطاعت فيها المعارضة أن توسع مساحات التفاعل مع المثقفين و الصحافيين المصريين، الأمر الذي يؤكد حيوية الرجل و معرفته كيف يفتح منافذ أخرى لإرسال الرسائل.
رحل المهدي بجسده، و لكن يبق ما أنتجه من كتب و خطابات هي ملك للشعب السوداني، و هي مرحلة جديدة للعمل السياسي في البلاد. و أيضا حزب الأمة الذي سوف يواجه تحدي حقيقي، باعتبار أن الصادق المهدي كان صاحب كارزمة استطاع أن يغطى وظيفة الإمام و رأسة الحزب السياسي. و علي الرغم من أن الصادق قد تحدث مرات عديدة عن رؤيته لفصل الوظيفتين، ثم ابتعاده عن العمل السياسي المباشر، و يختصر عمله علي العمل الفكري. لذلك ليس أمام اسرة المهدي و جماهير حزب الأمة و أيضا طائفة الانصار إلا فصل الإمامة عن رئاسة الحزب، خاصة لم تظهر حتى الأن كارزمة تستطيع أن تملأ الوظيفتين في وقت واحد. و برحيل الصادق المهدي سوف تبدأ مرحلة جديدة لحزب الأمة مليئة بالتحديات الداخلية للحزب إيجاد الشخص الذي يملأ مكانة الصادق الذي كان يقوم بدور السياسي الذي يدير شؤون الحزب و دور المفكر و دور الخطيب الذي تسمعه كل الأمة السودانية.
نسأل الله أن يرحم الصادق المهدي صاحب القلب الكبير الذي كان يتسع ليحضن أمة بكل وطوائفها، رجل كان يمثل حجر الزاوية في العملية الديمقراطية في البلاد، و قدم فيها تضحيات جسام، و إنتاجا معرفيا غزيرا. و نسأل الله أن يعين قيادات حزب الأمة أن تواجه هذه التحديات بصدور واسعة و أذهان مفتوحة، و التمسك بعملية التحول الديمقراطي في البلاد التي كانت تمثل القضية المركز للإمام الصادق المهدي.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء