boulkea@gmail.com
في الجزء الأول من هذا المقال تناولتُ مفهوم "الهدر" الذي إستخدمه عالم النفس والمفكِّر اللبناني مصطفى حجازي في دراسته لعلاقة المتسلط بالإنسان في المجتمعات المتخلفة, وأشرتُ إلى أنَّ هذا المفهوم كما يُعرِّفه حجازي يتفاوتُ من إباحة إراقة دم الإنسان في فعل القتل أو التصفية الجسدية كحدٍ أقصى إلى إستبعاده وإهماله والإستغناء عن فكره وطاقاته بإعتباره عبئاً أو كياناً فائضاً عن الحاجة.
وحيث أنَّ الجزء الأول ناقش المفهوم في مستواه الأقصى المتمثل في إباحة إراقة دم الإنسان في فعل القتل أو التصفية الجسدية عبر مثال "حروب القبائل" المتصاعدة في السودان, فإنَّ هذا المقال الثاني سيتناولُ قضية تعريض ذلك الإنسان للموت "بالإهمال", بإعتباره عبئاً أو كياناً فائضاً, عبر مثال "السلع الفاسدة".
وكان الدكتور حجازي قد قام بتعريف من أسماهم "الناس العبء" بإعتبارهم الشرائح الزائدة عن الحاجة في المجتمع، حيث يستحوذ خمس السكان على جل الخيرات والثروات ولا يتركون للأخماس الأربعة الباقية إلا الفتات، شرائح بأكملها، ومناطق بأكملها تعتبر عبئاً على رفاه السلطات وراحة بالها، إنها تلك الكتلة البشرية المكررة والتي لا لزوم لها، والتي تضيق السلطات بوجودها وباحتياجاتها ناهيك عن حقوقها.
باتت أخبار ضبط السلع الفاسدة والمنتهية الصلاحية تمثلُ عنواناً ثابتاً في مختلف أجهزة الإعلام, ولا يكاد المرء يتصفحُ صحيفةً يوميةً الا ويجد فيها خبراً يتحدث عن ضبط متجر يبيع بضاعة منتهية الصلاحية أو مزرعة توزِّع دجاجاً نافقاً أو معصرةٍ تُعبىءُ زيوتاً مصنعة من مواد مسرطنة وغيرها من الأخبار الشبيهة.
وكذلك لا تخلو الصحف اليومية من تحقيقات إستقصائية مُصوَّرة تُغطي ما يدور في الأسواق التي تقع في أطراف العاصمة مثل أسواق "بروس" و" قورو" و "الله كتلا" في منطقة مايو جنوب الخرطوم حيث تُباع مختلف أنواع السلع منتهية الصلاحية واللحوم الفاسدة و الدجاج النافق في وضح النهار ودون وجود رقيب !
وقبل عدة سنوات وقف وزير رئاسة مجلس الوزراء أحمد سعد عُمر أمام البرلمان مطالباً بسنِّ تشريعاتٍ وعُقوباتٍ رادعةٍ على المُتاجرين في السِّلع الفاسدة, وقال : ( لا نريدُ أن ندفن رؤوسنا في الرِّمال, إثنان من أشقائي, وصديقي, مُصابون بالسَّرطان والآن يتلقون العلاج ... السودان أصبح مركزاً لنفايات بعض الدول وهنالك دول ترسل لنا نفاياتها مما يُعرِّض صحة المواطن لأمراض خطيرة ... هناك سلعاً فاسدة و مُلوثة تدخل البلاد بكمياتٍ كبيرة خارج لائحة الشراء والتعاقد ). إنتهى
لم تعُد مثل هذه الأخبار والتحقيقات الصحفية – رغم الخطورة الكبيرة التي تنطوي عليها – تُحرِّك ساكناً, أو تثيرُ دهشة أحد, ذلك لأنها أصبحت تتكرَّرُ منذ سنوات دون أن تُحدثَ أثراً في أوساط أولي الأمر, وهذا يعكس مدى التردي الذي وصلت إليه أوضاع البلاد, ففي الدول المُحترمة تؤدي أخبار الفساد لمُساءلات وتحقيقات وإقالات ومُحاكمات وتظاهرات ومسيرات وقد تطيحُ بحكومات مُنتخبة.
لا شكَّ عندي أنَّ المدخل السليم لتناول هذه المُشكلة لن يكون سوى النظر في "طبيعة الحُكم", وأعني الإستبداد, وهو لقاحُ الخصب الأمثل لبويضة الفساد الذي يتحوَّل في الدُّول التي يحكمها الإستبداد إلى "مؤسسة", وتتحوَّل الدولة إلى "كفيلٍ" له, ترعاهُ حتى يشبَّ ويترعرع ويُصبح قادراً على خلق منظومتهِ الخاصة من الآليات والقيم التي تضمن إستمراره.
