الإمام الهادي وأبا… بين ناصر وهيكل 1-3
14 June, 2010
بعد رحيل عبد الناصر ( سبتمبر 1970) كتب هيكل مقالا في الأهرام ( عبد الناصر ليس أسطورة) كاد هذا المقال أن يطيح بهيكل من رئاسة تحرير الاهرام. يروي السادات لأنيس منصور في (أوراق السادات-دار المعارف) كيف أن مراكز القوى في النظام آنذاك جاءت إليه تشكو خيانة هيكل للثورة وتطاوله على عبد الناصر وتحرضه على عزله ولكن السادات رفض طلبها، رغم أن هيكل في مقاله ذاك كان يرسخ لأسطورة عبد الناصر بذكاء ولايزال، لأنه منتوجها وأحد صنّاعها.
تابعت إفادات الأستاذ هيكل في برنامجه الأسبوعي (مع هيكل) على قناة الجزيرة ثم قرأت اربع مقالات مهمة تعلق على ما أفاد به حول دوره وموقف عبد الناصر من أحداث الجزيرة أبا، ورواية مقتل الإمام الهادي. ركزت المقالات كلها على واقعة استشهاد الإمام الهادي المهدي رحمة الله عليه واتفق كل من الأستاذ عثمان ميرغني وضياء الدين بلال وخالد موسى ود.أحمد خير على عدم دقة رواية هيكل. واطلعت على تصريحات سياسية حول الحدث. رغم تشكيكي في راوية هيكل، ولكن هنالك ملاحظة جديرة بالعناية تتعلق بمصادر الروايات حول استشهاد الإمام الهادي.
تحت أيدينا أربع روايات مختلفة للحدث، تتميز باختلاف رواتها وزوايا نظرهم ومصالحهم. الرواية الأولى للسيد الصادق المهدي جاءت بكلمته إبان رئاسته لمجلس الوزراء في تاريخ 20 -4 -1987 والتي أفاد فيها بالآتي (وأمام هذه المعركة غير المتكافئة قرر الإمام الهادي المهدي أن يهاجر من الجزيرة أبا إلى إثيوبيا حيث يقابل قادة الجبهة الوطنية في الخارج الذين ينتظرونه في معسكر جبل الرادوك الذي يقع على بعد عشرين كيلو متر شرق مدينة الكرمك. وفي طريق الهجرة أحاطت به قوة من الشرطة وهناك تتالت أحداث انتهت باغتيال الإمام واثنين من رفاقه هما الخال محمد أحمد مصطفى والأخ سيف الدين الناجي ودفن الثلاثة في وادي الدوم.).
الرواية الثانية أفاد بها نجل الإمام الهادي (الصادق الهادي) في خبر بجريدة الصحافة 6-6-2010 حيث قال(إن الإمام الهادي كان في طريقه الى خارج السودان بعد المواجهة الدامية مع نظام مايو بالجزيرة أبا التي راح فيها ألف شهيد من الأنصار، مشيرا الى أن والده تعرض لإطلاق نار بقرية أونثا الحدودية جوار الكرمك وليس كسلا).
الإفادة الثالثة جاءت بذات الصحيفة_ بارك الله في (التقي- وابوشنب)- بنفس الخبر للسيد خالد حسن عباس (قال اللواء متقاعد خالد حسن عباس عضو مجلس قيادة ثورة مايو الذي كان رئيسا لهيئة أركان الجيش في تلك الفترة لـ «الصحافة» إن الإمام الهادي لم يمت مسموما، وإنما أطلق عليه النار بطريق الكرمك من قبل شاويش بوليس ظنّ أن الإمام ومن معه من المهربين حين لمح احدهم يحمل طبنجة، وروى أن الإمام الهادي ومرافقيه طلبوا من صبي جلب ماء للشرب، وأن الصبي ذهب لمنزله لإحضار الماء وأبلغ والده وهو «الشاويش» الذي خرج يحمل سلاحه فظن مرافقو الإمام أنه تعرّف عليهم فأخرج أحدهم طبنجة، ولكن الشاويش بادر بإطلاق النار لاعتقاده أنهم مهربون، فأصابت رصاصة الإمام الهادي في فخذه.
وأشار الى محاكمات جرت بعد الانتفاضة للشاويش وضابط المجلس البلدي بالمنطقة، مستنكرا حديث هيكل بغير علم، منقة شنو وهي كسلا فيها منقة؟).
