الإمام الهادي وأبا.. بين ناصر وهيكل 2-3
14 June, 2010
الأخ العزيز النميري.
تلقيت رسالتكم وإني على أتم استعداد لإرسال كل ما تطلبونه بدون تحفظ، وأصدرت تعليمات بأن تتواجد الطائرات وهيئة عمليات مصغرة فجر اليوم بالخرطوم لتكون تحت تصرفكم، ولديهم تعليمات صريحة لتنفيذ أوامركم بالكامل. قائد المأمورية المصرية - وهو الرئيس محمد حسني مبارك فيما بعد- يحمل تعليمات مني سيعرضها عليكم فور وصوله للخرطوم، وأطيب تمنياتي راجيا من الله أن يوفقنا وإياكم في جميع معاركنا التي نخوضها من أجل الحرية والاشتراكية والوحدة.).
هذه برقية الرئيس جمال عبد الناصر إلى الرئيس نميري ردا على طلب الأخير بإرسال طائرات مصرية للمساعدة في قمع ثورة الأنصار بالجزيرة أبا. ولندع هيكل يروي ماجرى بعد البرقية (وفي ذلك الوقت مساءً كنت عند عبد الناصر لأمر ما آخر، وكنت أتابع ما حدث في السودان، وتحدث معي عبد الناصر عن التطورات التي جرت بالسودان مع النميري، وتحدث معه هاتفيا، وكانت مكالمته مع النميري صريحة للغاية في الهاتف، قال له نحن وراءك وأعطيت أمرا لكي يضرب الطيران غدا، وتأتي التقارير، وكان مدير المخابرات على اتصال مع حسني مبارك).
يواصل هيكل (وعندما سمعت من عبد الناصر تهولت الموقف، وقلت له وقتها أنا لا أتصور ولدي مليون ملاحظة، أولها أنه إذا ضربت الطائرات المصرية أي جماهير سودانية في أي موقع فإن هذا دم بين الشعب المصري والشعب السوداني أخشى أنه سوف يؤثر على العلاقات بين الشعبين إلى أبعد مدى يمكن تصوره،
وإذا أدخلنا القوى العسكرية في هذه اللحظة ونزلت على أبا أو غير أبا، فأنا أعتقد أننا نقوم بمبدأ خطير جدا.
والشىء الآخر أننا في الأمم المتحدة لنا قضية تعسُّف في استعمال القوة وإسرائيل معززة بالقوة الأمريكية، وإذا لجأنا في موضوع متعلق بحركة القومية العربية والشعوب العربية ومطالب داخلية سواء كان لها حق أم لا واستعملنا قوة عسكرية فنحن نقدم للآخرين موقفا على صينية من ذهب.)
ويعلق هيكل على هذا الموقف (أخذ عبدالناصر في ذلك الوقت ما قلته له وبعد أن سمعني لم يقل لي شيئا، ووصلت مكتبي لأجد أن عبد الناصر أبلغ سامي شرف بإلغاء تعليمات الضرب، ويبلغه أن لهيكل رأيا مختلفا، ورأيي هذا الذي قلته من حسن حظي أن يستمع إليه، وأن يجد من يتقبله بقدر رجل دولة، ووجد من يتصرف ويضعه في اعتباره وهو يتصرف).
إذن بحسب هيكل اتخذ عبد الناصر قرار إلغاء ضرب الجزيرة أبا بناءً على نصيحته مدعومة بالأسباب التي ساقها أعلاه!!. إذ نثير الشكوك حول هذه الرواية لا أشك مطلقا في لعب هيكل أدورا مؤثرة جدا في كثير من قرارات عبد الناصر، وكان السادات يعتبره مركز القوة الأول. ولكن رواية هيكل حول واقعة إلغاء ضرب الجزيرة أبا بالطيران تحديدا لاتصمد أمام جملة من الوقائع والأحداث التاريخية. مبدئيا رواية هيكل تناقض النهج الناصري في موقفه من التدخلات السياسية والعسكرية التي يعتمدها كأداة حاسمة لحماية الأنظمة الثورية العربية. الشيء الآخر هو أن التمرد على ثورة مايو والتي يعتبرها ناصر عمقا استراتيجيا، تؤثر تأثيرا بالغا على مجريات الصراع بالمنطقة، وخاصة أن مصر ترى أن قوى التمرد يقودها الرجعيون (بالمفهوم الناصري)، في وقت تخوض فيه حرب استنزاف وتجهز لحرب حاسمة مع إسرائيل (1973 ).
تناقض رواية هيكل مع نهج التدخلات العسكرية التي استخدمها ناصر في إدارة سياسته الخارجية، لا تتطابق مع الحقائق، ولايمكن قبولها، فقط لأنها صادرة عن هيكل. فرغم مكانته الرفيعة فهو ليس فوق الحقائق.
سأتوقف عند الأسباب التي ساقها هيكل لإقناع الرئيس عبد الناصر لإلغاء قراره بمساعدة نميري في ضرب الجزيرة أبا. السبب الأول هو تخوف من لعنة الدم الذي سيجري بين الشعبين المصري والسوداني. ينهار هذا المنطق كليا إذا ما نظرنا لتدخل ناصر في حرب اليمن (62 -69 )على أيام انقلاب عبد الله السلال إذ تدخلت مصر بأكثر من 55000 جندي تحت لافتة دعم الأنظمة الثورية العربية!!. هيكل في كتابه (لمصر لا لعبد الناصر) يقول: (إنه قد تناقش مع عبد الناصر في موضوع دعم الانقلاب في اليمن، وكانت وجهة نظره أن وضع ثورة السلال لا يمكنها احتواء العدد الكبير من القوات المصرية التي سترسل إلى اليمن لدعم نظامه. وإنه من الأفضل التفكير في إرسال متطوعين عرب من جميع أنحاء العالم العربي للقتال بجانب القوات الجمهورية اليمنية. وقد ضرب هيكل مثال الحرب الأهلية الإسبانية للتطبيق في اليمن. ولكن عبد الناصر رفض وجهة نظره وكان مُصراً على ضرورة حماية الحركة القومية العربية.[11]) . لماذ دعم الثوار في اليمن وليس السودان؟ ولماذا ياترى استمع عبد الناصر لرأي هيكل في إلغاء ضرب الجزيرة أبا، ورفض نصائحه في عدم التدخل بالجيش المصري في اليمن؟.. استغربت لقصة الدم السوداني هذه، فلقد تدفق الدم اليمني والمصري بحورا فوق جبال اليمن فأكثر من 26 ألف جندي مصري استشهدوا جراء تدخل الناصريين هناك، فياترى ما الذي يجعل الدم السوداني أغلى من الدم اليمني (المية) مثلا.!!.
السبب الثاني الذي أقنع به هيكل عبد الناصر لإلغاء قراره بضرب الجزيرة وهو التخوّف من ردة فعل القوى المناهضة للنظام الناصري بالأمم المتحدة. وهذا غير مقنع ببساطة لأن النظام الناصري يومها لم يكن يأبه بأمم متحدة ولا بغيرها، وهو يركب أعلى الموجة الثورية، ويخوض جميع معاركه من أجل الحرية والاشتراكية والوحدة!! ثم لماذا يصبح التدخل في السودان خطرا ماحقا وليس التدخل باليمن والجزائر وليبيا؟.
كما ترون فإن الأسباب التي دفع بها هيكل في وجه عبد الناصر لإثنائه عن ضرب الجزيرة أبا ضعيفة للغاية، وتصادم في جوهرها المبادئ والأدوات التي استخدمها ناصر لنصرة الثوار العرب ضد الأنظمة الرجعية أو ضد الاستعمار الحديث!!. ولكن المفاجأة الكبرى هي أن عبد الناصر على عكس ما ادّعى هيكل تدخل فعلا بالجزيرة أبا كما سنرى في الحلقة القادمة، وبذا تصبح رواية هيكل هي الأخرى بلا قيمة تاريخية مثل حكاية منقة كسلا!! .
نلتقي السبت إن شاء الله.