الاحتلال الظلم القتل لا يقتل روح الامة (2)
شوقي بدري
9 March, 2024
9 March, 2024
قلنا في المقطع الاول ان السودان مر باصعب الامور التي يصعب تخيلها ، الا ان السودان دائما ينهض وهو اكثر قوة وتماسكا . كتبت قبل عقدين عن ما تعرض له السودان . وقلت ان السودان سينهض دائما .
*في هذه الأيام العصيبة, اكثر انا الكلام عن الوطن. واسمع من يقول ( السودان إنتهى) حتى إذا رجعت الديمقراطية لا يمكن اصلاح الأخلاق والعلاقات الإنسانية..
لقد مر الوطن بظروف اسوأ من هذه آلاف المرات لم تزد نساءنا ورجالنا إلا قوة وصلابة. وتكونت الشخصية السودانية المميزة بالحب والترابط والعشائرية, بطريقة يحسدنا عليها الآخرون. ما هو الشعب الذي هو اكثر ترابطا منا؟.
اكبر صدمة واجهها السودان في التاريخ الحديث, كانت الإحتلال التركي. ففجأة وجد السودانيين انفسهم في مواجهة جيش نظامي مزود بأحدث الأسلحة . ومكون من الجنود الأتراك والأرناؤوط القساة والخيالة المغاربة وبدو الصحراء المتعطشين للدماء والسلب والنهب, والأوربيين المغامرين احدهم ضابط انجليزي كان مسؤولا عن المدفعية التي فتكت بفرسان الشايقية. لقد كانت الحرب قبلها حرب رجولة وشرف.
يصطف فرسان الشايقية وبعد إشارة من عذراء على ظهر هودج يبدأ الشايقية الحرب بقولهم السلام عليكم. آلان مورهد في كتابه النيل الازرق قال السلاح بالنسبة للشايقية كان اداة لعب والحرب نوع من الرياضة أو التسلية والموت هجوع فقط لا اكثر ..
وعندما هاجم ملك سنار مملكة تقلي كان الطعام وكل لزوم الضيافة يصله من ملك تقلي . الذي كان يعتبر ملك سنار بالرغم من الحرب ضيفا بعيدا عن داره وضيافته بغض النظر عن الحرب مسؤولية ملك تقلي لأنه صاحبالدار..
بعد حروب البطانة وإنتصار الشكرية بقيادة ابو علي ابوسن صارت البطانة تعرف ببطانة ابوسن إلا انه كان هنالك مجال للقبائل الأخرى ان تعيش معهم.
الكبابيش فرضوا نفوذهم على منطقة شمال كردفان وطرق التجارة في صحراء بيوضة إلا ان القبائل الأخرى شاركتهم المنطقة امثال الهواوير, الكواهلة وبني جرار وآخرين. ولقد انتقل اللحويين من هذه المنطقة الى شرق النيل. وفي كتاب عبدالله علي ابراهيم (الصراع بين المهدي والعلماء) يخبرنا بالقوانين اللتي وضعها الكبابيش وزعمائهم المعروفين بالنوراب منهم الشيخ التوم ود فضل الله الذي قتلته المهدية. للقبيلة ( التبع) حق الرعي والسقي في دار القبيلة المضيفة على ان يدفع كل فرد من التبع شاه الحوض مقابل السقي وللتبع الحق في الزراعة مقابل دفع (الشراية) لشيخ القبيلة صاحبة الدار والشراية عبارة عن ثلاثة امداد من كل ريكة او ما يساوي ثلاثين مدا أو 2/4.1 كيله.
لا يجوز للتبع ان يحفروا بير (سانية) واصلة الحجر. او ان تضع وسمها على الشجر وحجارة الجبال أو أن تضرب نحاسها في مدى الدار بعبارة اخرى كان هنالك كثير من المعقولية.
لقد قام الأتراك بقطع آذان الموتى وكانت تملح وترسل للقاهرة وتساوي جنيها للزوج. ولكن الجشع دفع بالأتراك بقطع آذان الأحياء. وتعرض الخلق للنهب والقسوة . مما دفع حتى بمحمد علي ان يكتب لإبنه لائما بسبب الفظاعات اللتي ارتكبها. ولكن ابن الباشا المغرور واصل جرائمه متأثرا بمستشاريه السيئين مما ادى إلى قتله بواسطة المك نمر الذي لم يتحمل احتقار إبن الباشا فعند تسليم المك نمر عامله اسماعيل بإحتقار ولم يقدم له القهوة.
واذل الأتراك البشر في سنار ومورس كل ما هو غير اخلاقي. لدرجة ان الجند كانوا يطالبون كل من اراد ان يرتاد الماء بالدفع. وخلق المثل السوداني ( سنار من عما باعولا ما). محمد الدفتردار كان قاسيا في كردفان لدرجة انه انتزع لسان شيخ اتاه بالبشرى لأن حقول الدخن اللتي وضع الدفتردار يده عليها قد نضجت لأنه ولا بد قد ذاق الدخن.
ويخبرنا الأستاذ محمد سعيد القدال في كتابه تاريخ السودان الحديث عن انتقام الدفتردار لقتل اسماعيل باشا. الدفتردار توجه نحو النيل وهاجم الحسانية واوقع فيهم مجزرة هائلة. واستمر في طريقه إلى المتمة يعيث تقتيلا وتخريبا للقرى. فقتل الأطفال والشيوخ. وفي المتمة قتل الفين واسر ثلاثة آلاف وعندما حاول احد رقيق الجعليين قتله بحربته امر بقتل جميع الاسرى ثم انتقل لشندي واوقع بها نفس الخراب واحرق مجموعة من الجعليين واسترق بقيتهم مع انهم مسلمون. ثم اتجه الدفتردار شمالا إلى بربر وهزم الجعليين وسار إلى الدامر وخربها وحرق مسجد المجاذيب. واستمر في اسلوبه الوحشي حتى جزيرة توتي وقتل اهلها. وفي العيلفون قتل بعض اهلها ووسم الآخرين بالنار كالعبيد. وبعدها ذهب إلى مدني وكر راجعا إلى ابودليق وهزم المك نمر واسر اربعة الف من الجعليين وارسلهم كعبيد إلى مصر. وتابع المك مساعد إلى نهر الرهد وقتل كثيرا من الجعليين واسر منهم سبعة آلاف وارسلهم كعبيد إلى مصر. واصطدم بالهدندوة بسبدرات وعاث فيهم نهبا وتقتيلا واتجه بعد ذلك إلى الشكرية.
وبعد عام من الدمار وصف كاتب الشونة الحالة ( الدفتردار وضع يده بالخراب فما ترك بالبلاد انسيا ولا تسمع لها حسيسا من حد شندي إلى كترانج) ويبدو ان المثل السوداني (الريف ان شاء الله ما يجينو منوغير القماش) لابد وليد تلك الظروف.
كما ارسل الأتراك حملات لصيد الرقيق فأرسلوا سرية لجبل تابا جنوب سنار وقتلوا الخلق وأسروا آلاف البشر كعبيد. وارسلوا حملات لبلاد الشلك واستبسل الشلك امام السلاح الناري وكبدوا الأتراك خسائر كبيرة. واستمرت الحملات وسط الدينكا وبلاد التاكا وجبال النوبة. ومشكلة القبائل الجنوبية ان الشماليين شاركوا فيها بعد ان استتب الأمر في الشمال ونشطت بضراوة في ايام المهدية وصار هنالك سوق عامر للرقيق في امدرمان وكثير من المدن الشمالية وقاست قبائل جنوب دارفور وبحر الغزال بصفة خاصة من تجارة الرقيق حتى كادت بعض القبائل كالفرتيت أن تفنى.
حصلت الحكومة التركية على احتياجاتها من الحيوانات بكل الطرق , فنهب 6 الف جمل وخمسمائة بقرة من الشكرية وفقدت قبيلة بني عامر ثلاث الف وخمسمائة بقرة وثلاثمائة جمل وبضعة آلاف من الأغنام وفقدت قبائل الترعة الخضراء سبع الف بقرة. كما كانوا يشترون الجلود بأسعار يقدرونها هم , فالجلد الذي كان يساوي ثلاثين قرشا كان يشترى بثلاث قروش كما كانوا ينزعون ماشية الأهالي لتسديد الضرائب.
عامل الضرائب التركي ياخذ لنفسه حصة بدون وجه حق تسمى سفالك والمثل السوداني يقول (راحت سفالك). ومن هذه الكلمة حرفت الكلمة الدارجية سلفكة او احتيال.
الأستاذ مكي شبيكة في كتابه السودان عبر القرون يخبرنا كيف كان صاحب الحمار او الشاه يدفع خمس ريال ضريبة, والساقية بين ثلاث إلى خمسة جنيه. المتره 175 إلى 350 قرش. الشادوف 2/2.1 إلى 2/3.1 جنيه. فدان الجزائر 52 إلى 60 قرش. الجروف 42 إلى 45 قرش كما فرضت لأول مرة ضرائب على المراكب والمساكن ومورس الجلد والضرب والتعذيب بكل انواعه وهرب الناس وتركوا اراضيهم. ففي سنة 1856 كان هنالك خمس الف وتسعمائة ساقية, خربت 551 ساقية تماما وهجرت 2011 ساقية وهاجر اهل دنقلا إلى سنار وكردفان وهذا هو السبب في انتشار الدناقلة في كل اقاليم السودان.
كما نهبوا الصمغ وريش النعام وسيطروا على تجارة سن الفيل والتعدين خاصة الذهب والنحاس واعتبر الاتراك كل الأراضي اللتي لا تزرع بطريقة الساقية او الجرف ارضا حكومية.
حتى الشايقية الذين تعاونوا مع النظام ووجدوا وضعا مميزا اصطدموا بالنظام . فلقد الغى الحاكم ابو ودان اتفاقهم مع خورشيد الذي يعفيهم من الضرائب بوصفهم خيالة الحكومة ويحتاجنوها لعلف خيولهم وقوتهم . فهم يعملون بلا مرتبات. فخرب الشايقية سواقيهم اللتي استصلحوها وخربوا زرعهم وطلعوا من طاعة الحكومة.
هذه الاوضاع ونهب الشعب هي ديدن الإنقاذ الآن. بل لقد تفوقوا على الأتراك فنهبوا المال العام ومال الحكومة نفسها.
ولم يزعن السودانيين بالرغم من كل الفظائع فثار الحمدة بقيادة رجب ود بشير ومشى رجب برجولة إلى الخاذوق بعد هزيمته وقتل اهله.
وانتفض عرب رفاعة المعروفين بناس (ابو روف) ولم يستسلم البشاريين وحتى بعد قتل اربعين من زعماء الهدندوة واصلوا تمردهم. وكان الكبابيش والبقارة في حالة تمرد دائما. ولم تستطيع الحكومة ان تخضع الملك ناصر ملك تقلي. واهل تقلي هم الذين أجاروا المهدي في جبل بطن امك.
في كتاب الأمثال السودانية لبابكر بدري (الباشا البحكوله شن عرضه وشن طوله) يضرب استخفافا بالتهديد وتكملة المثل (..... كان حجر حلوله حتى شرق اللله البارد هوله؟). والمثل اطلقه الماحي ودفتر الذي بالرغم من بطش الأتراك لم يستسلم مع اخيه عبدالله ود فتر وعندما واجهوا الشنق اخيرا قال الماحي ( عبدالله قوم اتعلق خلي العسكر تتفرق).
لأننا شعب حر من نسيج خاص جدا فلن تحطمنا الأنظمة الظالمة وستذهب الجبهة ويبقى الشعب السوداني كمثال خاص.
عندما تمرد الجهادية في ستينات القرن الماضي في كسلا وشرق السودان وحاربوا النظام التركي تأثرت الزراعة واصابت المجاعة البشر. ويذكر بابكر بدري كيف كان اخوه الأكبر سعيد يجمع الصمغ لكي تخلطه امه بالدقيق وكان بابكر بدري الطفل الصغير يلعق ما يتعلق بثوب اخيه وذكر ان محمد بدري والد بابكر بدري عندما كان صغيرا في الرباطاب أن مروا بظروف قاسية من جراء الضرائب وسيطرة التجار الشوام والمصريين على اسعار المحاصيل والتجارة مدعومين بالحكومة. واثناء عمله في الساقية وهو صبي تحضر له والدته العشاء فينام بسبب التعب والإرهاق ويده في القصعة وعندما يستيقظ يستمر في الأكل. وعندما سئل الا تخشى ان يكون كلبا قد اكل من الطعام اثناء نومك فرد (وفي كلب بجي الرباطاب؟) وهذا سبب هجرة كثير من الرباطاب لديارهم. ولهم الآن حي بإسمهم في امدرمان.
المهدية اللتي خلفت الاتراك اتت بفظائع من نوع مماثل. ففي عهدالخليفة عانى اولاد البحر الذين بدأوا ثورة المهدية وتعرضوا للإضطهاد والتسلط. ويواصل بابكر بدري الذي كان انصاريا متطرفا موضحا كيف قال الخليفة للأمير عبدالرحمن النجومي خيرة قواد المهدية ( انت يا ود النجومي هوين اخوانك لمتين بتدس من الموت ).
وعندما رجع ود النجومي إلى دنقلا ارسل له مساعد قيدوم مراقبا. وكان يسئ إلى الأمير ود النجومى. ثم ارسل له يونس الدكيم رئيسا وعزل يونس حسن النجومي من سلاح النار وولى عليه احد عبيده وابدل محصلي الضرائب بعبيده او من دفع له اكثر فأنتشرت السرقة والرشوة في اراضي الدناقلة والسكوت والمحس. ومن اعترض عزل او سجن او ضرب. ولقد اجتمعت الثلاثة لبعض الناس من الأنصار الأوفياء احدهم محمد نور الكتيابي الذي وقف امام هذا الظلم فأمر بضربه خمسمائة سوط فضرب على صلبه حتى تقرح ثم ضرب على ظهره حتى صار يؤتى به منبطحا على حمار فلم يهتدوا إلى مكان يضرب عليه فقال لهم (انتو نسيتو لساني ) واخرجه لهم فتم الضرب على رأسه. كما ضرب عبد الكريم ود علي الذي صار مدرسا في المعهد العلمي وكان يؤم المصلين في شارع الأربعين.
محمد الفحل كبير الفحلاب يقول لإبن عمه محمد عبدالماجد الذي كان انصاريا متشددا (اسكت المهدي غشانا وخليفة المهدي كذب علينا).
فيبلغ عنه محمد عبدالماجد فيأمر الخليفة بضرب عنقه ونفذ الحكم. وهذ ا ولا شك يشابه شريعة النميري وشريعة الجبهة.
السؤال الذي لا يزال يطرح نفسه لماذا ارسل ودالنجومي لفتح مصر مصحوبا بثلاثة الف من الأطفال والنساء بدون مؤن. وشاهد بابكر بدري ود النجومي يصاب بالدوار بعد ان كبر للصلاة ويجلس على الأرض بسبب الجوع وهو القائد. كما يرفض ان يسلم ويرد على خطاب وود هاوس قائلا اذا قتلناكم فسنجد كل ما وعدتنا به اما اذا قتلتونا فلن تجدوا إلا جبة متروزه وحربة مركوزه.
بعد هزيمة ود النجومي, وجد اربعة الف من الأسرى السودانيين انفسهم في ظروف صعبة. ففي سجن الشلال تعرض بابكر بدري وبقية السجناء للسخره والجلد بدون سبب والصفع لدرجة ان الدم كان يخرج من اذني بابكر بدري . واستعبدوا بالعمل في المزارع بعد ان وزعوا على الأسر المصرية. بالرغم من كل الصعوبات صمد السودانيين ولم ينسوا الشرف والقيم السودانية. وهب اربع من اغنياء السودان الذين عاشوا في مصر لمساعدة الأسرى بكل امكانياتهم وعلى رأسهم الزبير باشا رحمة وعبدالله بك حمزة ومحمد صالح ثروة وصالح منقاش . لا لأي شيء سوى رباط الوطن. والآن عندما يتقابل السودانيين في اي مكان في العالم بدون سابق معرفة يصيرون كالإخوة مما تستغرب له الشعوب الأخرى حتى اشقاؤنا الجنوبيين يلاقونا بأزرع مفتوحة ونتبادل الود صافيا, بالرغم من فظاعة الحرب.
يجب ان نشكر الجنوبيين لأنهم بالرغم من الحرب اللتي فرضت عليهم قبل ثمانية واربعين عاما فلا نرى القنابل في الخرطوم تقتل الأبرياء ولا تخطف الطائرات ولا يقتل الدبلوماسيين كما يعمل الآخرون. وخيرة الرجال الذين قابلت من الجنوبيين.
لقد تعرض الخلق للسلب والنهب في زمن الخليفة وكانت العشور تؤخذ عدة مرات عن البضائع ويقال ان ثلث اهل السودان قد ماتوا بسبب حروب الخليفة والمجاعات. احد اسباب المجاعة هي احضار اعداد هائلة من اهل الغرب إلى امدرمان وكثيرا منهم ضد رغبتهم فقط لأن الخليفة كان لا يثق باولاد البحر. وبنيت صوامع الغلال في طول الطريق لإطعام التعايشة واهل الغرب. وصودرت الغلال من اهل الجزيرة بالرغم من معارضة ودعدلان امين بيت المال والعقل الإقتصادي. لأن المزارعين لن يزرعوا في السنين المقبلة خوفا من المصادرة. ونهب التعايشة كل ما وقع تحت عينهم وتصرفوا كجيش إحتلال. واحتاج عبورهم للنيل ثلاثة ايام متتالية سخرت فيها المراكب والنوتية.
احمد السني كان يفتح المطامير في الجزيرة ياخذ الثلث (للباب) والثلث لنفسه والبقية قد ينهبها اهل الغرب والجهادية والشفاتة مما جعل اهل الجزيرة يعانون من الجوع. واكل الناس حتى جلود العناقريب (عناقريب القد).
وخير الخليفة ود عدلان بأن يصادر ماله والسجن او الموت. ففضل الموت بكل شجاعة وواجه الخليفة وظلمه وعندما اخذ للمشنقة رفض ان يشرب الماء الذي قدم له واخذ حبل المشنقة ووضعه حول عنقه.
من الرجال الذين واجهوا الخليفة وحبه لإهانة الآخرين , محمود الشكري, فعندما طلب منهم الخليفة ان يجروا (يركضوا ) رفض وقال (يا خليفة المهدي الكرعين البتتعلم الجري ما بتقيف). واطلقها مثلا. هذا بالرغم من ان الخليفة قد نكل بالشكرية ووضع الشيخ عوض الكريم ابوسن في الأغلال حتى مات.
كان كثيرا من امراء المهدية وقوادها متصلبين لإنعدام الديمقراطية او الشورى واغلبهم كانوا اناسا عاديين ووجدوا انفسهم فجأة في مركز قوة وهذا ما يحدث للعسكر اليوم.
يخبرنا بابكر بدري كيف قام العامل الشيخ الحاج علي بجلد العالم الأزهري الشيخ محمد صالح في جزيرة كلب بدون اي سبب سوى ان العامل قد اكثر من شرب الدكاي بالرغم من انه انصاري.
وعندما اقترح احمد ابوسن امير اللحويين على الأمير عثمان ازرق في واقعة الجميزة ان يحتمي الأنصار بالجبل حتى يفوتوا على العدو ضربهم بسلاح النار كان رد عبدالحفيظ شمت الذي وافق عليه الأمير عثمان ازرق (الخيل خيل المهدي تموت في سنة المهدي) وفجأة يلقيهم العدو بطلق متحد. ويهرب بابكر بدري والجميع على رأسهم عبدالحفيظ شمت والأمير عثمان ازرق بينما بقي احمد ابوسن خالفا رجله على قربوس حصانه مع المدني مصطفى والطاهر الزغاوي ورجع بابكر بدري طالبا من احمد ابوسن ان يهرب فقال (الخيل خيل المهدي تموت في سنة المهدي).
