كتب زميلنا وصديقنا المُبجل محمد علي صالح مقالاً جاذباً الأسبوع الماضي في صحيفة الواشنطن بوست. حكى فيه عن تجربته وأسرته مع وباء الكورونا (كوفيد19) والواشنطن بوست كما هو معروف صحيفة ذائعة الصيت في جميع أنحاء العالم. وزميلنا الذي أُكنيه (شيخ الصحافيين) يستحق هذا اللقب عن جدارة مهنياً وثقافياً وأخلاقياً. فهو على مدى أكثر من نصف عمره ظل يرفد الصحف الأمريكية بموضوعات شتى، ذلك إلى جانب وظيفته الراسخة في صحيفة الشرق الأوسط. إذ يُعد من أقدم مراسيليها منذ صدورها في حقبة السبعينيات. كما كان أول من راسل الصحافة السودانية بموضوعات أبحرت في استكشاف أمريكا من الداخل. وقد أبلى في ذلك بلاءً ما زال كثير من الناس يحفظونه له، لا سيما سدنة الثقافة وأرباب المعرفة التواقين لسبر غور العوالم الأمريكية الخفية!
(2) المقال المشار إليه كان بعنوان (أصيبت زوجتي وبناتي بفيروس كوفيد 19 هل أكون التالي؟) سرد فيه تجربته وأسرته مع وباء الكورونا، حيث أصيبت زوجته وكريمتيه، في حين دخل هو في عزل صحي لمدة أسبوعين انتهت بسلام وتماثل الآخرون للشفاء. محمد هو على مشارف العقد الثامن، وقال إن لديه بعض أمراض الكِبر، وعند بدايات تزايد موجات الوباء في الصيف الماضي. ومع تفاقم إحساسه بأنه لن يستثني أحداً، اضطر لكتابة وصية مؤثرة طلب فيها من أسرته الصغيرة أن تبقى بعيداً عنه حياً وحين مماته بتفاصيل دقيقة. وعندما تأكدت إصابة الثلاث خضعوا لتعليمات الدوائر الصحية التي تطلبت فصلاً تاماً لكل أنماط الحياة داخل البيت، الأمر الذي كان قاسياً على حياة زوجية امتدت لأكثر من أربعة عقود زمنية. وبرغم كآبة الوباء إلا أن المقال مضى حتى نهاياته مشكلاً لوحة سردية سريالية مفعمة بشتى المشاعر والخواطر والذكريات والدروس والعبر.
(3) استكمالاً لمقال الشفافية ذاك، شرح محمد الخطوات التي سبقت نشره في الصحيفة وذلك موضع نظرنا في هذا المقال. وقد رأينا ضرورة أن يعلمها الناس لربما أعانت في ترميم واقع بئيس نعاني منه في كيفية التعامل المسؤول مع الإعلام بصورة عامة والذي أصبح شعبياً بصورة خاصة، ونعني بذلك وسائل التواصل الاجتماعي برمتها، واضعين في الاعتبار أن صاحب المقال معروف بالنسبة للصحيفة. ومع ذلك كان التدقيق الذي ينم عن المهنية والمصداقية واحترام عقول القراء ملموساً.
(4) قال إنه عندما أرسل المقال، ردت عليه الصحيفة بالموافقة المبدئية وسألوه ما إذا كان قد نُشر في صحيفة أخرى؟ فقال لهم إنه أرسله لصحيفة نيويورك تايمز وصحف أخرى، إلا أنه سوف يطلب منهم إلغاءه. عادوا وسألوه ما إذا كان قد نُشر في (الانترنت) بأي صورة من الصور أو أجزاء منه؟ فأجابهم بالنفي. وبعد يوم أجروا بعض التعديلات الطفيفة وأعادوه له ليُبدي رأيه فيها؟ فأجابهم بالموافقة. وبعد يوم قالوا له إنهم أرسلوه إلى قسم التدقيق من المعلومات وجاءت النتيجة بالموافقة. وبعد يوم آخر أرسلوه إلى قسم التصحيح النهائي وأخبروه أنه تمَّ الفسح. وبعد ذلك أرسلوا له (البروفة) النهائية فوافق عليها. ثمَّ أرسلوا له رسالة ذكروا فيها أن النشر سوف يكون يوم الجمعة الساعة التاسعة صباحاً في موقع الصحيفة الالكترونية، ويوم الأحد في النسخة الورقية، وهو ما حدث بالفعل. والجدير بالذكر أن الصحيفة وضعت روابط في المقال لعدة موضوعات مذكورة، منها رابط يقود للطب النبوي (نظراً لأن الكاتب ذكر في المقال أن والده كان يستخدمه لمعالجة أهل قريته في شمال السودان) وكذلك هناك رابط معهد الصحة الوطني والذي يحتوي على بحوث علمية عن الطب النبوي.