أبرزالعلامات والدلائل على إنتشار و تغلغل مؤسسة الفساد في المجتمع تتمثل في "قبول" قطاعات كبيرة من الناس وتبريرهم لجميع أنواعهِ, وعدم شجبهم له أوالإعتراض عليهِ, وإفساح المجال له, والتعايش معهُ بحيث يُصبح ظاهرة طبيعية – وليس مدعاة للإستنكار – يتعاطى معها المواطن يومياً دون أن يشعر بوخز الضمير والندم.
إنتشارُ قيم الفسَّاد يضِربُ الدولة و المُجتمع في الصميم , يُهدِرُ ال"سوشيال كابيتال" الذي عمادهُ "الإنسان", وركيزته القيم الإيجابية, وسقفهُ الأخلاق الفاضلة, وإذا أصيبَ القومُ في أخلاقِهم فأقِم عليهم مأتماً وعويلاً.
في ظلِّ سيطرة الإستبداد تزدهرُ لدى كافة الناس نزعاتُ الأنانيَّة والفردِّية والجشع, وتنفتحُ جميع نوافذ وأبواب الثراء في وجهِ الإنتهازيين الذين يُحرِّكهم هدفٌ أوحد : المال, ولو تحقق عَبْرَ تجارة "الموت".
وكذلك يؤدي الفسَّاد الذي يرعاهُ الإستبداد إلى غياب المهنيَّة في العمل, ويستخفُّ الناسُ بالقوانين ويتحايلون عليها, ويتلاشى الدور المُهم المنوط بأجهزة الرِّقابة بسبب فساد الذِّمم, والتفريط في معايير الكفاءة والسمعة الحسنة, ولأنَّ الإختيار لتلك الأجهزة ينحصِرُ فقط في "المُوالين" للإستبداد ومن لفَّ لفهم.
يصبحُ المُوظف العُمومي في ظلِّ الإستبداد فريسة سهلة "للرشوة", وتغيبُ المُحاسبة والمساءلة, و تضحى المصلحة الشخصيَّة الضيِّقة هى الهدف الغائي لكلِّ إنسان, حيث يغيبُ الشعورُ بالتعاونِ والمسئوليةِ الجماعية.
يعيشُ المواطنُ البسيط مُنزوياً , تلاحقهُ همومُ الحياة وأعبائها, و يتسِّمُ سلوكهِ وتصرُّفاتهِ "باللامبالاة" التي يُغذيها شعوره بأنهُ ما عاد مُواطناً له من الحقوق مثل ما عليهِ من الواجبات, بل أصبح ضيفاً ثقيلاً على أصحاب النفوذ والسُّلطة في وطنهِ "الإنسان العبء".
تفشي الفساد يؤدي إلى إصابة مُكونات المُجتمع بحالةٍ أشبه "بالموت الدِّماغي" الذي لا يملكُ صاحبهِ من أسباب الحياة سوى نبضات القلب, ولا يؤمَّلُ في شفائهِ إلا بوقوع "مُعجزة", وهذا ما يُفسِّر – على سبيل المثال- ردود الأفعال على ظاهرة إنتشار السِّلع الفاسدة.
قد ظلَّت أجهزة الإعلام تتحدث منذ سنوات عديدة عن قضايا التقاوى الفاسدة, والمُبيدات الفاسدة, والدواء الفاسد, والأطعمة الفاسدة, ولكن حديثها كان على الدوام يتبخَّر في الهواء ولا يترُك أثراً ملموساً على الأرض, و في نفس الوقت تستمرُّ هذه السِّلع الفاسدة في حصد أرواح آلاف المواطنين عبر الإنتشار الكثيف وغير المسبوق لأمراضٍ قاتلة مثل السَّرطان, والفشل الكلوي, والتهاب الكبد الفيروسي, وغيرها.
ويُلاحظُ كذلك أنَّ الركن القاعدي في "مثلث الحصار الفعلي والمادي" الواقع على الإنسان (البوليس والمخابرات) في ظل الإستبداد كما عرَّفهُ حجازي, يتحرَّك بكفاءة عالية جداً في ملاحقة المعارضين السياسيين والصحفيين وناشطي المجتمع المدني, ولكنه لا يُظهِرُ نفس الكفاءة في مواجهة "سلع الموت" ومافيا "البيزنس" التي تقف وراءها !
ليست المشكلة إذن مُشكلة ضعف في الإمكانيات الماديَّة, أو نقصٍ في قدرات معامل هيئة المُواصفات والمقاييس, فعندما كان المُجتمعُ في فترة سابقة مُحصَّناً ضدَّ أدواء "مؤسسة" الفسَّاد وقيمها , كانت البلاد مُعافاة رغم قلة الإمكانيات وشح الموارد, هذه المُشكلة وغيرها من مشاكل السودان ليست سوى أعراض لمرضٍ فتاكٍ وحيد : الإستبداد .