تحت اي ظروف عندما يترك القرار لفرد نكون معرضين للغلط ولا نزال نعاني من قرارات نميري الخرقاء.
القاضي احمد علي صار قاضي القضاة, وشي به للخليفة وبدون اي دليل سجن ومنع عنه الأكل والماء إلى ان مات جوعا وعطشا وهو ثالث قضاة يفتك به الخليفة مما اضعف هيبة القضاء. وسلم القضاء إلى المرتشين الذين لا يعرفون حتى ابسط قواعد الشريعة.
من اهم القضاة الذين انضموا إلى المهدي في اول ايامه الأزهري اسماعيل عبدالقادر وكان قد تعلم جيدا في القاهرة ونال حظوه كبرى عند المهدي كتب تاريخا قيما يشمل جميع انتصاراته وتاريخ حياته. وطلب الخليفة من الشيخ اسماعيل عبدالقادر ان يكتب عنه وكان الخليفة يتوقع الفاظ الملق والمداهنة والمدح , وفي جملة, مثل الشيخ اسماعيل عبدالقادر, الخليفة بالخديوي اسماعيل باشا. وكان هذا كافيا لأن تحرق كل نسخ الكتاب ويرسل القاضي إلى الرجاف سجينا. كما منع الخليفة استيراد الكتب وعلى هذا كان يعاقب بالجلد والمصادرة والسجن واوقف الخليفة خدمات البريد اللتي كانت منظمة وعطل خدمة التلغراف الذي غطى اغلب السودان منذ 1860 وانهى التعليم الفني بحيث انهارت الصناعة اللتي كانت موجودة واقفلت كل المدارس.
وعندما علم الخليفة أن التجار يدخلون سواكن ويختلطون بالأتراك والمصريين , حرم التجارة الخارجية مما افلس التجار وحرم البلد من العملات الاجنبية لأنه لم يكن هنالك من يشتري الصمغ وريش النعام والعاج, الشمع, السنمكة والتمر هندي......الخ, واختفت الاوعية المعدنية كالنحاس لعدم الإستيراد والحاجة لها للاعمال الحربية. ورجع الناس الى استعمال الفخار.
ارهاب الدولة والتخلص من الآخرين مارسه الخليفة عندما قبض على كل الأشراف من اقرباء المهدي في امدرمان, رفاعة, مدني ,الكاملين, جزيرة الفيل واماكن اخرى, في يوم واحد وساعة واحدة . بابكر بدري يقابل صالح حسن واخاه عبدالقادر حسن وكريب نور الدين وما يربو على المائة شخص في الكاملين وجميعهم مشعبون بشعب العبيد على اعناقهم وهؤلاء كانوا اصحاب المنازل الكبيرة والحشم وخيل (منقودة) بمعنى مختارة واعطاهم بابكر بدري ما عنده من طعام وابكاه حالهم.
أرسل الأشراف إلى فشودة إلى الزاكي طمل وجلدوا بأغصان الشوك حتى الموت وسلم ابناء المهدي لجدهم احمد شرفي ومنع اتصالاتهم بأي شخص.
الزاكي طمل واجه مصيرا اسوأ فلقد خاف الخليفة من ارتفاع اسهم الزاكي الذي كان عادلا بمقاييس ذلك الزمان وكان يمنع جنوده من نهب الناس ولهذا اطلق المثل السوداني (الزاكي عدل والجداد قدل). ووضع الزاكي في غرفة مطوبة وكانت العقارب تلقى عليه ومنع منه الماء والأكل ولم يسمع منه اي صوت أو انة, فقط حشرجة الموت بعد عشرين يوما.
بنات واخوات سلطان دارفور واهل بيته قبض عليهم وارسلوا إلى امدرمان امثال البرنسيسة مريم , آسيا وبخيتة واعطاهم الخليفة إلى امرائه ورجال قبيلته كحسين وكنونه وعندما طلب منهم ان يتبعوا ازواجهم إلى الرجاف القت بخيتة بنفسها في النيل. وماتت والدتها العمياء حزنا والاخريات وزعوا على رجال الخليفة.
حتى الخليفة شريف اعتقل ولم يعطي فرصة لكي يلبس حذائه وجر حافيا ودفع حتى سقط مرتين في طريقه إلى السجن.
زوجات الزاكي وجواريه وزعن على رجال الخليفة وكانت زوجته البيضاء من نصيب عبد القادر او سلاطين وعندما يكون الخليفة غاضبا عليه يناديه (بشواطين).
الأمير ابوقرجة قائد سلاح المدفعية وكما قال العبيد ود بدرمهددا المك صالح (باكر يجي ابوقرجة وتقيف الهرجة) وله القدح المعلى في الحصار وفتح الخرطوم. ارسل في مهمة وهمية للرجاف حيث اعتقل ووضع في القيود ولم ينقذه سوى احتلال البلجيك للرجاف وسلموه للانجليز ومات بعد الفتح الانجليزي.
مادبو الفارس المغوار الذي هزم سلاطين في معركة ام ورقات وفتح دارفور لصالح المهدية يقتله ابوعنجة في ايام الخليفة لان ابوعنجة لم ينسى ان مادبو قد جلده عندما كان عبدا قبل ان يلتحق بخدمة الزبير باشا مع رابح والنور عنقرة وآخرين. ويرسل رأس البطل مادبو الى الخليفة ويهان الرزيقات. مادبو كان يضحك في وجه جلاديه.
الخليفة كان لا يحب الر جال الاقوياء ويجمع حوله من لا يعارضه ويتملقه وكان في مجلسه لا يسمح لاي انسان الا بالجلوس على الارض ولا يسمح للامراء حتى بالتحدث بدون اذن ولا يرفع اي شخص بصره للخليفة .
احد الشوام الذين اسلموا بالقوة كان احولا كاد ان يفقد رأسه لان الخليفة ظن انه ينظر اليه بالخطأ في الجامع.
