الإمام الصادق المهدي (1935- 2020): الحدس التوثيقي والأثر المكتوب
بعد رحيل الإمام الصادق الصديق عبد الرحمن المهدي في يوم الخميس الموافق 26 نوفمبر 2020م دوَّن رهطٌ من الصحافيين والباحثين والأكاديميين صوراً ذهنيةً حيَّةً عن حياة الفقيد، فأفاض الأنصار والأحباب في ذكر فضائله وإسهاماته الفكرية والسياسية والمجتمعية التي لا تُحصى ولا تُعد من وجهة نظرهم، وأشار بعض أصحاب الرأي الآخر إلى منجزاته الفكرية وأوجه عتابه السياسية. حاول البروفيسور عبد الوهاب الأفندي أن يقدم مرافعةً أكاديمياً ذات منحى آخر، عندما وصف الإمام الصادق المهدي بأنه "من بين القلائل من الساسة السودانيين الذين فاقت إيجابيات مساهماتهم في كل المجالات، من فكرية وسياسية واجتماعية، سلبياتها، فلم يُحسب عليه، في الحكم ولا المعارضة، ارتكاب الفظائع والكبائر، كما أنه لم يتّهم بفساد أو إثراء على حساب الشعب، ولم يمارس الإقصاء أو القهر في حق أحدٍ. غاية ما يتهم به التقصير، ومن منّا لا يقصّر؟ لهذا السبب، يدشّن رحيله عهداً جديداً في تاريخ السودان، فقد كان دائماً رجل الملمات، ومحور الحراك السياسي." ومن مدخل آخر، نلحظ أن إمام الأنصار وزعيم حزب الأمة القومي قد استطاع أن يصنَّف نفسه خارج دائرة السياسيين السودانيين الذين "رحلوا دون أن يتركوا سجلاً لتجاربهم، بل حملوها معهم إلى مراقدهم"، كما يرى الأديب الطيب صالح، "فخسر الناس بذلك خسارة لا تعوض"؛ والدليل على ذلك أنه قد ترك مدونةً مصدريةً ضخمةً، لم تكن مجرد مذكرات وذكريات كما فعل بعض أنداده، بل عبارة عن أدبيات منشورة في مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد والتاريخ والفكر الإسلامي. ونود في هذه الكلمة أن نمعن النظر في هذه المدونة المصدرية من زاويتين، تطل إحداهما على حدسه التوثيقي، وتقف ثانيتهما عند الأثر المكتوب، الذي تركه في مجال الفكر والسياسة والتاريخ والاقتصاد والاجتماع.
الإمام الصادق المهدي والحدس التوثيقي
نلحظ أن الحدس التوثيقي قد بدأ باكراً عند السيد الصادق المهدي، والشاهد على ذلك تقديمه لكتاب "جهاد في سبيل الله" (فبراير 1965)، عندما قال: "ليس التاريخ شيئاً مقدساً، وإنَّ البشر ليسوا منزهين، بل هم معرضون للصواب والخطأ ... فلا غرو أذن أن يخطئ سائر الناس مهما عظمت مكانتهم. وعبرة ذوي الألباب هي إحصاء مواطن الصواب للاقتداء بها، ومواطن الخطأ لتجنب أمثالها." (ص: د) والاعتبار بأحداث التاريخ غاية أكَّد ابن خلدون (ت. 1406م) على أهميتها؛ لأنها تعين ذوي الألباب في استيعاب الحاضر واستشراف المستقبل. واتساقاً مع هذه الرؤية، كتب السيد الصادق المهدي: "إنَّ بعضنا يقدسون التاريخ، ويعتبر الحديث عن تاريخ المهدية بغير عبارات المدح والاشادة مسلكاً معوجاً. هذا نهج غير سليم، فقد حدثت في المهدية مشاكل ونشأت خلافات، وهذه أمور ينبغي علينا أن ندرسها، وأن نفهم دوافعها حتى نكون على بينةٍ من أمر ماضينا، ونفهم عن طريقه كثيراً مما وراء حاضرنا." (ص: ه). وانطلاقاً من هذا النهج