الأمريكي: قصة قصيرة

 


 

 

بقلم: د. عمر عباس الطيب

الأفق يضيق ويتسع كما رئتيك، وهما تحاولان جاهدتين رفدك ما أمكن من أنفاس الحياة، بعد أن داس ذو العرق الآري بصحن ركبته اليمنى عظام عنقك؛ حتى كاد أن يسحقها، وأنت ممدد على بطنك مسلوب الارادة، يتمتم بكلمات مسموعة ( زنجي ابن حرام ما علاقتك بفلسطين) أمرك أن تضع يديك خلف ظهرك ومن ثم قام بإحكام وثاقك، وقع تلك الكلمات أشد إيلاماً مما تجد، لطالما وليت دبرك منها، ها هي ذي ترافقك أينما حللت؛ وكأن الأقدار تتأبطك ولا تقوى انعتاقاً منها ، ومما زاد من آلامك أن حافة السلسة الفضية انغرست تحت سطح جلدك؛ صرخاتك تستجدي المارة في بلاد العم سام؛ لكن سطوة القانون الذي طالما حلمت به تحدد كل شيء، اعتقدت وأنت تصرخ ملء شدقيك(الحرية لفلسطين ) في تلك المسيرة أنك تمارس حقك الدستوري، لكن ما لا تعرفه أن ذاك الجندي يعتبر نفسه من شعب الله المختار، داهمتك صورتها فجأة؛ أحقاً أحببتها؟ أم أنك فعلت كل ذلك بدافع الانتقام من أبيها! تراءى لك شبح وجهها الطفولي الملائكي، أي براءة لوثت؟ وأي حمىً انتهكت.. صوت الصخب يبتعد رويداً رويدا وأنت مكبل الإرادة لا تلوي على شيء، صوت حشرجة .. كانت السماء تهوي في عينيك .
تعود بك الذاكرة إلى الوراء ؛ها أنت هناك في حضن الأهل والعشيرة؛ تجتاحك فرحة هستيرية؛ تقفز في كل مكان كمن فقد عقله بغتة، توجت ذلك كله ثم حجلت نحو الأفق؛ كفارس بجاوي يحاول تجنب ضربة سيف ، وكأنك ادخرت كل فرح السنين لهذه اللحظة، اكتظت الدار بسحنات القرويين المختلفة شيباً وشباباً؛ بعد أن استدعاهم صوت زغاريد أمك الحادة، قالت المرأة الخمسينية وهي تجيب عن دهشة القرويين:(ولدي مسافر أمريكا؛ اختاروه في اللوتري في القرعة العشوائية) باغتك أحدهم بسؤال بعد أن نظر إليك شزرا:
- أيستحق الأمر كل هذه الفرحة؟
- وأجاب بنفسه على تساؤله: حين ينجلي الغبار ستعرف أراكب على فرس أم حمار، قال قرعة عشوائية؛ الله يقرع راسك يا ولد ال.. لكن السائل والمجيب حين استوعب اجابة المرأة ؛ تمطى شيطانه فرحاً؛ نظر إليها.. ما تزال تحتفظ بمسحة جمال آفل، غمزها بعينه اليسرى وحك ما بين فخذيه، أحنت المرأة رأسها حياء وسمرت عينيها على بقعة من الأرض ؛ كي لا تبصرها عين رقيب.
لكم نفرت من هذا الصوت وتمنيت في أعماقك قتله ألف مرة، على الرغم من التشابه بينكما في الصفات الجسدية؛ الجبهة الناتئة العريضة، والعينين الغائرتين الحادتين كعيني صقر ، والأنف الأفطس بفتحتيه المميزتين كنفق عظيم، والجسم المربوع المنحوت قوة، الوجه المكتنز الذي يحط على رقبة قصيرة سميكة ،والبشرة الداكنة كطمي النيل، غير أن ما يميزك عنه هو مظهرك الغربي؛ بنطال جينز عريض وتي شيرت مُلأ عبارات انجليزية، وسلسلة فضية عريضة تحيط بعنقك ككلب بيتبول، وحذاء رياضي ناصع البياض؛ حتى يخيل لمن يراك أنك أحد أفراد عصابات الشوارع في نيويورك.
لم تكل ولم تمل وأنت تقدم لهذه القرعة طيلة خمسة عشر عاماً ؛ تؤمن بصورة عمياء في عدالة قوانين بلاد تموت من البرد حيتانها، لم يساورك أدنى شك في الحصول على تلك البطاقة الخضراء؛ وإن تطاول أمد السنين، تعلم أن ذلك اليوم آت لا محالة؛ لذا لم تدخر جهداً في الاستعداد له، جذبتك لغتهم فأتقنتها في سنينك الجامعية، أتقنت لهجة الآفروأمريكان ، أحطت بثقافتهم من خلال الشاشة الزرقاء ودور السينما، لم تألو جهداً في الحصول على شهادات اللغة التي تؤهلك للحياة هناك، بل وأكثر من ذلك أنك كنت تحول مدخراتك القليلة الى تلك العملة بعينها؛ العملة التي تحمل وجه الرجل الأصلع، يخيل إليك حين تنظر إليها أن ذلك الأصلع يناديك هلم إلينا تبتسم إليه بطريقة مثيرة للسخرية.