وعندما يرسل الخليفة رسوله الى اي شخص يقف الرسول امامه ويصفق وينقلب جاريا ويتبعه الشخص المطلوب مهرولا بغض النظر عن مشغوليته او عدم ملائمة الوقت وهذا كان ينطبق على كبار موظفي دولة الخليفة كأولاد هاشم والشيخ بانقا والسيد المكي و مدثر الحجاز وبعض هؤلاء اقفل الباب في وجه رسول الخليفة عندما طلب الخليفة مرافقته الى الغرب بعد معركة امدرمان
شوقي
shawgibadri@hotmail.com
*في هذه الأيام العصيبة, اكثر انا الكلام عن الوطن. واسمع من يقول ( السودان إنتهى) حتى إذا رجعت الديمقراطية لا يمكن اصلاح الأخلاق والعلاقات الإنسانية..
لقد مر الوطن بظروف اسوأ من هذه آلاف المرات لم تزد نساءنا ورجالنا إلا قوة وصلابة. وتكونت الشخصية السودانية المميزة بالحب والترابط والعشائرية, بطريقة يحسدنا عليها الآخرون. ما هو الشعب الذي هو اكثر ترابطا منا؟.
اكبر صدمة واجهها السودان في التاريخ الحديث, كانت الإحتلال التركي. ففجأة وجد السودانيين انفسهم في مواجهة جيش نظامي مزود بأحدث الأسلحة . ومكون من الجنود الأتراك والأرناؤوط القساة والخيالة المغاربة وبدو الصحراء المتعطشين للدماء والسلب والنهب, والأوربيين المغامرين احدهم ضابط انجليزي كان مسؤولا عن المدفعية التي فتكت بفرسان الشايقية. لقد كانت الحرب قبلها حرب رجولة وشرف.
يصطف فرسان الشايقية وبعد إشارة من عذراء على ظهر هودج يبدأ الشايقية الحرب بقولهم السلام عليكم. آلان مورهد في كتابه النيل الازرق قال السلاح بالنسبة للشايقية كان اداة لعب والحرب نوع من الرياضة أو التسلية والموت هجوع فقط لا اكثر ..
وعندما هاجم ملك سنار مملكة تقلي كان الطعام وكل لزوم الضيافة يصله من ملك تقلي . الذي كان يعتبر ملك سنار بالرغم من الحرب ضيفا بعيدا عن داره وضيافته بغض النظر عن الحرب مسؤولية ملك تقلي لأنه صاحبالدار..
بعد حروب البطانة وإنتصار الشكرية بقيادة ابو علي ابوسن صارت البطانة تعرف ببطانة ابوسن إلا انه كان هنالك مجال للقبائل الأخرى ان تعيش معهم.
الكبابيش فرضوا نفوذهم على منطقة شمال كردفان وطرق التجارة في صحراء بيوضة إلا ان القبائل الأخرى شاركتهم المنطقة امثال الهواوير, الكواهلة وبني جرار وآخرين. ولقد انتقل اللحويين من هذه المنطقة الى شرق النيل. وفي كتاب عبدالله علي ابراهيم (الصراع بين المهدي والعلماء) يخبرنا بالقوانين اللتي وضعها الكبابيش وزعمائهم المعروفين بالنوراب منهم الشيخ التوم ود فضل الله الذي قتلته المهدية. للقبيلة ( التبع) حق الرعي والسقي في دار القبيلة المضيفة على ان يدفع كل فرد من التبع شاه الحوض مقابل السقي وللتبع الحق في الزراعة مقابل دفع (الشراية) لشيخ القبيلة صاحبة الدار والشراية عبارة عن ثلاثة امداد من كل ريكة او ما يساوي ثلاثين مدا أو 2/4.1 كيله.
لا يجوز للتبع ان يحفروا بير (سانية) واصلة الحجر. او ان تضع وسمها على الشجر وحجارة الجبال أو أن تضرب نحاسها في مدى الدار بعبارة اخرى كان هنالك كثير من المعقولية.
لقد قام الأتراك بقطع آذان الموتى وكانت تملح وترسل للقاهرة وتساوي جنيها للزوج. ولكن الجشع دفع بالأتراك بقطع آذان الأحياء. وتعرض الخلق للنهب والقسوة . مما دفع حتى بمحمد علي ان يكتب لإبنه لائما بسبب الفظاعات اللتي ارتكبها. ولكن ابن الباشا المغرور واصل جرائمه متأثرا بمستشاريه السيئين مما ادى إلى قتله بواسطة المك نمر الذي لم يتحمل احتقار إبن الباشا فعند تسليم المك نمر عامله اسماعيل بإحتقار ولم يقدم له القهوة.
واذل الأتراك البشر في سنار ومورس كل ما هو غير اخلاقي. لدرجة ان الجند كانوا يطالبون كل من اراد ان يرتاد الماء بالدفع. وخلق المثل السوداني ( سنار من عما باعولا ما). محمد الدفتردار كان قاسيا في كردفان لدرجة انه انتزع لسان شيخ اتاه بالبشرى لأن حقول الدخن اللتي وضع الدفتردار يده عليها قد نضجت لأنه ولا بد قد ذاق الدخن.
ويخبرنا الأستاذ محمد سعيد القدال في كتابه تاريخ السودان الحديث عن انتقام الدفتردار لقتل اسماعيل باشا. الدفتردار توجه نحو النيل وهاجم الحسانية واوقع فيهم مجزرة هائلة. واستمر في طريقه إلى المتمة يعيث تقتيلا وتخريبا للقرى. فقتل الأطفال والشيوخ. وفي المتمة قتل الفين واسر ثلاثة آلاف وعندما حاول احد رقيق الجعليين قتله بحربته امر بقتل جميع الاسرى ثم انتقل لشندي واوقع بها نفس الخراب واحرق مجموعة من الجعليين واسترق بقيتهم مع انهم مسلمون. ثم اتجه الدفتردار شمالا إلى بربر وهزم الجعليين وسار إلى الدامر وخربها وحرق مسجد المجاذيب. واستمر في اسلوبه الوحشي حتى جزيرة توتي وقتل اهلها. وفي العيلفون قتل بعض اهلها ووسم الآخرين بالنار كالعبيد. وبعدها ذهب إلى مدني وكر راجعا إلى ابودليق وهزم المك نمر واسر اربعة الف من الجعليين وارسلهم كعبيد إلى مصر. وتابع المك مساعد إلى نهر الرهد وقتل كثيرا من الجعليين واسر منهم سبعة آلاف وارسلهم كعبيد إلى مصر. واصطدم بالهدندوة بسبدرات وعاث فيهم نهبا وتقتيلا واتجه بعد ذلك إلى الشكرية.
وبعد عام من الدمار وصف كاتب الشونة الحالة ( الدفتردار وضع يده بالخراب فما ترك بالبلاد انسيا ولا تسمع لها حسيسا من حد شندي إلى كترانج) ويبدو ان المثل السوداني (الريف ان شاء الله ما يجينو منوغير القماش) لابد وليد تلك الظروف.