قد ذهبت دعوة الوزير لسنِّ "تشريعاتٍ وعُقوباتٍ رادعةٍ" على المُتاجرين في السِّلع الفاسدة أدراج الرِّياح, مثلما ذهبت سابقاتها, وكما ستذهب أخرى لاحقة, ولم يشأ الوزير أن يُظهر عزماً على المُضي في طريق علاج بعض جوانب المُشكلة لأنَّ ذلك سيدخلهُ حتماً في "جُحُور الأفاعي" ويؤدي لمُغادرتهِ "الكرسي" العزيز على النفس !
يقول حجازي في إطار حديثه عن دور الطغيان في الهدر الإنساني أن السلطة المستبدة تُحيطُ نفسها بمجالس نيابية وتشريعية وهيئات مجتمع محلي لكن هذه الهيئات والمجالس تصبح شكليات لازمة فقط للمظهر الخارجي للسلطة التي تسحب المعنى الحقيقي لهذه الهيئات والمؤسسات وتهدر إمكانياتها وتحولها إلى خدمة خاصة ويؤكدُ أنَّ ( الطاغية بإختصار يفترس المجتمع بما فيه من مؤسسات وهيئات وناس. إنه يلتهم الجميع ولا يقبل أن يترك شيئا خارجه ). إنتهى
صحيحٌ أنَّ السِّلع الفاسدة تضرُّ بعُموم المواطنين, ولكن صحيحٌ أيضاً أنَّ ضررها الأكبر يقعُ على الفئات الضعيفة رقيقة الحال التي لا تملك أن تختار ما تأكلهُ وتشربهُ فتضحى فريسة لتلك السِّلع التي يكثرُ إنتشارُها في الأسواق الطرفيَّة حيث يقطنُ فقراء المدن "الناس العبء".
وبينما يُصيب الهدر العام غالبية المجتمع فإنَّ الهدر اليومي يجري على مسرح الحياة اليومية ويندمج معها دون أن يتخذ طابع القضايا بل يظل خفياً ولا يُصيب الجميع بالشكل والشدة نفسها، لذا تحدث حجازي على وجه الخصوص عن الهدر الذي يصيب الناس "دون خط الفقر" الذين يعيشون في أحزمة البؤس التي تتكدس حول المدن الكبرى وقال أنها ( فئات أكثر من كونها مهمشة هي فئات مستغنى عنها وفاقدة للإعتراف بإنسانيتها، وتحت وطأة الحاجة تفقد كل مرجعياتها القيمية وتستسلم للآخرين وللأقدار تفعل بها ما تشاء ).
أمَّا المُتنفذين من أعوان الإستبداد الأثرياء فإنهم يختارون ما يأكلون, بل إنَّ بعضهم يجلبُ طعامهِ وشرابه من خارج البلد, وعندما يُصابُ الفقراءُ بالأمراض الفتاكة لا يكون أمامهم خيارٌ سوى العلاج بالمستشفياتِ العامَّة – إن وُجدت - بكل ما فيها من مآسي ومُعاناة تفوق آلام وأوجاع المرض نفسهُ, بينما يُسافرُ الأثرياء من أصحاب النفوذ و الإمكانياتِ والمحظوظين لتلقي العلاج بالخارج.
قد تزايدت مُعدلات الوفيَّات في البلد بصورة تدعُو للإستغراب, بل الذهول, ونحن هُنا لا نعترضُ على الجانب الغيبي المُتعلق بإرادة المولى عزَّ وجل –حاشا لله – ولكننا فقط نُشيرُ للجانبِ المُرتبِط "بالأسباب", ففي الماضي كان الناسُ يؤرِّخون للأحداثِ بالوفيَّات, فيقولون لك إنَّ هذا الأمر قد وقع في عام وفاة "فلان", أمَّا اليوم فقد أصبح المُواطنُ يترَّدد على المقابر عدِّة مرَّات خلال الإسبوع الواحد, أصبحَ الموتُ ظاهرة "إعتياديَّة" يُعلق عليها الناس بالقول : "والله المرحوم إرتاح من الشقا والتعب", فتأمَّل !
شبَّه حكيم الشعراء "زهير بن أبي سلمى" أخطار الحرب وشرورها التي لا تنقطع و الآثار التي تتوَّلد عنها بالناقة الشؤم التي تَحْبلُ كل عامٍ ولا تلدُ ما ينفع, وكذلك فإنَّ الأجيال التي تولد في جوِّ الحرب تكون غير سويّة فهي لا تجلبُ خيراً لأنها تعودت على القتل والثأر, ويكون هؤلاء الأبناء مثل الرجل الذي عقر ناقة ثمود فجلب العقاب على الجماعة كلها :
فتُنــتجُ لكـم غلـمانَ أشأمَ كلُّـهم كأحمرِ عادٍ ثم تُرضعْ فتَفطِمِ
تشبيهُ الحكيم زهير للحرب يجوزُ كذلك على "الإستبداد" الذي يفوقُ خطرهُ كلَّ خطر, وتنتج عنهُ كل الأدواء والآفات التي تُصاب بها الدولة ويُعاني منها الناس : الإستبدادُ عقابٌ جماعيٌ لا يستثني حتى المتكسّبين منه.