التوثيقي، كلَّف السيد الصادق المهدي الأستاذ عبد الله محمد أحمد بإعادة ترتيب المرويات التي جمعها السيد علي المهدي، وسماها "الأقوال المروية في تاريخ المهدية"، ثم نشرت المطبعة الحكومية بالخرطوم طبعتها الأولى تحت عنوان "جهاد في سبيل الله"، عام 1965م. والشاهد الثاني إعادة ترتيبه ونشره لمذكرات جَدِّه الإمام عبد الرحمن المهدي "جهاد في سبيل الاستقلال"، والتي تشكَّل قسمها الأول من الذكريات والمواقف التي أملاها الإمام عبد الرحمن المهدي على الأساتذة عبد الرحيم الأمين، وبشير محمد سعيد، وزين العابدين حسين شريف؛ وألَّف قسمها الثاني لجنة تحرير، ساهم فيها البروفيسور يوسف بابكر بدري والسيد أمين التوم ساتي. وفي خاتمة تقديمه لجهاد في سبيل الاستقلال أوضح الصادق المهدي أن الهدف من الكتاب هو إرساء دعائم "الكتابة الجادة عن تاريخ الإمام السيد عبد الرحمن المهدي؛ لتكشف كل جوانبها للناس حتى تتم المعرفة به وبأعماله، وحتى يتمكن الذين قللوا من شأنه لأسباب شخصية أو طائفية أو حزبية من إنصاف هذا الزعيم السوداني العظيم، والذي ستكون أعماله وموافقه وأفكاره رصيداً كبيراً للسودان في محيط الإسلام وعالم العرب، وفي تاريخ النضال الإفريقي: " (ص: 4). وعلى النسق ذاته، أعدَّ السيد الصادق المهدي كتاب "جهاد في سبيل الديمقراطية"، سارداً طرفاً من مواقف الإمام الصديق المهدي في مواجهة نظام الفريق إبراهيم عبود العسكري (1958-1964)، وعارضاً جملة من مذكراته ومداولاته مع القادة العسكريين في سبيل تحقيق الانتقال الديمقراطي. والشاهد الثالث على حدسه التوثيقي، أنَّ منهجه في الكتابة يعمد إلى التوثيق الدقيق، وإرجاع الاقتباسات المنقولة والمعززة لاجتهاداته الفكرية وآرائه السياسية إلى مصادرها ومظانها الأصلية، ولا مندوحة أنَّ هذه فضيلة يندر وجودها خارج الدوائر الأكاديمية. يبدو أنَّ هذا الحدث التوثيقي قد ظل ملازماً للإمام الصادق المهدي حتى في لحظات حياته الأخيرة، حيث كتب نصاً بليغاً في فراش مرضه بعنوان: "فقه السعادة والمشقة أو المراضة"، جاء فيه: "نشأتُ في ظروفٍ اجتماعيةٍ جعلت كثيرين يعتبرونني ولدت لأتناول صفو الحياة بملعقة من فضة، لأنشأ ابن ذوات أشبه بما قالته الحكيمة السودانية شغبة لابنها حسين: "أنا ماني أمك، وأنت ماك ولدي، بطنك كرشت جسمك خرشك ما في". ولكن الذي حدث ليَّ بالفعل أنيَّ تناولت الحياة فعلاً بملاعق من حديدٍ حامٍ، تشوي القلوب والجلود: سجنتُ 8,5 عاماً، وحوالي 12 عاماً منفى، ومصادرة مرتين، وحكم بالإعدام مرة، واتهامات عقوبتها الإعدام ثلاث مرات في يونيو 1970م، وفي مايو 2014، وفي أبريل 2018م. وبدا لي أن الأذى في حد ذاته ليس مدمراً؛ إلا إذا استقبلته نفس مهيأة لعذاب الذات، الذين ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ هؤلاء يظنون بالله الظنون، وفي الغالب يستعينون بوسائل نفسية أو حسية هرباً من الحياة. بينما آخرون يرون المزايا في طي البلايا، والمنن في طي المحن، ويقيمون من المحن بركات على نحو مقولة نبي الرحمة "أشدكم