الرواية الأخيرة حول مقتل الإمام هي التي رواها هيكل في برنامجه بقناة الجزيرة حيث أفاد( رأى بعض قادة الأنصار أن الإمام الهادي قد يخرج من مناطق نفوذه ويذهب قرب كردفان ودارفور، لكن يذهب على مناطق مثل مناطق الشرق في كسلا, وبالفعل خرج الإمام وذهب في اتجاه كسلا
وما حدث بعد ذلك أن الامام الهادي اتجه ناحية كسلا، وأنا أظن أنه يثار اليوم في السودان وأرى في صحف السودان، وهناك إعادة بحث وتحقيق لأنه حدث شيء غريب وأن الإمام الهادي خرج من الجزيرة أبا وذهب لكسلا، واجه واحدة من إحدى الجرائم الغامضة.)
الثلاث روايات السودانية للصادق وخالد والصادق الهادي تتوافق في أن الإمام قتل، وقتل في طريق الكرمك
وقدمت له سلة فاكهة وأعتقد أنها كانت مانجو وكانت ملغومة وقتل وأظن حتى هذه اللحظة لم يعرف من قاتله وإن كان بعض الأخوان في السودان شطح بهم الجموح لكنهم كلهم يعرفون أنه ليس هناك مصريون مشتركون في هذا، وبقية جريمة غامضة أضيفت لجرائم غامضة أخرى).
اتفقت ثلاث من هذه الروايات أن الامام الهادى قد استشهد في طريق الكرمك باتجاه الحدود الاثيوبية كما اتفقت أن القاتل هو قوة سودانية تتبع لنظام نميري، واتجه خالد حسن عباس لتبرئة نفسه والنظام بادعاء أن واقعة القتل لم تكن أكثر من خطأ لشرطي أطلق النار باتجاه أناس اعتقد أنهم مهربين وليس لديه معرفة بالإمام الهادي وصحبه. هيكل وحده شذّ في راويته لطريقة القتل فاتخذ من (المنقة) سلاحا للقتل (وقدمت له سلة فاكهة وأعتقد أنها كانت مانجو وكانت ملغمة وقتل وأظن حتى هذه اللحظة لم يعرف من قاتله) أنظر للكلمات ( اعتقد- اظن-لم يعرف) كلها تنفي توفر معلومة مؤكدة بطرفه!!. وبالطبع لا يمكن تشييد رواية تاريخية متعلقة بحادثة قتل لقائد كالإمام الهادي بالتهويم، فهذا تاريخ يتعامل مع الوقائع (زي ماهي) وليس تحليلا سياسيا يمكن أن يحتشد بعبارات الظن والاعتقاد وعدم المعرفة.
المشكلة الرئيسة التي تعاني منها الروايات الأربع تكمن في عدم استقلالية أطرافها وحياديتهم باتجاه ماجرى، وويل للتاريخ إذا ما كتبته أطراف الصراع وذوو المصالح. فالرواية التاريخية عندما تصبح مصادرها من أطراف صراع ما، غالبا ما تكتنفها الشكوك. فاسرة المهدي مثلا لها مصلحة في إدانة النظام المايوي واتهامه بالقتل العمد، و لرموز المايويين مصلحة في ادعاء القتل الخطأ ولهيكل مصلحة في تبرئة نظام ناصر وغسل يديه من كل الجريمة. السؤال اين هي الرواية المستقلة؟ بعبارة أخرى أين هو المحقق التاريخي السوداني المستقل؟ للأسف الآن يعاني السودان تدهورا واضحا في هذا المجال، ويفتقد لجهود المؤرخين المستقلين.
انظرو الى ماكتبه أستاذنا مدثر عبد الرحيم في كتابه البديع ( الإمبريالية والوطنية) nationalism and imperialism وما خطه بروف حسن إبراهيم في كتابه (السيد عبد الرحمن) وإلى مجهودات البروف أبوشوك في التوثيق والتحقيق لتدركوا كيف يتعامل المؤرخون مع الوقائع والتوثيق من مواقعهم المستقلة وقارنوا بينهم وكتاب الأستاذ محبوب عبد السلام الأخير(الحركة الإسلامية السودانية- العشرية الأولى) أو كتاب حسن الجزولي (عنف البادية). فهذان الكتابان على قيمتهما التاريخية وأهميتهما ومعلوماتهما الثرّة افتقدا الحس التاريخي المستقل كون كاتبيها ليسا مؤرخين مستقلين وتظل روايتهما للوقائع محكومة بموقعهما من الصراع بين الأطراف المختلفة . هذان الكتابان يصلحان للدلالة على الحاجة الماسة لراوة تاريخيين مستقلين.
ماقاله هيكل عن مقتل الإمام الهادي رغم الضجة التي أثيرت حوله، ليس بقيمة ما أفاد به حول ضرب الجزيرة أبا. الغريبة أن تلك الإفادة لم تجد حظها من النقاش. غدا سننظر في موضوع الحزيرة أبا.