(5) طرأ على ذهني وأنا استعرض هذه الخطوات حالنا في صحافة (السجم والرماد) برغم عمرها الذي تجاوز المائة عام. فالصحافة هي التنوير وهي مرآة المجتمع وهي المشيمة التي توفر الأوكسجين وعناصر التغذية الملائمة للعقل البشري. وبهذا المنظور يصبح من الخطل والتجني على إطلاق تلك الصفات السامية على (الصحافة السودانية) والمحزن أن ذلك يحدث في أعقاب ثورة تواصينا على أنها ثورة وعي وبعث للقيم النبيلة التي وطأتها أحذية الديكتاتوريات. وأظن أننا نطلب المستحيل لعلمنا أنها ما تزال في قبضة حفنة من الانتهازيين وقصيري النظر وعاطلي الهمم. لن تخرج من هذا الجب ما دام أصحاب العقول الخاوية والبطون الجائعة طلقاء يرتعون بين الناس، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف جهاراً نهاراً!
(6) نحن نعيش في ظل صحافة (الملوص) ولكن هل نعلم إلى أين نحن منقادون؟ هل نجهل ماذا سينتج من تسميم عقول المجتمع كل يوم؟ هل نظن وهماً أن تلك هي الحرية التي استشهد من أجلها شباب يسدون عين الشمس؟ هل أصابنا الكسل العقلي لدرجة صرنا فيها كالسوام بل أضل سبيلاً؟ إن أسوأ ما في الحال (المائل) الذي نرزح فيه، هذا الصمت الخؤون ونحن نرى الأكاذيب تُنشر والترهات تُنسج والأباطيل تُحاك. نقف مكتوفي الأيدي وخفافيش الظلام تتبارى فينا بالأذى حد الوقاحة. صحافة (مجازاً) تكتب أي شيء وتنشر أي شيء وتحرف كل شيء. صحافة تعيش انحطاطاً أخلاقياً وتقبع في غيبوبة استباحت القيم والمثل والمبادئ. فقد سلبوا من المهنة أعز ما تملك وهي عذريتها!
(7) ليت الأمر قاصر على الصحافة فالإعلام برمته مسموم، ثمة كارثة اسمها وسائل التواصل الاجتماعي وهي بالأصح وسائل التنافر الاجتماعي. يحزن المرء لهذا الاستخدام غير الراشد، استباحة مع سبق الإصرار، ذات الصورة البائسة في الصحافة تعيد تكرار نفسها بل لعلها أنكى وأمر. فالكل صحفي في وسائل التواصل وعنده القول الفصل. فلا غرو عندئذ إن رأيت البذاءات تسير حذوك الكتف بالكتف مع الفضائل، ولا مفر إن أدركت الرذائل تتبختر على قدمين في سوق (أبو جهل) عاطلون باسطون أذرعهم بالوصيد (24/7) - كما تقول الثقافة الدعائية الغربية - عند كل مجموعة (قروب) لا يدري المرء من أين لهم هذه الوفرة الفاجرة في الوقت، ومع ذلك يقولون لك (حنبنيهو)؟
(8) قبل فترة عكفنا على أخذ عينة (1000 بوست) في تطبيق الواتساب لمجموعات مختلفة، وقلت لعلي آتيكم منها بقبس منير. كانت النتيجة المحزنة أن الغالبية العظمى لتلك (البوستات) عبارة عن مواد متشابهة ولا يخلو أكثرها من تدوير لــ (نفايات) كما للمواد المختلقة (المنجورة) نصيب. في حين أن المواد التي يفترض أنها مبرأة من العيوب والمعنية بالتثقيف الذاتي والتنوير تشكل نسبة ضئيلة جداً. ويتبدى لك العجب العجاب في أبهى صوره حينما ترى إنتاج هذه المجموعات (القروبات) في اليوم. ويزيد العجب لديك كيل بعير عندما ترى (النشطاء) وهم بالفعل اسم على مسمى يتسابقون في الاشتراك في أكبر عدد من المجموعات لكأن في ذلك جائزة نوبل. علماً بأنه يمكن للمرء أن يحصر نفسه بين ثلة من الأصدقاء والزملاء ولن يكون متخلفاً عن المتابعة لأن هذه المواد ستأتيه حتماً تجرجر أذيالها ما دام أن المصدر واحد!
(9) تزداد الصورة المأساوية ضغثاً على إبالة عندما نشاهد بمحض إرادتنا ما يتقيأه أصحاب العاهات النفسية من المتنطعين، مثل ذلك الذي بشرنا بالدماء مدراراً، وسمى نفسه وقال إنه ينتسب لجيش حركة تحرير السودان، ومع ذلك لا يزال رئيسه صامتاً والنائب العام كذلك ووزير الإعلام أيضاً، أما نحن المبشرين بالصبر فقد صفعونا على خدنا الأيمن وعوضاً عن أن نرد الصاع صاعين منحناهم خدنا الأيسر ونحن صاغرون! أقول قولي هذا واستثني النابغين والنابهين والوطنيين في الصحافة الورقية ووسائل التواصل وهم قلة.
ملحوظة: بالرغم من أن محمد علي صالح صديقنا، وأن المقال نُشر في الواشنطن بوست إلا أنه اتساقاً مع قيمنا اتصلت به واستسمحته عذراً في إسقاط تجربته على هذا المقال.
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!