بلاءً الأنبياءُ ثمَّ الأولياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثل"، ففي علم النفس: اشتدي يا أزمة تنفرجي، الأزمة مفتاح الفرج، وفي علم الفيزياء: الماس فحم تعرض لدرجة قصوى من الضغط. ما تعرضت له من مشاق دفعني لاجتهادات نضالية وفكرية غير مسبوقة في جيلي: انتخابات لرئاسات وأنا في نعومة أظفاري، ويعلم الله فُرضت عليَّ بإرادة الجماهير لا بتدابيري. وألفت من الكتب في شتى الموضوعات ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، ووضعت على صدر مكتبي قول الحكيم: "على قدر فضل المرء تأتي خطوبه *** ويحسن فيه الصبر فيما يصيبه *** فمن قل فيما يلتقـــيه اصطبـــاره *** لقد قل فيما يرتجيـــــه نصيبه"، ولكن لا يمكن لشخص خاصة في بلادنا ينال حظاً مرموقاً ينجو من إبر النحل التي أحبطت بعض أحبابي، ولكن توالى غيث ضمد الإبر بالعسل، فأرسل ليَّ حبيب بشارة منامية، سلمني رسالة مفادها ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ ، وآخرون أرسلوا رسائل عزاء: لا نبالي بحاسد وعدو فمن عادة الفضل أن يعادى ويحسد، وهضمتُ وقع النبال بأنها إما نقد يفيد من باب: رحم الله امرئ أهدى لنا عيوبنا، أو هي جائرة تدر عليّ عطفاً. ومن أدهش ما منيت به مقولة: الصادق أعجوبة! وأنه لا يمرض. ههنا أقف عند المحطة الراهنة في حياتي، حيث أصبت بداء كورونا منذ 27 أكتوبر 2020م، فاجعة مؤلمة، وضعتني في ثياب أيوب ﴿إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين﴾، من ظن أنه لا يخطئ فقد أمن مكر الله. وأنا منذ دهر أردد في صلاتي: "اللهم إنك تتودد إليَّ بنعمك، وأتبغض إليك بالمعاصي، ولكن الثقة بك حملتني على الجراءة عليك، فعد بفضلك وإحسانك عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم". إنَّ ألم المرض خير فترة لمراجعة الحسابات الفردية والأخلاقية والاجتماعية، ومن تمر به الآلام دون مراجعات تفوته ثمرات العظات. في كل مناحي الحياة فإن الألم خير واعظ لصاحبه. النقد الذاتي من أهم أدوات الإصلاح، والرضا عن الذات يقفل باب النفس اللوامة. نعم المرض مؤلم، ولكن بالإضافة لتدابير العلاج، وهي مطلوبة، فالله قد خلق الداء والدواء، ومن امتنع عن الأخذ بالأسباب فقد جفا سنن الكون. ولكن أمرين هما بلسم الحياة: الإيمان بالله، بما في سورة الجن ﴿فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا﴾، والثاني حب الناس: إنَّ نفساً لم يشرق الحب فيها هي نفس لم تدر ما معناها، صحيح بعضنا أحس نحوي في المرض بالشماتة؛ ولكن والله ما غمرني من محبة لا يجارى، وقديماً قيل: ألسنة الخلق أقلام الحق. 5 نوفمبر 2020م".
فلا غرو أن هذه النماذج الشاهدة تبرهن صحة النزعة التوثيقة، التي اتسمت بها حياة الإمام الصادق المهدي المعرفية والسياسية، والتي ختمها بتدوين نعي حزين عن نفسه، وهو على فراشه موته بدولة الإمارات العربية المتحدة، مفاده: "أفضل الناس في هذا الوجود شخص يترحم مشيعوه قائلين: وقد شيعنا حقاني إلى الحق، إنَّ إلى ربك الرُجعى".