كما ارسل الأتراك حملات لصيد الرقيق فأرسلوا سرية لجبل تابا جنوب سنار وقتلوا الخلق وأسروا آلاف البشر كعبيد. وارسلوا حملات لبلاد الشلك واستبسل الشلك امام السلاح الناري وكبدوا الأتراك خسائر كبيرة. واستمرت الحملات وسط الدينكا وبلاد التاكا وجبال النوبة. ومشكلة القبائل الجنوبية ان الشماليين شاركوا فيها بعد ان استتب الأمر في الشمال ونشطت بضراوة في ايام المهدية وصار هنالك سوق عامر للرقيق في امدرمان وكثير من المدن الشمالية وقاست قبائل جنوب دارفور وبحر الغزال بصفة خاصة من تجارة الرقيق حتى كادت بعض القبائل كالفرتيت أن تفنى.
حصلت الحكومة التركية على احتياجاتها من الحيوانات بكل الطرق , فنهب 6 الف جمل وخمسمائة بقرة من الشكرية وفقدت قبيلة بني عامر ثلاث الف وخمسمائة بقرة وثلاثمائة جمل وبضعة آلاف من الأغنام وفقدت قبائل الترعة الخضراء سبع الف بقرة. كما كانوا يشترون الجلود بأسعار يقدرونها هم , فالجلد الذي كان يساوي ثلاثين قرشا كان يشترى بثلاث قروش كما كانوا ينزعون ماشية الأهالي لتسديد الضرائب.
عامل الضرائب التركي ياخذ لنفسه حصة بدون وجه حق تسمى سفالك والمثل السوداني يقول (راحت سفالك). ومن هذه الكلمة حرفت الكلمة الدارجية سلفكة او احتيال.
الأستاذ مكي شبيكة في كتابه السودان عبر القرون يخبرنا كيف كان صاحب الحمار او الشاه يدفع خمس ريال ضريبة, والساقية بين ثلاث إلى خمسة جنيه. المتره 175 إلى 350 قرش. الشادوف 2/2.1 إلى 2/3.1 جنيه. فدان الجزائر 52 إلى 60 قرش. الجروف 42 إلى 45 قرش كما فرضت لأول مرة ضرائب على المراكب والمساكن ومورس الجلد والضرب والتعذيب بكل انواعه وهرب الناس وتركوا اراضيهم. ففي سنة 1856 كان هنالك خمس الف وتسعمائة ساقية, خربت 551 ساقية تماما وهجرت 2011 ساقية وهاجر اهل دنقلا إلى سنار وكردفان وهذا هو السبب في انتشار الدناقلة في كل اقاليم السودان.
كما نهبوا الصمغ وريش النعام وسيطروا على تجارة سن الفيل والتعدين خاصة الذهب والنحاس واعتبر الاتراك كل الأراضي اللتي لا تزرع بطريقة الساقية او الجرف ارضا حكومية.
حتى الشايقية الذين تعاونوا مع النظام ووجدوا وضعا مميزا اصطدموا بالنظام . فلقد الغى الحاكم ابو ودان اتفاقهم مع خورشيد الذي يعفيهم من الضرائب بوصفهم خيالة الحكومة ويحتاجنوها لعلف خيولهم وقوتهم . فهم يعملون بلا مرتبات. فخرب الشايقية سواقيهم اللتي استصلحوها وخربوا زرعهم وطلعوا من طاعة الحكومة.
هذه الاوضاع ونهب الشعب هي ديدن الإنقاذ الآن. بل لقد تفوقوا على الأتراك فنهبوا المال العام ومال الحكومة نفسها.
ولم يزعن السودانيين بالرغم من كل الفظائع فثار الحمدة بقيادة رجب ود بشير ومشى رجب برجولة إلى الخاذوق بعد هزيمته وقتل اهله.
وانتفض عرب رفاعة المعروفين بناس (ابو روف) ولم يستسلم البشاريين وحتى بعد قتل اربعين من زعماء الهدندوة واصلوا تمردهم. وكان الكبابيش والبقارة في حالة تمرد دائما. ولم تستطيع الحكومة ان تخضع الملك ناصر ملك تقلي. واهل تقلي هم الذين أجاروا المهدي في جبل بطن امك.
في كتاب الأمثال السودانية لبابكر بدري (الباشا البحكوله شن عرضه وشن طوله) يضرب استخفافا بالتهديد وتكملة المثل (..... كان حجر حلوله حتى شرق اللله البارد هوله؟). والمثل اطلقه الماحي ودفتر الذي بالرغم من بطش الأتراك لم يستسلم مع اخيه عبدالله ود فتر وعندما واجهوا الشنق اخيرا قال الماحي ( عبدالله قوم اتعلق خلي العسكر تتفرق).
لأننا شعب حر من نسيج خاص جدا فلن تحطمنا الأنظمة الظالمة وستذهب الجبهة ويبقى الشعب السوداني كمثال خاص.
عندما تمرد الجهادية في ستينات القرن الماضي في كسلا وشرق السودان وحاربوا النظام التركي تأثرت الزراعة واصابت المجاعة البشر. ويذكر بابكر بدري كيف كان اخوه الأكبر سعيد يجمع الصمغ لكي تخلطه امه بالدقيق وكان بابكر بدري الطفل الصغير يلعق ما يتعلق بثوب اخيه وذكر ان محمد بدري والد بابكر بدري عندما كان صغيرا في الرباطاب أن مروا بظروف قاسية من جراء الضرائب وسيطرة التجار الشوام والمصريين على اسعار المحاصيل والتجارة مدعومين بالحكومة. واثناء عمله في الساقية وهو صبي تحضر له والدته العشاء فينام بسبب التعب والإرهاق ويده في القصعة وعندما يستيقظ يستمر في الأكل. وعندما سئل الا تخشى ان يكون كلبا قد اكل من الطعام اثناء نومك فرد (وفي كلب بجي الرباطاب؟) وهذا سبب هجرة كثير من الرباطاب لديارهم. ولهم الآن حي بإسمهم في امدرمان.
المهدية اللتي خلفت الاتراك اتت بفظائع من نوع مماثل. ففي عهدالخليفة عانى اولاد البحر الذين بدأوا ثورة المهدية وتعرضوا للإضطهاد والتسلط. ويواصل بابكر بدري الذي كان انصاريا متطرفا موضحا كيف قال الخليفة للأمير عبدالرحمن النجومي خيرة قواد المهدية ( انت يا ود النجومي هوين اخوانك لمتين بتدس من الموت ).