لا تعرف شيئاً عن أبيك، يقول أهل القرية إنه غريب عنهم ، زوجوه من أحد بناتهم ورحل بغتة كما جاء، جل ما تعرفه أنه خرج ولم يعد؛ لم خرج لا تعرف! ولماذا لم يعد؟ أيضاً سؤال بلا إجابة، حين تلح على أمك بالسؤال كانت تهرب من كلماتك، تعاود كرة السؤال؛ ومتى خرج؟ بعد مولدك بأسبوعين، عقلك يربط خيوط الهمز واللمز ويجمعها في نسيج واحد؛ ثم ما يلبث أن يبددها، كنت تسكب دموعاً سخية كلما خلوت بنفسك ، تقاسي لوعة الوحدة والغربة الداخلية؛ وإن أحاط بك بنو البشر، جرحك نازف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تعرف أن هؤلاء القوم هم من تسبب بتعاستك، لن تغفر لهم ..لكنك لا شك ستنتصر لنفسك ولو بعد حين.
لم تكن تعنيك صورتك أمام أهل القرية؛ كنت كالكلمة الشاذة بينهم، دوماَ تسبح ضد تيار العرف والتقاليد، بزيك الغربي كنت هدفاَ لتعليقاتهم الساخرة وازدرائهم لك، وهم الذين يحافظون دوماً على زيهم التقليدي؛ سروال البوجا الفضفاض بمثلثاته الملونة، الجلباب ناصع البياض، يتزينون بالصديري والسكين الكسلاوي في أفراحهم و، ينعتونك بأقذع الأوصاف، لكن ذلك لا يحرك ساكناً فيك، بل تجد لذة لا تضاهيها لذة، ها أنت هناك في أحد أفراح القرية تدلف إلى دائرة الرقص بزيك الغربي المنفر، تتمايل في تكسر ولين على إيقاع غناء يمجد الشجاعة والرجولة، يخرج الشباب من دائرة الرقص مغاضبين؛ يجرجرون عصياً غليظة مبطنة بجلد الخراف؛ بعد أن أحكموا قبضتهم على أطرافها في غضب، كم تمنو في دواخلهم أن ينهالوا بها على رأسك؛ لما أفسدته من متعة ينشدونها،(مسخرة.. مدرسين آخر زمن..) أنت الآن تجلس على قمة النشوة ترسل ابتساماتك الخبيثة تطبعها على أوجه الفتيات؛ تعرف الكثير منهن كمعلم للغة الانجليزية بالمدرسة الثانوية ، فيبادلنك ضحكات خافته هامسة خشية أعين العشيرة، ،قرينك يشاطرك الحماسة فتزيد من تمايل كل نتوء في جسدك.
تقول لأقرانك أنك تريد الهرب من هذه الحياة التعيسة البائسة، تقنعهم أن لا شيء يبعث على السعادة هنا؛ فالأيام متشابهة ورتيبة لا جديد فيها، تقول لهم إن العوز يحيط بالجميع، تحرك رأسك في أسى ثم تردف الناس يموتون ببطء من أمراض المناطق الحارة ومن سوء التغذية، تعيد عليهم رغبتك في تغيير قدرك ، حفظ أقرانك عبارتك المشهورة ورددوها وقد تعالت ضحكاتهم قبل أن تستشهد بها( كم مرة نعيش في هذه الحياة إنها مرة واحدة فقط، فلنعشها كما نشاء)، لكنك في الحقيقة تحتفظ بأسباب الرحيل الحقيقية لنفسك.
كنت تنتقم بصمت في أعز ما يملكون، لكنك في تلك المرة وبعد أن ضمنت البطاقة الخضراء تماديت كثيراً، كنت تقصد ما تفعل وتعرف النتيجة مسبقاَ، لكن مالا تعرفه أنها أحبتك حد الجنون، تساءلت في أعماق روحك؛ أيكون هذا هو الجزاء الذي تستحق!؟، تنهدت بصعوبة تحت ركبة الآري ، تتلاشى أنفاسك تدريجياً، فيما كانت مضغة أمريكي آخر تتشكل في رحم الغيب؛ ومأساة أخرى تولد من جديد تبحث عمن يسترها.

umeraltayb248@hotmail.com

 

آراء