السيد الصادق المهدي والأثر المكتوب
جمع البروفيسور محمد إبراهيم أبوسليم الآثار المكتوبة والمحفوظة للإمام محمد أحمد المهدي (ت. 1885م) في سبعة مجلدات، ونشرها بعنوان "الآثار الكاملة للإمام المهدي" في النصف الأول من عقد التسعينيات من القرن العشرين. وبذلك استطاع أن يوفر مادة أوليهم لا غنى عنها للباحثين والمهتمين بدراسات المهدية في السودان، تعينهم على تتبع سيرة الإمام المهدي، وفق منهج تكاملي، يزاوج بين القراءة التحليلية للنص الوثائقي وللعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أسهمت في تشكيل السيرة، وانعكاساتها على الواقع السياسي المعاصر. وإذا قارنا بين الآثار المكتوبة التي تركها أئمة الأنصار الأربعة في السودان، نجد أنَّ الإمام الصادق المهدي أكثرهم عطاءً وتنوعاً. إذ بلغ كم آثاره المكتوبة 915 أثراً، تشمل الكتب، والأوراق العلمية، والرسائل، والمقالات الصحافية، والمحاضرات العامة، والخطب المنبرية، وكلمات الرثاء والاحتفاء بالأعياد الرسمية والاجتماعية. تناولت هذه الآثار المكتوبة جوانب متعددة من تاريخ السودان الحديث والمعاصر، وأنظمة الحكم الإسلامي ومشكلاتها، وجدلية الأصالة والمعاصرة، والتجربة الديمقراطية وتحدياتها وآفاقها، والمرأة والمجتمع، والفن والرياضة في السودان. ومن أبرز إسهاماته في دراسات المهدية، كتابه الموسوم بـ "يسألونك عن المهدية؟" (بيروت: 1975)، والذي قسَّمه إلى ثلاثة مباحث، عالج في أولها سؤال كيف ولماذا اختلف المسلمون؟ وتناول في ثانيهم أصول الفكرة المهدية في تاريخ المسلمين وتجلياتها في الفضاءات السياسية؛ وخصص ثالثهم لمناقشة المهدية في السودان، والرد على الشبهات التي أثيرت حولها، وتوطينها بين حركات الإصلاح الإسلامية التي انتظمت القرن التاسع عشر الميلادي وبدايات القرن العشرين. وكان همه الثاني بعد الحديث عن منصَّة المهدية التي شكلت نقطة انطلاقه السياسية الأولى، النظر في الديمقراطية من ناحية مفاهيمها الاصطلاحية وممارستها الوظيفية وتحدياتها في السودان؛ فكتب سلسلة من الكتب والأوراق العلمية عنها، ونذكر منها: "التحديات التي تواجه الديمقراطية في السودان"؛ "الديمقراطية عائدة راجحة"؛ "الديمقراطية وتحديات الربيع العربي"؛ "على طريق الهجرة الثانية: رؤى في الديمقراطية والعروبة والإسلام"؛ "الشورى والديمقراطية: رؤية عصرية". وكذلك وثَّق لموقفه من الأنظمة العسكرية الانقلابية في السودان، وكيف قاد الجهاد المدني ضدها. وقد وثَّق لطرفٍ من ذلك في كتابه "العودة: من تهتدون إلى تفلحون"، حيث شرح أسباب خروجه (تهتدون) من السودان وعودته (تفلحون) إليه في عهد الإنقاذ (1989-2019)، ووضع المعارضة السودانية في المهجر وأرض الوطن، وارتباطه المستمر بالفضاءات الإقليمية والعالمية. وكذلك كان مشغولاً بقضية الصراع بين الأصولية الإسلامية والعلمانية، ويرى أن الأصولية الإسلامية تعني التزام بقطعيات الوحي، وتفسيرها واستنباط أحكامها وفق أساليب مشروعة (أي حرية الاجتهاد)، تستند إلى مقاصد الشرع ومتطلبات الحياة الإنسانية دون تكون أن مخرجاتها متعارضة مع معطيات العلمانية القائمة على قوانين الطبيعة، وحرية البحث العلمي، ومرجعية الحدس والتجربة. وانطلاقاً من لهذه