وعندما رجع ود النجومي إلى دنقلا ارسل له مساعد قيدوم مراقبا. وكان يسئ إلى الأمير ود النجومى. ثم ارسل له يونس الدكيم رئيسا وعزل يونس حسن النجومي من سلاح النار وولى عليه احد عبيده وابدل محصلي الضرائب بعبيده او من دفع له اكثر فأنتشرت السرقة والرشوة في اراضي الدناقلة والسكوت والمحس. ومن اعترض عزل او سجن او ضرب. ولقد اجتمعت الثلاثة لبعض الناس من الأنصار الأوفياء احدهم محمد نور الكتيابي الذي وقف امام هذا الظلم فأمر بضربه خمسمائة سوط فضرب على صلبه حتى تقرح ثم ضرب على ظهره حتى صار يؤتى به منبطحا على حمار فلم يهتدوا إلى مكان يضرب عليه فقال لهم (انتو نسيتو لساني ) واخرجه لهم فتم الضرب على رأسه. كما ضرب عبد الكريم ود علي الذي صار مدرسا في المعهد العلمي وكان يؤم المصلين في شارع الأربعين.
محمد الفحل كبير الفحلاب يقول لإبن عمه محمد عبدالماجد الذي كان انصاريا متشددا (اسكت المهدي غشانا وخليفة المهدي كذب علينا).
فيبلغ عنه محمد عبدالماجد فيأمر الخليفة بضرب عنقه ونفذ الحكم. وهذ ا ولا شك يشابه شريعة النميري وشريعة الجبهة.
السؤال الذي لا يزال يطرح نفسه لماذا ارسل ودالنجومي لفتح مصر مصحوبا بثلاثة الف من الأطفال والنساء بدون مؤن. وشاهد بابكر بدري ود النجومي يصاب بالدوار بعد ان كبر للصلاة ويجلس على الأرض بسبب الجوع وهو القائد. كما يرفض ان يسلم ويرد على خطاب وود هاوس قائلا اذا قتلناكم فسنجد كل ما وعدتنا به اما اذا قتلتونا فلن تجدوا إلا جبة متروزه وحربة مركوزه.
بعد هزيمة ود النجومي, وجد اربعة الف من الأسرى السودانيين انفسهم في ظروف صعبة. ففي سجن الشلال تعرض بابكر بدري وبقية السجناء للسخره والجلد بدون سبب والصفع لدرجة ان الدم كان يخرج من اذني بابكر بدري . واستعبدوا بالعمل في المزارع بعد ان وزعوا على الأسر المصرية. بالرغم من كل الصعوبات صمد السودانيين ولم ينسوا الشرف والقيم السودانية. وهب اربع من اغنياء السودان الذين عاشوا في مصر لمساعدة الأسرى بكل امكانياتهم وعلى رأسهم الزبير باشا رحمة وعبدالله بك حمزة ومحمد صالح ثروة وصالح منقاش . لا لأي شيء سوى رباط الوطن. والآن عندما يتقابل السودانيين في اي مكان في العالم بدون سابق معرفة يصيرون كالإخوة مما تستغرب له الشعوب الأخرى حتى اشقاؤنا الجنوبيين يلاقونا بأزرع مفتوحة ونتبادل الود صافيا, بالرغم من فظاعة الحرب.
يجب ان نشكر الجنوبيين لأنهم بالرغم من الحرب اللتي فرضت عليهم قبل ثمانية واربعين عاما فلا نرى القنابل في الخرطوم تقتل الأبرياء ولا تخطف الطائرات ولا يقتل الدبلوماسيين كما يعمل الآخرون. وخيرة الرجال الذين قابلت من الجنوبيين.
لقد تعرض الخلق للسلب والنهب في زمن الخليفة وكانت العشور تؤخذ عدة مرات عن البضائع ويقال ان ثلث اهل السودان قد ماتوا بسبب حروب الخليفة والمجاعات. احد اسباب المجاعة هي احضار اعداد هائلة من اهل الغرب إلى امدرمان وكثيرا منهم ضد رغبتهم فقط لأن الخليفة كان لا يثق باولاد البحر. وبنيت صوامع الغلال في طول الطريق لإطعام التعايشة واهل الغرب. وصودرت الغلال من اهل الجزيرة بالرغم من معارضة ودعدلان امين بيت المال والعقل الإقتصادي. لأن المزارعين لن يزرعوا في السنين المقبلة خوفا من المصادرة. ونهب التعايشة كل ما وقع تحت عينهم وتصرفوا كجيش إحتلال. واحتاج عبورهم للنيل ثلاثة ايام متتالية سخرت فيها المراكب والنوتية.
احمد السني كان يفتح المطامير في الجزيرة ياخذ الثلث (للباب) والثلث لنفسه والبقية قد ينهبها اهل الغرب والجهادية والشفاتة مما جعل اهل الجزيرة يعانون من الجوع. واكل الناس حتى جلود العناقريب (عناقريب القد).
وخير الخليفة ود عدلان بأن يصادر ماله والسجن او الموت. ففضل الموت بكل شجاعة وواجه الخليفة وظلمه وعندما اخذ للمشنقة رفض ان يشرب الماء الذي قدم له واخذ حبل المشنقة ووضعه حول عنقه.
من الرجال الذين واجهوا الخليفة وحبه لإهانة الآخرين , محمود الشكري, فعندما طلب منهم الخليفة ان يجروا (يركضوا ) رفض وقال (يا خليفة المهدي الكرعين البتتعلم الجري ما بتقيف). واطلقها مثلا. هذا بالرغم من ان الخليفة قد نكل بالشكرية ووضع الشيخ عوض الكريم ابوسن في الأغلال حتى مات.
كان كثيرا من امراء المهدية وقوادها متصلبين لإنعدام الديمقراطية او الشورى واغلبهم كانوا اناسا عاديين ووجدوا انفسهم فجأة في مركز قوة وهذا ما يحدث للعسكر اليوم.
يخبرنا بابكر بدري كيف قام العامل الشيخ الحاج علي بجلد العالم الأزهري الشيخ محمد صالح في جزيرة كلب بدون اي سبب سوى ان العامل قد اكثر من شرب الدكاي بالرغم من انه انصاري.
وعندما اقترح احمد ابوسن امير اللحويين على الأمير عثمان ازرق في واقعة الجميزة ان يحتمي الأنصار بالجبل حتى يفوتوا على العدو ضربهم بسلاح النار كان رد عبدالحفيظ شمت الذي وافق عليه الأمير عثمان ازرق (الخيل خيل المهدي تموت في سنة المهدي) وفجأة يلقيهم العدو بطلق متحد. ويهرب بابكر بدري والجميع على رأسهم عبدالحفيظ شمت والأمير عثمان ازرق بينما بقي احمد ابوسن خالفا رجله على قربوس حصانه مع المدني مصطفى والطاهر الزغاوي ورجع بابكر بدري طالبا من احمد ابوسن ان يهرب فقال (الخيل خيل المهدي تموت في سنة المهدي).
تحت اي ظروف عندما يترك القرار لفرد نكون معرضين للغلط ولا نزال نعاني من قرارات نميري الخرقاء.
القاضي احمد علي صار قاضي القضاة, وشي به للخليفة وبدون اي دليل سجن ومنع عنه الأكل والماء إلى ان مات جوعا وعطشا وهو ثالث قضاة يفتك به الخليفة مما اضعف هيبة القضاء. وسلم القضاء إلى المرتشين الذين لا يعرفون حتى ابسط قواعد الشريعة.
من اهم القضاة الذين انضموا إلى المهدي في اول ايامه الأزهري اسماعيل عبدالقادر وكان قد تعلم جيدا في القاهرة ونال حظوه كبرى عند المهدي كتب تاريخا قيما يشمل جميع انتصاراته وتاريخ حياته. وطلب الخليفة من الشيخ اسماعيل عبدالقادر ان يكتب عنه وكان الخليفة يتوقع الفاظ الملق والمداهنة والمدح , وفي جملة, مثل الشيخ اسماعيل عبدالقادر, الخليفة بالخديوي اسماعيل باشا. وكان هذا كافيا لأن تحرق كل نسخ الكتاب ويرسل القاضي إلى الرجاف سجينا. كما منع الخليفة استيراد الكتب وعلى هذا كان يعاقب بالجلد والمصادرة والسجن واوقف الخليفة خدمات البريد اللتي كانت منظمة وعطل خدمة التلغراف الذي غطى اغلب السودان منذ 1860 وانهى التعليم الفني بحيث انهارت الصناعة اللتي كانت موجودة واقفلت كل المدارس.
وعندما علم الخليفة أن التجار يدخلون سواكن ويختلطون بالأتراك والمصريين , حرم التجارة الخارجية مما افلس التجار وحرم البلد من العملات الاجنبية لأنه لم يكن هنالك من يشتري الصمغ وريش النعام والعاج, الشمع, السنمكة والتمر هندي......الخ, واختفت الاوعية المعدنية كالنحاس لعدم الإستيراد والحاجة لها للاعمال الحربية. ورجع الناس الى استعمال الفخار.
ارهاب الدولة والتخلص من الآخرين مارسه الخليفة عندما قبض على كل الأشراف من اقرباء المهدي في امدرمان, رفاعة, مدني ,الكاملين, جزيرة الفيل واماكن اخرى, في يوم واحد وساعة واحدة . بابكر بدري يقابل صالح حسن واخاه عبدالقادر حسن وكريب نور الدين وما يربو على المائة شخص في الكاملين وجميعهم مشعبون بشعب العبيد على اعناقهم وهؤلاء كانوا اصحاب المنازل الكبيرة والحشم وخيل (منقودة) بمعنى مختارة واعطاهم بابكر بدري ما عنده من طعام وابكاه حالهم.
أرسل الأشراف إلى فشودة إلى الزاكي طمل وجلدوا بأغصان الشوك حتى الموت وسلم ابناء المهدي لجدهم احمد شرفي ومنع اتصالاتهم بأي شخص.
الزاكي طمل واجه مصيرا اسوأ فلقد خاف الخليفة من ارتفاع اسهم الزاكي الذي كان عادلا بمقاييس ذلك الزمان وكان يمنع جنوده من نهب الناس ولهذا اطلق المثل السوداني (الزاكي عدل والجداد قدل). ووضع الزاكي في غرفة مطوبة وكانت العقارب تلقى عليه ومنع منه الماء والأكل ولم يسمع منه اي صوت أو انة, فقط حشرجة الموت بعد عشرين يوما.
بنات واخوات سلطان دارفور واهل بيته قبض عليهم وارسلوا إلى امدرمان امثال البرنسيسة مريم , آسيا وبخيتة واعطاهم الخليفة إلى امرائه ورجال قبيلته كحسين وكنونه وعندما طلب منهم ان يتبعوا ازواجهم إلى الرجاف القت بخيتة بنفسها في النيل. وماتت والدتها العمياء حزنا والاخريات وزعوا على رجال الخليفة.
حتى الخليفة شريف اعتقل ولم يعطي فرصة لكي يلبس حذائه وجر حافيا ودفع حتى سقط مرتين في طريقه إلى السجن.
زوجات الزاكي وجواريه وزعن على رجال الخليفة وكانت زوجته البيضاء من نصيب عبد القادر او سلاطين وعندما يكون الخليفة غاضبا عليه يناديه (بشواطين).
الأمير ابوقرجة قائد سلاح المدفعية وكما قال العبيد ود بدرمهددا المك صالح (باكر يجي ابوقرجة وتقيف الهرجة) وله القدح المعلى في الحصار وفتح الخرطوم. ارسل في مهمة وهمية للرجاف حيث اعتقل ووضع في القيود ولم ينقذه سوى احتلال البلجيك للرجاف وسلموه للانجليز ومات بعد الفتح الانجليزي.
مادبو الفارس المغوار الذي هزم سلاطين في معركة ام ورقات وفتح دارفور لصالح المهدية يقتله ابوعنجة في ايام الخليفة لان ابوعنجة لم ينسى ان مادبو قد جلده عندما كان عبدا قبل ان يلتحق بخدمة الزبير باشا مع رابح والنور عنقرة وآخرين. ويرسل رأس البطل مادبو الى الخليفة ويهان الرزيقات. مادبو كان يضحك في وجه جلاديه.
الخليفة كان لا يحب الر جال الاقوياء ويجمع حوله من لا يعارضه ويتملقه وكان في مجلسه لا يسمح لاي انسان الا بالجلوس على الارض ولا يسمح للامراء حتى بالتحدث بدون اذن ولا يرفع اي شخص بصره للخليفة .
احد الشوام الذين اسلموا بالقوة كان احولا كاد ان يفقد رأسه لان الخليفة ظن انه ينظر اليه بالخطأ في الجامع.
وعندما يرسل الخليفة رسوله الى اي شخص يقف الرسول امامه ويصفق وينقلب جاريا ويتبعه الشخص المطلوب مهرولا بغض النظر عن مشغوليته او عدم ملائمة الوقت وهذا كان ينطبق على كبار موظفي دولة الخليفة كأولاد هاشم والشيخ بانقا والسيد المكي و مدثر الحجاز وبعض هؤلاء اقفل الباب في وجه رسول الخليفة عندما طلب الخليفة مرافقته الى الغرب بعد معركة امدرمان
شوقي
shawgibadri@hotmail.com