الفرضية، ألَّف كتابه "جدلية الأصل والعصر"، الذي دعا فيه إلى خروج المجتمعات المسلمة من حالة الانفصام التي تعاني منها، إلى حالة التأصيل لشؤونها الحياتية دون انكفاء حرفي على الأحكام الفقهية المستمدة من النص الشرعي والذاهلة عن مقاصده، وتحديث متطلبات الإنسان المسلم العصرية دون تبعية عمياء للغرب وقيمه العلمانية. وكذلك أولى اهتماماً خاصاً لقضية المرأة في سلسلة من إصداراته المنشورة، وأهمها كتابه عن "حقوق المرأة الإسلامية والإنسانية"، والذي ناقش فيه ومفهوم تحرير المرأة، وحقوقها في الإسلام والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكيفية تفعيل دورها في الحياة العامة والحراك السياسي. ونظر أيضاً في مشكلات ما بعد الحرب الباردة، وألَّف كتاباً بعنوان "تحديات التسعينيات"، عرض فيه التجربة الديمقراطية والرأسمالية والاشتراكية ومآلها في حواضنها الغربية وانعكاساتها في التخوم، وتطرَّق أيضاً فيه لمشكلات العالم الجنوبي وعلاقته بدول الشمال المتطورة، والتي تمثل مركز العولمة الوضعية المعاصرة ونظرتها الإمبريالية إلى الآخر. وربط هذه التحديات بمشكلات المياه في القرن الحادي والعشرين، وأفرد لأحد انماطها كتاباً بعنوان: "مياه النيل: الوعد والوعيد"، شرح فيه جذور الخلاف بين دول المنبع (تانزانيا، والكونغو الديمقراطية، وبوروندي، ورواندا، وكينيا، وأوغندا، وإثيوبيا، وإرتريا) ودولتي المصب (السودان ومصر) وخطورته ذلك على مستقبل العلاقات بين هذه الأطراف المتجاورة التي تمتلك حق الانتفاع في مياه حوض النيل، ودعا إلى عقد معاهدة شاملة بين دول حوض النيل، تتجاوز الصراعات الآنية وتؤسس لتحقيق الوعد المرتبط بالاستثمار الإيجابي والمتكافئ لمياه النيل. هذه مجرد إضاءات متفرقة على الآثار المكتوبة التي رفد بها الإمام الصادق المهدي المكتبة العربية والإنجليزية، دون الخوض في تحليل محتوياتها ونقدها نقداً معرفياً؛ لأن عملية التحليل والنقد شأن آخر، يقع خارج نطاق هذا المقال ومناسبته.
الإمام الصادق المهدي ومدونته المصدرية
لا شك في أنَّ الآثار المكتوبة التي تركها الإمام الصادق المهدي ستعين الباحثين والمهتمين وطلبة الدراسات العليا بالجامعات في دراسة سيرته ومواقفه السياسية والاجتماعية والفكرية المتقاطعة معها محلياً وإقليمياً وعالمياً. لكن التحدي الذي يواجه الباحثين والدارسين يتجسَّد في كيفية تحليل النص المكتوب في إطار التركيبة الابستمولوجية (المعرفية) التي صاغة شخصية المؤلف فكراً ومنهجاً، وكذلك الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شكلت الأحداث التاريخية التي ارتبطت بشخصه. فالتكوين المعرفي للصادق المهدي قام على ثلاثة مرتكزات، تتمثل في وعيه بتراث أهل السودان، وخليفته المعرفية بالتراث الإسلامي، وإعداده العلماني في المؤسسات التعليمية الغربية. فضلاً عن ذلك، فإن الإمام الصادق المهدي (1935-2020) عاش في ظل ظروف سياسية وموضوعية معقدة ومتقلبة. إذ وُلِد في عهد جورج استيورت سايمز، حاكم عام السودان (1934-1940م)، الذي أبدى نوعاً من التعاطف تجاه المتعلمين السودانيين (الأفندية)، الذين تمَّ تقليص دورهم الوظيفي في عهد السير جون مافي (1927-1934)، الذي أظهر الوجه الخشن للإدارة الاستعمارية بعد أحداث انتفاضة 1924م. وعندما أكمل العقد الثاني من عمره، شهد السيد الصادق المهدي طرفاً من نضال الحركة الوطنية وسيناريوهات الاستقلال، التي بدأت بإعلان الاستقلال من داخل البرلمان في 19 ديسمبر 1955م، ثم إعلانه رسمياً في الفاتح من يناير 1956م. وامتدت حياته السياسية بين ثورتين، أولهما ثورة أكتوبر 1964م وثانيتهما ثورة ديسمبر 2018م. إذ شهدت هذه الفترة ثلاث فترات انتقال ديمقراطي (1964-1965، 1985-1986، 2019-2022)، وفترتي تحول ديمقراطي (1965-1969، 1986-1989)، وانقلابين عسكريين، إحداهما انقلاب 25 مايو 1969، والذي استمر في سدة الحكم لستة عشر عاماً (1969-1985)، وثانيهما انقلاب 30 يونيو 1989، والذي استمر في سدة الحكم لمدة تقارب الثلاثين عاماً (1989-2019)؛ شهدت هذه الفترة أيضاً تطورات مشكلة جنوب السودان وإسقاطاتها السياسية، التي أفضت إلى قيام دولة جنوب السودان عام 2011م؛ وكذلك تطورات الصراع المطلبي في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وشرق السودان إلى صراع مسلح ضد حكومة الخرطوم. وخلال هذه الفترة الذاخرة بالأحداث السياسية قام السيد الصادق المهدي بدور مركزي في مؤسسات الحكم السيادية ودوائر المعارضة، إذ تمَّ انتخابه رئيساً لوزراء السودان لمدة تقل عن العام الواحد (1965-1966)، ثم معارضاً للنظام المايوي العسكري، ثم مصالحاً له، ثم معارضاً؛ وبعد سقوط النظام المايوي في 1985 وانتهاء الفترة الانتقالية، تمَّ انتخابه رئيساً للوزراء لمدة ثلاث سنوات (1986-1989)، وقبل أن تكتمل دورة حكومته البرلمانية، قادت الجبهة الإسلامية القومية انقلاباً عسكرياً على الحكومة المنتخبة ديمقراطياً عام 1989م، وبموجب ذلك، انتقل السيد الصادق المهدي إلى معسكر المعارضة، حيث واجه السجن والإهانة السياسية. وبعد اطلق سراحه نادى بإعلان الجهاد المدني ضد النظام الانقلابي الحاكم، ثم عارضه في الخارج بعد أن غادر البلاد خُلْسةً تحت شعار "تهتدون"، وتراضى مع النظام في الخارج وعاد إليها تحت شعار "تفلحون"، وأخيراً اشترك في تكوين تحالفات سياسية متعددة المشارب الفكرية والسياسية من أجل إسقاطه، وظل على موقفه هذا إلى أن سقط النظام ورموزه في 11 أبريل 2019م. إذاً هذه المسيرة الحافلة بالتقلبات السياسية قد أسهمت في تشكيل جوانب كثيرة من النصوص المكتوبة التي تركها الإمام الصادق المهدي، والتي تحتاج إلى منهج تكاملي (يجمع بين مناهج علم التاريخ، والعلوم السياسية، والعلوم الاجتماعية، وعلم النفس السياسي) يضعها في سياقها التاريخي، ويحلل مفرداتها حسب متطلبات كل مشكلة بحثية. ولتكون قراءات الباحثين والدارسين قراءات فاحصة في سيرة الإمام الصادق المهدي والقضايا التي تتقاطع معها، يجب أن تخرج عن فضاء الأسئلة البسيطة: مَنْ (الإنسان)؟ ومتى (الزمان)؟ وأين (المكان)؟ إلى فضاء الأسئلة التحليلية والنقدية المركبة، القائمة على سؤالي: كيف؟ ولماذا؟ بعيداً عن قراءات التراجم الإطرائية وتضخيم الذات، فالرجل يستحق، والفترة التي قاد فيها حراكه السياسي والاجتماعي والفكري في السودان جديرة بالبحث والتنقيب، ليعتبر أولو الألباب بمنجزاتها الموجبة وإسقاطاتها السالبة.
ahmedabushouk62@hotmail.com